2024.. عام التراجع العالمي للحريات الإعلامية تحت وطأة التشريعات المقيدة
2024.. عام التراجع العالمي للحريات الإعلامية تحت وطأة التشريعات المقيدة
شهد عام 2024 تراجعًا واضحًا في الحريات الإعلامية والصحفية على مستوى العالم، متأثرًا بمزيج من الضغوط السياسية والأزمات الاقتصادية والتحولات الرقمية، التي أعادت تشكيل البيئة الإعلامية بطريقة أكثر هشاشة.
وفقًا لتقرير "مراسلون بلا حدود"، فقد تراجع مؤشر حرية الصحافة في 62% من البلدان التي شملها التقييم خلال 2024، وبرزت مناطق النزاع كنقاط ساخنة لانتهاكات الصحفيين، حيث تم توثيق أكثر من 560 حالة اعتداء مباشر على الصحفيين في هذه المناطق، بزيادة تقارب 12% على العام السابق، وعلى الرغم من التحسن النسبي في بعض البلدان، فإن الاتجاه العالمي يشير بوضوح إلى تدهور الحريات الصحفية.
في أوروبا الغربية، التي تعتبر عادة معيارًا للحريات الإعلامية، سُجلت حالات لافتة من التراجع، حيث أظهرت بيانات التقرير انخفاضًا في مؤشر الاستقلالية الإعلامية بمقدار 4.3 نقطة في ألمانيا وفرنسا، نتيجة للضغوط الاقتصادية التي دفعت المؤسسات الإعلامية إلى الاعتماد بشكل أكبر على الإعلانات الممولة من الشركات الكبرى. هذه الديناميكيات أثرت على تغطية القضايا الحساسة مثل التغير المناخي والحقوق العمالية، ما أثار تساؤلات حول استقلالية الصحافة في تلك الدول.
في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، استمر الوضع الحرج لحرية الصحافة، حيث توثقت انتهاكات واسعة ضد الإعلاميين في البلدان التي تشهد نزاعات داخلية. في اليمن، على سبيل المثال، سجلت 83 حالة اعتداء موثقة ضد صحفيين خلال النصف الأول من العام، تشمل الاعتقال التعسفي والتهديد بالقتل، وفقًا لتقرير منظمة العفو الدولية.
أما في فلسطين، فقد تضاعفت الانتهاكات الموجهة ضد الصحفيين المحليين، مع تصاعد استهداف وسائل الإعلام التي تغطي الصراع المستمر في غزة والضفة الغربية. وكشفت تقارير حقوقية عن 27 هجومًا استهدف مكاتب إعلامية خلال عمليات عسكرية، ما دفع العديد من المؤسسات إلى العمل في ظروف غير آمنة.
أما في آسيا، فقد شكلت الهند حالة بارزة، حيث تم توثيق ارتفاع في عدد الصحفيين المحتجزين إلى 22 صحفيًا بحلول ديسمبر 2024، ما يجعلها واحدة من أكثر الدول تضييقًا على الإعلام في المنطقة. ومن جهة أخرى، أثار قانون الإعلام الجديد في هونغ كونغ، الذي أقر في مارس، جدلًا واسعًا، حيث وصفته منظمات حقوقية بأنه خطوة إضافية لتقييد حرية التعبير في ظل الهيمنة الصينية المتزايدة، وفي الصين، وُثقت حالات موسعة من الرقابة الإلكترونية وإغلاق المنصات الرقمية المستقلة، ما يعكس توجهًا صارخًا نحو تشديد السيطرة على الإعلام الرقمي.
وفي الولايات المتحدة، ورغم أنها تحتل مركزًا متقدمًا نسبيًا في مؤشر حرية الصحافة، فإن العام الحالي شهد تحولات مثيرة للقلق، حيث أفادت دراسات بأن 47% من الصحفيين تعرضوا لمحاولات ترهيب عبر الإنترنت، وهي نسبة تشكل قفزة مقارنة بالعام الماضي، بالإضافة إلى ذلك، واجه الصحفيون الذين يغطون احتجاجات الحقوق المدنية تضييقًا واضحًا من قبل السلطات، بما في ذلك الاعتقالات التعسفية والمصادرة المؤقتة للمعدات الصحفية.
وتضيف التحولات الرقمية التي تعصف بالمشهد الإعلامي طبقة جديدة من التحديات، حيث أصبح الإعلام الرقمي أكثر تعرضًا للضغوط الاقتصادية بسبب سيطرة المنصات الكبرى مثل "ميتا" و"غوغل" على عائدات الإعلانات.
وتشير إحصائيات "معهد رويترز لدراسة الصحافة" إلى أن أكثر من 60% من المؤسسات الإعلامية الرقمية تعتمد بشكل رئيسي على الإعلانات، ما يجعلها عرضة لتقلبات السوق وضعف الاستقلالية التحريرية. على الجانب الآخر، تسهم منصات التواصل الاجتماعي في انتشار الأخبار المضللة، حيث وجدت دراسة حديثة أن الأخبار المزيفة زادت بنسبة 18% خلال العام الجاري، مع تراجع قدرة الصحافة المستقلة على مواجهتها بسبب القيود المالية والبشرية.
وفي العالم العربي، شهد الإعلام الرقمي نموًا ملحوظًا، لكنه يواجه نفس المشاكل المتعلقة بالتمويل. ففي لبنان، على سبيل المثال، سجلت المؤسسات الإعلامية الرقمية نموًا بنسبة 24% في عدد المستخدمين، إلا أنها تعتمد بشكل كبير على تمويل خارجي غير مستدام وأدى ذلك إلى إغلاق العديد من المواقع الإخبارية المستقلة أو تقليص عملياتها بشكل كبير، وعلى الرغم من ذلك، لا يزال الإعلام الرقمي يوفر متنفسًا نسبيًا في مواجهة الأزمات السياسية والاقتصادية، حيث بات منصة رئيسية لمناقشة قضايا حساسة لا تُغطى في الإعلام التقليدي.
وعلى المستوى القانوني، أظهرت الجهود الدولية لتحسين الحريات الصحفية بطئًا واضحًا، فبينما شهدت بعض الدول خطوات إيجابية، مثل إلغاء عقوبة السجن في قضايا النشر في البرازيل، فإن معظم الإصلاحات كانت سطحية وغير كافية للتصدي للضغوط المتزايدة.
وتشير تقارير إلى أن 72% من الدول لا تزال تفتقر إلى قوانين حماية الصحفيين، ما يجعلهم عرضة للانتهاكات، علاوة على ذلك، فإن نقص الشفافية في التمويل يثير مخاوف بشأن استقلالية الإعلام في مناطق مثل إفريقيا جنوب الصحراء، حيث تعتمد 53% من المؤسسات الإعلامية على دعم حكومي مباشر.
ويرى خبراء، أن هناك فجوة كبيرة بين التصريحات الرسمية والواقع الفعلي في ما يتعلق بحرية الإعلام، مع استمرار استغلال السلطة السياسية للتأثير على المحتوى الإعلامي، وما يفاقم هذا الوضع هو تزايد الاعتماد على التمويل الخارجي في الدول النامية، ما يجعل الإعلام أداة في أيدي القوى الكبرى لتعزيز نفوذها، بدلًا من أن يكون صوتًا حرًا للمجتمعات، ويمكن القول إن عام 2024 يعكس تدهورًا واضحًا في الحريات الإعلامية والصحفية عالميًا، فالضغط السياسي، والأزمات الاقتصادية، والتحولات الرقمية كلها عوامل تسهم في تقليص مساحة الحرية المتاحة للصحفيين.
وفي الوقت نفسه، فإن الجهود الدولية لمعالجة هذه الأزمات لم تكن كافية، ما نحتاج إليه هو نهج شامل يعزز استقلالية الصحافة من خلال إصلاحات قانونية حقيقية، وضمانات تمويل مستدامة، ومساءلة دولية فعالة. الصحافة ليست مجرد وسيلة لنقل الأخبار، بل هي حجر الزاوية في بناء مجتمعات حرة وديمقراطية. وإذا استمر هذا التراجع، فإن الأضرار لن تقتصر على الصحافة فقط، بل ستطال كل مظاهر الحياة المدنية.
قلق متصاعد
أشار الخبير الحقوقي، علي زيد، إلى أن العام الحالي شهد تحديات متصاعدة للحريات الصحفية والإعلامية على مستوى العالم، وسط استغلال واضح للقوانين والتشريعات لتقييد حرية الصحافة تحت ذرائع مختلفة، موضحا أن المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية تؤكد حرية التعبير والصحافة، إلا أن التطبيق العملي لهذه المبادئ يواجه تعقيدات خطيرة.
وذكر “زيد”، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن تعزيز قوانين الجرائم الإلكترونية سمح بمراقبة المحتوى الرقمي، ما فتح الباب لتأويل تعسفي أدى إلى تضييق مساحة حرية التعبير المكفولة دستوريًا، أما في هونغ كونغ، فقد استُخدم قانون الأمن القومي كأداة رقابية مشددة، ما أثار انتقادات دولية واسعة النطاق باعتباره خرقًا واضحًا للعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
وأشار زيد إلى بعض الخطوات الإيجابية مثل إلغاء عقوبة السجن في قضايا النشر في البرازيل، لكنه شدد على أن هذه الخطوات تبقى غير مكتملة ما لم تُعزز بأطر قانونية تحمي الصحفيين من الاعتداءات وتضمن استقلال القضاء. وفي أوروبا، لفت زيد إلى القلق المتزايد من قوانين مثل "الأمن الرقمي" الفرنسي، الذي يُخشى أن يُستخدم لتقييد النقد السياسي تحت غطاء مكافحة التضليل الإعلامي.
وبالنسبة للولايات المتحدة، أوضح الخبير الحقوقي، أن استخدام قوانين التشهير ضد الصحفيين أوجد حالة من الرقابة الذاتية رغم حماية التعديل الأول للدستور لحرية الصحافة، مشيرا إلى أن هذه الإجراءات تعكس استغلالًا قانونيًا يعيق الممارسة الإعلامية الحرة.
وعلى الصعيد الدولي، انتقد زيد غياب إطار قانوني ملزم لحماية الصحافة، مشيرًا إلى أن توصيات المنظمات الدولية، مثل مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، غالبًا ما تُترك دون تنفيذ. وخلص إلى أن الحاجة أصبحت ملحّة لوضع اتفاقية دولية تضمن حماية الصحفيين، وتمنع استغلال قوانين الأمن القومي والتشهير لتقييد الإعلام.
التشريعات.. هل للحماية أم لتقييد الحرية؟
وقال الخبير التشريعي، فهمي قناوي، إن الحريات الإعلامية والصحفية حول العالم على مدار العام تستدعي نقاشًا نقديًا عميقًا من منظور تشريعي، حيث تبرز التحديات القانونية كعامل رئيسي في تشكيل واقع هذه الحريات، وعلى الرغم من التأكيد الدولي على الحق في حرية التعبير والصحافة من خلال أدوات مثل المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة 10 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، فإن التطبيق العملي لهذه المبادئ يشهد تفاوتًا كبيرًا بين الدول، مدفوعًا بتحديات سياسية، واقتصادية، وأمنية.
وتابع قناوي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أحد أبرز الإشكالات القانونية التي برزت هذا العام يتمثل في استخدام قوانين الأمن القومي لتقييد الصحافة، في العديد من الدول، مثل الصين وروسيا، أصبحت قوانين الأمن القومي أداة مباشرة لإسكات الإعلام المستقل، حيث تُستخدم هذه القوانين لتبرير اعتقال الصحفيين وحجب المنصات الإعلامية التي تُعتبر معارضة. يشكل هذا الاستخدام المفرط تحديًا خطيرًا لالتزامات الدول بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي يؤكد ضرورة أن تكون أي قيود على حرية التعبير متناسبة وضرورية لأهداف مشروعة مثل حماية الأمن القومي أو النظام العام.
وتابع: يمثل الاستخدام المتزايد لقوانين مكافحة الأخبار الزائفة تحديًا كبيرًا للحريات الإعلامية، في بعض البلدان مثل مصر وتركيا، أصبحت هذه القوانين غامضة التعريف وتُوظف لمعاقبة الصحفيين الذين ينتقدون السلطات. هذا النهج يتعارض مع المبادئ التي وضعتها لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، التي أوضحت أن القيود المفروضة على حرية التعبير يجب أن تكون محددة بدقة وأن تُستخدم فقط لمنع الأضرار الحقيقية، والقوانين المتعلقة بالتمويل الصحفي تُعد قضية أخرى مهمة تؤثر على استقلالية المؤسسات الإعلامية، في العديد من البلدان النامية، تعتمد وسائل الإعلام بشكل كبير على التمويل الأجنبي، ما يجعلها عرضة للضغوط الخارجية.
وقال قناوي، إنه رغم هذه التحديات، شهد العام بعض التطورات الإيجابية، قامت بعض الدول الأوروبية، مثل النرويج والدنمارك، بتعزيز قوانين حماية الصحفيين، بما في ذلك توفير حماية قانونية للصحفيين ضد المضايقات عبر الإنترنت، مثل هذه الخطوات تمثل استجابة تشريعية تعكس إدراكًا لأهمية البيئة الرقمية ودورها في الإعلام الحديث.
في السياق الإقليمي، قال قناوي، إن القوانين المتعلقة بحرية الإعلام في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تستمر في معاناتها من غياب الإطار القانوني الشامل لحماية الصحفيين. معظم هذه القوانين تركز على تقييد الإعلام أكثر من توفير الحماية. هذا الأمر يتناقض مع المبادئ الواردة في المادة 9 من الميثاق العربي لحقوق الإنسان، الذي ينص على حماية حرية التعبير كحق أساسي.
وأتم، النقطة التي يجب التركيز عليها الآن هي الحاجة إلى إطار قانوني دولي أكثر صرامة ووضوحًا لحماية الصحفيين والمؤسسات الإعلامية. هذا الإطار يجب أن يتضمن آليات إلزامية لمحاسبة الدول التي تنتهك حرية الصحافة، وتعزيز التعاون الدولي لمكافحة الإفلات من العقاب في الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين، بدون هذه الخطوات، ستبقى الحريات الإعلامية عرضة للانتهاك، وسيستمر الإعلام في معاناته تحت وطأة الأطر التشريعية غير العادلة.