«مشكاة».. فتاة سودانية تتحدى مآسي الحرب وويلات النزوح
«مشكاة».. فتاة سودانية تتحدى مآسي الحرب وويلات النزوح
اضطرت مشكاة في يونيو 2023، لمغادرة منطقة الحلفايا، شمالي العاصمة السودانية الخرطوم؛ إثر وطأة القتال العنيف.
غادرت مشكاة، المدينة التي قضت فيها سنوات حياتها ونشأتها، فتشكّلت فيها معالم طفولتها وصداقاتها الأولى.
في عامها الثالث عشر أدركت الفتاة التي عرفت سابقا بالمرح أنّ غيمة من البؤس ستظلّل حياتها في مقبل الأشهر، وربما الأعوام، شأنها وملايين الأطفال ممن دهمتهم حرب السودان وانتزعتهم من مسقط رأسهم بغتة؛ دون أن يعلموا شيئاً عن خلفيات العنف وأسباب الدمار، ودون أن تسعفهم الأقدار فائض الوقت والمعرفة للإجابة عن السؤال: إلى أين تمضي بهم الخطى وكيف سيتقاذفهم المصير؟.
كل ما تدركه مشكاة الآن أنّها باتت خارج الديار التي لم تألف سواها وطناً في الكون، خارج منطقة الأمان التي اعتادت عليها.
حتى رحلتها، معيّة ذويها، نحو مدينة عطبرة بولاية نهر النيل، لم تكن كما تتمناها، إذ حفّتها الكثير من المخاطر، واكتنفها جملة من الصعاب، بيد أنّ طاقة الصغيرة وعزيمتها تبدو على الدوام أكبر من سنوات عمرها القليلة.
تجلس مشكاة تحت عمود الإنارة في السوق الكبير بالمدينة الصناعية الأشهر في البلاد، بعدما اتخذتها وأسرتها ملجئاً وملاذا.
تفترش الأرض وتلتحف السماء
تفترش مشكاة الأرض وتحتها بعض الكرتون، وتسترجع ذكرى الأيام الأليمة التي لم تنطو بعد، وبنبرة مكتنزة بالثقة تروي حكايتها لـ"جسور بوست": "اعتدت الحضور إلى هنا للمذاكرة طوال الأشهر الماضية. كنت أجلس هكذا وأستجمع طاقة الإصرار عندي.
أقول لنفسي إنّ التعليم يفيد فى تنمية المجتمع، ولا شيء سيحول بيني وإكمال مسيرتي.. حلمي سيصبح حقيقة".
سألناها لماذا اختارت هذا المكان بالتحديد، فقالت: "ليس لدي خيارات كثيرة، أنا هنا أراجع دروسي بالكهرباء المجانية في الشوارع، لأنّ المدرسة التي اتخذناها مقراً للسكن وداراً للإيواء لا تتوفّر فيها الكهرباء".
وتسترسل: "فى البداية كنت أسكن في إحدى داخليات الطالبات، وعندما صدرت الأوامر بإخلاء المكان، انتقلنا إلى مدرسة (نهر عطبرة)، كنت أجلس على الكرتون وأبحث عن مصدر للضوء لمراجعة دروسي، عند إطفاء أضواء الإنارة في الشوارع، أعود لأجلس بجوار الحمامات في المدرسة، وأحياناً أحمل معي كشافاً لإكمال واجباتي".
وتدخلت نعمة بابكر هجو الشيخ، والدة مشكاة؛ لتعيد ترتيب الرواية على لسانها، حيث قالت المرأة الأربعينية التي حفر الزمن على محياها سمت الحزن وكساها بعض المهابة: "بسبب ظروف الحرب والضغوطات النفسية أصبحنا غير آمنين، فنزحنا إلى ولاية نهر النيل، صوب مدينة عطبرة".
يذكر أنّ المدارس والعديد من المنشآت الحكومية الأخرى في ولايات البلاد الآمنة -ومن بينها ولاية نهر النيل- درجت على استضافة ملايين النازحين الفارين من ويلات الحرب طوال الأشهر المنصرمة من عمر الصراع.
وتمضي تصاريف الحياة بهؤلاء في منفاهم الإجباري في انتظار توفيق أوضاعهم والإجلاء وفقاً لترتيبات حكومية منتظرة.
المدارس تحولت لدور إيواء
ووفقاً لتقديرات أممية، هناك 2600 مدرسة -أي نحو 13 في المائة من إجمالي المدارس في البلاد- تُستخدم دور إيواء، مما يعقِّد الجهود الرامية لتوفير بيئات تعليمية آمنة ومستقرة.
من جهتها، تشكو لجنة المعلمين السودانيين من تأثيرات الحرب المباشرة وغير المباشرة على أكثر من 6000 مدرسة تقول إنها ما عادت صالحة للتعليم بصورة كلية أو جزئية؛ إما بسبب القصف المباشر، أو إثر تحويلها لثكنات عسكرية، أو جراء تحويلها لمراكز إيواء وباتت اليوم بحاجة إلى معالجات حتى تعود إلى البيئة التعليمية.
وبسبب تكدّس المدارس بالنازحين الفارين من جحيم الحرب وانتشار الكوليرا والوبائيات، تأخر العام الدراسي الجديد في العديد من ولايات البلاد، لكن التلاميذ والطلاب في كسلا، شرقي البلاد، عادوا إلى مقاعد الدراسة خلال الأسابيع الماضية، رغم وجود الآلاف من النازحين في حوالي 29 مدرسة بالولاية، ورغم انتشار وباء الكوليرا وحمى الضنك وأمراض الخريف الأخرى.
وتقول الجهات الحكومية، إنّ السلطات الصحية اتخذت بعض الإجراءات الاحترازية وحملات الرش بالمبيدات وصيانة دورات المياه أعقاب موسم الأمطار، قبل منح الضوء الأخضر لفتح المدارس.
مشاكل صحية في ظل النزوح
وفي سياق أمراضها الخاصة تروي نعمة، والدة مشكاة، مأساة أنجالها: "شقيقتا مشكاة تعانيان من مرض القلب، وواجهتنا مشاكل كثيرة تتصل بظروف الحياة القاسية وشحّ فرص العمل والضغوطات".
وتستلم مشكاة دفّة الحديث من والدتها لتقول: "أنا أيضاً لديّ مشكلات في التنفس جراء مرض الأزمة، وأمراض تتصل بفقر الدم، ووالدنا هو الآخر يُعاني من عدم انتظام ضربات القلب".
تحت إصرار مشكاة تم تسجيلها وأخواتها في مدرسة (ذات النطاقين)، تقول نعمة إنّ بناتها كنّ يذهبن إلى المدرسة بالعباءة، لأنّهن لا يملكن المال الكافي لشراء الزي المدرسي، ولكن المدرسة جادت عليهم بالزي والكتب".
وطبقا لـ"يونيسف"، فإنّ جيلاً كاملاً من الأطفال في السودان تعصف به أسوأ أزمات التعليم على مستوى العالم، جنبا إلى جنب أكبر أزمة نزوح للأطفال في العالم.
ولا يُعزى الأمر برمته لكارثة الصراع وحدها، إذ أن نحو 7 ملايين طفل كانوا خارج المدرسة بالفعل قبل اندلاع القتال، بفعل الفاقة وعدم الاستقرار، لكن البلاد التي كانت تكافح للخروج من ربقة الجهل نأت بأعباء حربية جديدة لتعبد طريقا سريعا للتشرّد، وتطل على مستقبلها من كوّة الضياع بعد انتزاعها ملايين إضافية من مدارسهم عنوةً.
وبحسب الإحصاءات الدولية فإن أكثر من 90 في المائة من أطفال البلاد -أي أكثر من 17 مليون طفل- خارج الصفوف الدراسية اليوم، من جملة 19 مليون يافع كان الأجدر أن تكتظ بهم مقاعد الدرس، لكنهم أضحوا في عهدة المنافي وملاذات النزوح.
تصاعد مآسي الأسرة
كانت مآسي الأسرة تتصاعد كلما اقتربت مواعيد الإمتحانات، وباتت رحلات النزوح معتادة؛ من المسجد إلى الدّاخلية إلى فناء المدرسة.
وتسرد نعمة قائمة البيوت والمقار التي استضافتهم منذ اللحظات الأولى في نزوحهم الاضطراري: "في البداية كنت أسكن مع أحد الأقارب، ثم استضافتنا أسرة لمدة ثلاثة أيام، انتقلنا إلى زاوية المطبعجي، ثم مسجد أبو زيد الذي أقمنا فيه زهاء الشهر، قبل انتقالنا إلى داخلية الطالبات، سبق وأن سكنا فى الشارع بالقرب من مكب النفايات".
كانت مشكاة مهمومة إبّان مشقّة الترحال هذه بهاجس آخر، فمن أين لها أن تحصل وشقيقاتها على مبلغ خمسة آلاف جنيه -أقل من دولارين بقليل- لإعداد وجبة الإفطار والمواصلات يومياً؟ وكيف لأسرتها أن تتدبر مثل هذه النفقات؟ تقول اليافعة المثابرة: "لو كان لدينا فائض مصاريف لاشترينا بخاخ لعلاج الأزمة التي نعاني منها جميعاً، لدينا بخاخ واحد يتبادل استخدامه كافة أفراد الأسرة".
الذهاب للمدرسة مشيا على الأقدام
ولتلافي تكلفة المواصلات اضطرت مشكاة في كثير من الأحيان الوصول إلى المدرسة على قدميها، حتى وإن طالت المسافة التي تتغير كل مرة جراء النزوح المتواصل.
ظلت دورة المصاعب تحيط بحياة مشكاة وأسرتها، للصغيرة عزمٌ لا يلين، هيأت نفسها للامتحانات وأعدّت عدّتها للتفوق، وعندما أعلنت وزارة التربية والتعليم بولاية نهر النيل، قبل أيام نتيجة امتحانات الشهادة الابتدائية للعام الدراسي الحالي كانت أسرتها تتحلق حول المذياع لمعرفة النتيجة وأسماء المتفوقات.
بالكاد أخطأتها قائمة الشرف الأولى، لكن اسم مشكاة حمد بابكر تردد لاحقاً مقرونا بنسبة النجاح (268) درجة.
تقول والدتها نعمة: "أحرزت درجة نجاح تتحدّى ظروفها، لكننا تمنينا أن تحرز الدرجة الكاملة".
ترفع رأسها بالتعليم
بين يديّ فرحتها ناشدت نعمة الآباء والأمهات بالوقوف خلف الأبناء وتقديم السند والدعم اللازمين، لأنّ التعليم مهم، "ولأننا رغم كل شيء نرفع رأسنا بنجاحهنّ وتفوقهنّ".
أما مشكاة فتقول: "كنت أتمنّى أن أحرز المجموع الكامل لكن الحرب والنزوح من ولاية إلى أخرى والسكن في دور الإيواء أخذ بعضاً من طاقتي".
تحمد الصغيرة ربّها على كل شيء، ولا تنسى في غمرة أفراحها أن تنسب الفضل لكلّ من دعمها وشدّ من أزرها، مادياً ومعنوياً. أزجت تحيّة خاصّة إلى أسرة مدرسة ذات النطاقين، ثم ختمت إفاداتها لـ"جسور بوست"، قائلة: "أتمنّى أن يعمّ السلام ربوع بلادي وأن نعود للحلفايا سالمين، وأواصل مسيرتى التعليمية في أجواءٍ أكثر أماناً واستقراراً".