قضايا حقوقية هزًّت العالم.. كيف اختبر عام 2024 التزام المجتمع الدولي بالحريات؟
قضايا حقوقية هزًّت العالم.. كيف اختبر عام 2024 التزام المجتمع الدولي بالحريات؟
شهد عام 2024 سلسلة من القضايا الحقوقية التي شغلت الرأي العام العالمي، متصدرة النقاشات حول العدالة، وحرية التعبير، وحقوق الإنسان.
من الاعتقال المثير للجدل لمؤسس تليغرام بافيل دوروف، إلى احتجاز الناشطة الإيرانية نرجس محمدي، وامتداد الأزمات الحقوقية الأخرى، أثارت هذه الأحداث اهتمامًا عالميًا وتحديات متزايدة للمعايير الدولية لحقوق الإنسان.
بدأت السنة باعتقال بافيل دوروف، رجل الأعمال ومؤسس تطبيق تليغرام، في فرنسا، وتمحورت الاتهامات التي وُجهت لدوروف حول عدم امتثال شركته للقوانين الأوروبية المتعلقة بمكافحة المحتوى المتطرف عبر الإنترنت.
يعتبر تليغرام منصة رئيسية للتواصل، ويستخدمه نحو 900 مليون شخص عالميًا، ما يضع الشركة تحت ضغط هائل لتحقيق توازن بين حرية التعبير ومراقبة المحتوى. وفقًا لتقرير صادر عن "الاتحاد الأوروبي لمراقبة التكنولوجيا الرقمية".
وشهد عام 2024 زيادة بنسبة 18% في استخدام التطبيقات المشفرة مثل تليغرام في نشر معلومات غير قانونية، لكن النقاد يؤكدون أن تحميل دوروف شخصيًا مسؤولية هذا الاستخدام يمثل تجاوزًا للمعايير القانونية التقليدية.
أثارت هذه القضية قلقًا واسعًا حول كيفية تعامل السلطات مع عمالقة التكنولوجيا، والحدود التي يمكن أن تفرضها الحكومات على الشركات التقنية.
من جهة أخرى، احتجزت السلطات الإيرانية، الناشطة نرجس محمدي، الحائزة جائزة نوبل للسلام، قبل أن يتم الإفراج عنها مؤقتا لظروف طبية، وسط إدانة دولية واسعة محمدي، التي سُجنت منذ نوفمبر 2021، عُرفت بدفاعها عن حقوق المرأة ومعارضتها للحجاب الإجباري، إضافة إلى نشاطها المناهض لعقوبة الإعدام.
في يونيو 2024، تلقت حكمًا جديدًا بالسجن لمدة عام، يضاف إلى أحكام سابقة بلغ مجموعها 12 عامًا وثلاثة أشهر. تعكس قضيتها وضع حقوق الإنسان في إيران، حيث تُظهر بيانات منظمة العفو الدولية أن أكثر من 75% من النساء المسجونات في البلاد يعانين من ظروف احتجاز سيئة، تشمل الحرمان من الرعاية الصحية والتعذيب النفسي.
وعززت قضية محمدي المطالب الدولية بالضغط على إيران لتحسين سجلها الحقوقي، خاصة مع استمرار الاحتجاجات الشعبية ضد القيود المفروضة على المرأة.
نزوح الملايين
على صعيد اللاجئين، استمر نزوح الملايين نتيجة النزاعات المسلحة والكوارث الطبيعية، مما جعل أزمة اللاجئين من أكثر القضايا الحقوقية إلحاحًا هذا العام وفقًا لتقرير صادر عن مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في يوليو 2024، تجاوز عدد النازحين قسرًا عالميًا 111 مليون شخص، بزيادة قدرها 4 ملايين مقارنة بعام 2023.
وتسبب النزاع في السودان وحده بنزوح 3.5 مليون شخص داخليًا وفرار أكثر من مليون لاجئ إلى الدول المجاورة. في أوروبا، تزايدت التوترات السياسية بشأن الهجرة، مع استمرار ارتفاع أعداد اللاجئين الذين يعبرون البحر المتوسط، حيث قُدرت الوفيات هذا العام بأكثر من 3,000 شخص، وفقًا لتقارير منظمة الهجرة الدولية. سلطت هذه الأزمة الضوء على العجز في الاستجابة الدولية وغياب حلول دائمة تحترم كرامة وحقوق اللاجئين.
وفي ما يتعلق بالعدالة المناخية، تزايدت الكوارث البيئية هذا العام، ما أضاف بُعدًا حقوقيًا جديدًا للأزمة المناخية، حيث أظهر تقرير صادر عن "برنامج الأمم المتحدة للبيئة" في سبتمبر 2024 أن الكوارث الطبيعية شردت أكثر من 25 مليون شخص، مع ارتفاع ملحوظ في معدلات الفقر والأمراض في المناطق المتأثرة.
وكانت الفيضانات في باكستان والجفاف في القرن الإفريقي مثالين بارزين لهذه الكوارث، حيث عانى أكثر من 60% من سكان المناطق المتضررة من نقص المياه والغذاء، بحسب تقديرات البنك الدولي.
ويُبرز هذا الوضع الحاجة الملحة لتعزيز جهود التكيف مع تغير المناخ، خاصة في الدول النامية التي تتحمل العبء الأكبر للأزمة رغم مسؤوليتها الضئيلة عنها.
وأثارت قضية العنف الجنسي ضد النساء في الهند، ضجة كبيرة هذا العام كشفت بيانات المجلس الوطني لحقوق الإنسان أن تقارير الاعتداء الجنسي ارتفعت بنسبة 14% مقارنة بالعام السابق، مع تسجيل أكثر من 40,000 حالة اغتصاب. إحدى الحالات التي هزت الرأي العام كانت اغتصاب فتاة في ولاية أوتار براديش، مما أدى إلى احتجاجات واسعة طالبت بتعزيز العقوبات وتحسين حماية الضحايا. تعكس هذه الأرقام عجز الحكومة عن معالجة جذور المشكلة، رغم محاولات تعديل القوانين وزيادة التمويل لبرامج التوعية.
في ميانمار، استمرت أزمة الروهينغا في تصدر العناوين تقرير أصدرته الأمم المتحدة في أغسطس 2024 أكد أن أكثر من 1.2 مليون من اللاجئين الروهينغا يعيشون في ظروف قاسية في مخيمات ببنغلاديش، مع معاناة 45% منهم من سوء تغذية حاد.
وكان نقص التمويل الدولي أحد أبرز التحديات، حيث أشار تقرير لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية إلى أن برامج المساعدة تلقت أقل من 50% من التمويل المطلوب، ما أدى إلى تدهور الأوضاع الإنسانية. يعكس هذا الإهمال الدولي استمرار التمييز ضد الأقليات العرقية والدينية حول العالم.
وفي لبنان، بخلاف العدوان الإسرائيلي فقد استمر الانهيار الاقتصادي في التسبب بانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، وارتفع معدل الفقر إلى أكثر من 60%، بحسب تقرير البنك الدولي، مع تفاقم أزمة البطالة والتضخم.
ودفعت هذه الظروف العديد من اللبنانيين إلى النزوح أو الهجرة، ما أضاف عبئًا جديدًا على دول المهجر الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت للمطالبة بالإصلاح السياسي ومحاربة الفساد قوبلت بقمع شديد، مع توثيق منظمة هيومن رايتس ووتش لاستخدام مفرط للقوة ضد المتظاهرين، واعتقال مئات الأشخاص.
صراعات متزايدة وإخفاقات دولية
وقالت خبيرة حقوق الإنسان، هالة عهد، إن القضايا الحقوقية التي برزت في عام 2024 عكست صورة معقدة ومتناقضة لتطبيق مبادئ حقوق الإنسان على المستوى الدولي، حيث ظهرت بعض الإنجازات البسيطة، لكنها لم تكن كافية للتغطية على الانتهاكات واسعة النطاق والتراجع في الالتزام بالمعايير الحقوقية الأساسية.
وتابعت عهد، في تصريحات لـ"جسور بوست": أبرز مظاهر الإشكالية الحقوقية هذا العام كانت في استهداف الحريات الأساسية، بما في ذلك حرية التعبير، وحرية التجمع، وحق الإنسان في محاكمة عادلة. في حالة مؤسس تليغرام بافيل دوروف، نجد أن الملاحقة القضائية التي تعرض لها، وإن كانت تحت مبرر قانوني، تُثير أسئلة جدية حول مدى احترام مبدأ الحريات الفردية والحق في الابتكار (المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان).
واسترسلت: قضية استمرار اعتقال الناشطة الإيرانية نرجس محمدي هي من أبرز الأمثلة على القمع المؤسسي الممنهج للمدافعين عن حقوق الإنسان. من منظور حقوقي، يبرز انتهاكها لمبادئ مثل المادة 5 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تحظر التعذيب والمعاملة القاسية أو اللاإنسانية محاكمتها واحتجازها المتكرر يسلطان الضوء على أزمة حقوقية مستمرة في إيران، حيث يُستخدم النظام القضائي كأداة لقمع الأصوات المعارضة.. رغم الجهود الدولية لتسليط الضوء على قضايا الناشطين مثل محمدي، تبقى هذه الجهود غير كافية لتغيير ديناميكيات القمع المؤسسي.
وأكدت أن الأزمة المناخية أبرزت عدم نجاح المجتمع الدولي في ضمان العدالة البيئية كحق إنساني، مشيرة إلى أن مبدأ حق الإنسان في مستوى معيشي لائق (المادة 25 من الإعلان العالمي) تعرض للانتهاك بشكل كبير في العام 2024 نتيجة الكوارث البيئية المتكررة. حيث لم تلببي الحكومات، وخاصة في الدول النامية، الاحتياجات الأساسية للمجتمعات المتضررة، مثل الغذاء والماء والإيواء،
وذكرت أن أزمة اللاجئين العالميين تعكس أزمة أخرى في الالتزام بالمواثيق الدولية، حيث يؤكد ارتفاع عدد اللاجئين إلى مستويات قياسية مع استمرار النزاعات المسلحة الفشل السياسي الدولي في حل النزاعات. مؤكدة أن مبدأ عدم الإعادة القسرية (المادة 33 من اتفاقية جنيف لعام 1951) تعرض لانتهاكات عديدة، خاصة في أوروبا، حيث لجأت بعض الدول إلى سياسات ردع قاسية تنتهك كرامة اللاجئين. هذا التوجه يشير إلى التراجع عن الالتزام بروح التضامن الإنساني التي يجب أن تحكم سياسات الهجرة.
وأتمت: بشكل عام، العام 2024 كان عامًا صعبًا لحقوق الإنسان، حيث طغت المصالح السياسية والاقتصادية على المبادئ الحقوقية، مما يجعل الحاجة إلى تعزيز الالتزام بالمواثيق الدولية أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. لقد أظهر العام ضرورة إعادة تقييم الآليات الدولية لمراقبة الانتهاكات وتعزيز العمل الجماعي لضمان العدالة والكرامة للجميع.
قوانين دولية وانتهاكات
وقال خبير القانون الدولي، كمال يونس، إنه في عام 2024، كان المشهد الحقوقي العالمي انعكاسًا لتوترات قانونية وتشريعية متزايدة أثرت بشكل مباشر على التوازن بين احترام حقوق الإنسان والسياسات الحكومية من منظور تشريعي، تُظهر هذه القضايا تحديات مستمرة في تنفيذ الالتزامات الدولية بموجب المعاهدات والاتفاقيات الحقوقية، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وتابع يونس، في تصريحات لـ"جسور بوست"، شهد العالم استمرار استخدام التشريعات الوطنية لتقييد حرية التعبير والتجمع، ما يتعارض مع المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، التي تضمن الحق في التعبير بحرية. وبررت العديد من الدول هذه الإجراءات بدواع أمنية، دون تقديم ضمانات كافية تحمي حقوق الأفراد أو توفر سبل انتصاف قانونية فعالة في بعض الحالات، كانت القوانين المحلية نفسها تمثل انتهاكًا واضحًا للالتزامات الدولية، مثل توسيع نطاق قوانين مكافحة الإرهاب لتجريم النشاط السلمي أو المعارضات السياسية.
وقال يونس، إن قضايا مثل احتجاز النشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان دون محاكمة عادلة تسلط الضوء على فشل بعض الأنظمة القضائية في احترام المعايير الدولية، حيث تنص المادة 9 من العهد الدولي على الحق في الحرية والأمان الشخصي، مع التأكيد على عدم جواز الاحتجاز التعسفي ومع ذلك، تُظهر التقارير أن محاكمات جائرة وعقوبات قاسية كانت شائعة في العديد من البلدان، بما في ذلك تلك التي تُعتبر ديمقراطيات مستقرة، مما يشير إلى اتجاه مقلق نحو تآكل الضمانات القانونية الخاصة بالمساواة وعدم التمييز التي تُعزَّز في الاتفاقية الدولية.
وأضاف: استمرت قضايا اضطهاد الأقليات العرقية والدينية في أماكن مثل ميانمار وإثيوبيا، مع ضعف واضح في الاستجابة القانونية الدولية، بينما برزت بعض المبادرات الإيجابية، مثل تعزيز القوانين المحلية لحماية حقوق المرأة، فإن التنفيذ غالبًا ما كان ضعيفًا، مما أبقى هذه الفئات عرضة للانتهاكات.
وذكر يونس أن العمل القسري وظروف العمل غير الإنسانية شكلا تحديًا عالميًا، لا سيما في دول ذات صناعات تعتمد على العمالة الوافدة، يخالف هذا الممارسات المنصوص عليها في اتفاقيات منظمة العمل الدولية، مثل الاتفاقية رقم 29 بشأن العمل الجبري.. وعلى الرغم من التقدم في بعض البلدان بسن تشريعات تحد من هذه الانتهاكات، فإن التنفيذ والرقابة كانا دون المستوى المطلوب، حيث لا تزال المسؤولية القانونية للشركات الكبرى في سلاسل التوريد الدولية مسألة تتطلب إصلاحًا تشريعيًا عميقًا لتعزيز مبدأ المساءلة.
وتابع: كذلك الحق في بيئة نظيفة ومستدامة، الذي يتداخل مع المادة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بشأن الحق في مستوى معيشي لائق، كان أيضًا محورًا للنقاش في 2024. حيث تفاقمت الانتهاكات البيئية بسبب ضعف الأطر القانونية الوطنية أو التواطؤ بين السلطات الحكومية والشركات الكبرى. ورغم أن بعض المحاكم الوطنية أصدرت أحكامًا تاريخية تُحمِّل الحكومات المسؤولية عن تقاعسها في مواجهة تغير المناخ، فإن غياب آليات دولية قوية لإنفاذ القوانين البيئية يظل عائقًا رئيسيًا.
وأتم: يكشف الوضع الحقوقي في 2024 عن الحاجة الماسة إلى تطوير الأطر القانونية الوطنية والدولية. حيث يجب تعزيز الالتزام بمعايير حقوق الإنسان من خلال آليات إنفاذ مستقلة وفعالة تُلزم الدول والشركات على حد سواء. ويتطلب ذلك شراكة بين الحكومات والمجتمع المدني والمنظمات الدولية لتحقيق العدالة واستعادة الثقة في النظم القانونية كحامية أساسية للكرامة الإنسانية.