ماضٍ قاسٍ ومستقبل غامض.. المحقونون بـ«الإيدز» في ليبيا صراع مع الحقوق بعد 3 عقود من المرض
ماضٍ قاسٍ ومستقبل غامض.. المحقونون بـ«الإيدز» في ليبيا صراع مع الحقوق بعد 3 عقود من المرض
في تسعينيات القرن الماضي، شهدت مدينة بنغازي واحدة من أكبر الكوارث الطبية في تاريخ ليبيا، حيث تم حقن عشرات الأطفال بدماء ملوثة بفيروس نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)، لتتحول حياتهم إلى معركة مستمرة مع المرض ومع واقع صحي واجتماعي قاسٍ، وعلى الرغم من مرور عقود على هذه المأساة، لا يزال هؤلاء الضحايا يعانون من تداعياتها الصحية والعلاجية والحقوقية.
جميلة المغربي، امرأة ليبية وُلدت في مدينة أجدابيا عام 1986، وتنتمي لعائلة تعيش ظروفًا معيشية قاسية، لم تكن تعلم أن حياتها ستنقلب رأسًا على عقب في سن الثانية عشرة، حين دخلت مستشفى الأطفال لإجراء عملية بسيطة في الأذن الوسطى، ومكثت هناك 8 أشهر، خرجت بعدها من المستشفى بجسدٍ مرهق، ولم تكن تعلم أنها تحمل في عروقها فيروس نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)، نتيجة جريمة هزّت ليبيا عُرفت بـ(جريمة حقن الأطفال بالإيدز).
تقول جميلة، بصوت يعتصره الحزن: قبل إصابتي، لم أشعر بطفولتي بسبب ظروفنا المادية الصعبة، وبعد إصابتي أصبح الحزن والخوف جزءًا من يومي، وكانت الأخبار تنتشر سريعًا في مجتمعنا الصغير، وما إن عُرف خبر إصابتي حتى بدأت معاناة جديدة مع الوصم والتمييز، واجهت المضايقات والتنمر من زميلاتي في المدرسة وحتى من بعض المعلمين، ما أجبرني على ترك الدراسة والانقطاع عنها لمدة عامين.
كانت جميلة تمتلك عزيمة من نوع خاص، فعادت إلى مقاعد الدراسة، متنقلة بين المدارس، تحاول إخفاء هويتها خوفًا من أن تُعرف بأنها “الفتاة المصابة بالإيدز”، تقول: “عشت طفولة مليئة بالخوف والرهبة، كنت أحاول الهروب من ماضيّ ومن نظرات الناس".
وعندما وصلت إلى مرحلة الثانوية، كان حلم جميلة أن تصبح طبيبة، أرادت أن تُنقذ الأرواح وتُعطي لحياتها معنى جديدًا، لكن حين تقدمت لكلية الطب، طُلب منها إجراء تحليل الخلو من الإيدز، لكنها بجرأة اعترفت بأنها من ضحايا جريمة الحقن، فكان الرفض قاطعًا، تقول بأسى: “شعرت وكأن العالم بأسره تآمر ليحطم أحلامي".
لم تستسلم جميلة، والتحقت بتخصص المختبرات الطبية، وتخرجت منه، لكنها اكتشفت أن وصمة المرض تطاردها حتى في مجال عملها، كلما تقدمت للتدريب أو البحث عن وظيفة كانت تواجه الرفض بسبب مرضها، معتبرة أن الجهل بكيفية التعامل مع مرضى الإيدز كان السبب، حتى في القطاع الصحي الذي من المفترض أن يكون أكثر وعيًا.
رغم الجراح، قررت جميلة أن تقلب صفحة جديدة في حياتها، بدأت تتحدث عن مرضها علنًا عبر وسائل الإعلام، تقول: لماذا أبقى أسيرة الخوف بينما العالم يتحرك؟ قررت أن أواجه مجتمعي وأجعل الناس يتقبلونني كما أنا.
التطوع بالهلال الأحمر
انضمت جميلة للهلال الأحمر الليبي، حيث تطوعت لمدة 12 عامًا وأثبتت جدارتها في مجال التوعية، حصلت على شارة القائدة، وبدأت في تقديم محاضرات توعوية حول الإيدز، مستهدفة كسر الحواجز والوصم المحيط بالمرض، ورغم الانتقادات تقول جميلة: “دفعت ثمنًا غاليًا بسبب ظهوري الإعلامي، لكنني لست نادمة، فقضيتي تستحق ذلك".
وعن وضعها الصحي، تقول إن العلاج الذي تحصل عليه يجعل الفيروس غير قابل للكشف في الدم، ما يجعل احتمال نقل العدوى شبه معدوم، لكن هذا العلاج ليس دائم التوفر والعلاج يُجلب من الخارج، وأي أزمة سياسية أو اقتصادية تؤثر فيه، أحيانًا أضطر لشرائه على حسابي الخاص، وهو باهظ الثمن.
وإلى جانب التحديات الصحية، تعاني جميلة من التمييز في المؤسسات الصحية، تستذكر حادثة عندما رفضت ممرضة تقديم الرعاية لها خوفًا من المرض، ما اضطرها للسفر من أجدابيا إلى بنغازي للحصول على العلاج اللازم، تقول بحرقة: “هذا النوع من الجهل والرفض هو ما يدفع كثيرين من المتعايشين إلى الصمت، مما يزيد من انتشار العدوى".
رغم التحديات التي لا تنتهي، تظل جميلة صامدة، تؤمن برسالتها في نشر التوعية، وتقول: نحن بشر قبل أن نكون مرضى، كل ما نحتاج إليه هو القبول والوعي، وليس الشفقة.
تختم جميلة حديثها برسالة للمسؤولين والمجتمع، قائلة: أنا مستعدة لقيادة حملات توعية تجوب المدن والقرى مجانًا، لأن الحل بسيط يكمن في التثقيف والتعامل الإنساني، يمكننا معًا أن نجعل ليبيا بلدًا خاليًا من الإصابات الجديدة بالإيدز.
قصة جميلة ليست مجرد شهادة على المعاناة، بل على الشجاعة والقدرة على تحويل الألم إلى أمل، هي دعوة للمجتمع بأن يتعلم كيف يرى الإنسان قبل المرض، وكيف يمنح الحياة فرصة جديدة حتى في أحلك الظروف.
أرحيم ضحية آخر
وسط أزقة مدينة أجدابيا في ليبيا، وُلد أرحيم الفريز، شابٌ كغيره يحمل في ملامحه براءة الأطفال، لكن خلف تلك البراءة خبّأت له الأيام قَدَراً قاسياً، حين تسلل فيروس الإيدز إلى دمه دون أن يختار ذلك، نتيجة إحدى أفظع الجرائم التي عرفتها ليبيا في تسعينيات القرن الماضي.
يعيش أرحيم في هولندا، ويبلغ من العمر الآن 27 عاماً، ويحاول أن يكتب فصلاً جديداً من حياته بعدما أمضى سنواتٍ طويلة في مواجهة المرض، ليس فقط كعدو داخلي في جسده، بل أيضاً كوصمةٍ اجتماعية أحاطته منذ نعومة أظفاره.
يروي أرحيم كيف كانت طفولته تسير على إيقاع الألم، لم يكن الألم فقط بسبب المرض الذي عرفه صغيراً، بل كان قسوة الناس والمجتمع أشد وجعاً عليه، تعرض للتنمر والتمييز، وحتى في مدرسته كان مختلفاً.
يتذكر كيف درس فقط حتى الصف الأول الابتدائي، قبل أن يترك المدرسة بسبب التمييز، لكن رغم ذلك لم يستسلم، قريبة للعائلة تكفلت بتعليمه منزلياً، وكانت تصحبه إلى مدرستها ليؤدي الامتحانات بمفرده في فصلٍ خالٍ من التلاميذ الآخرين.
يقول أرحيم بفخرٍ رغم الألم: "قرأتُ كثيراً، تعلمت الكتابة، وحتى لغتي الإنجليزية والهولندية تعلمتها بمفردي، من خلال الإنترنت، لم أتوقف عن تطوير نفسي رغم كل شيء حاولت أن أتعلم بالاعتماد على نفسي".
ويواصل سرد حكايته، قائلا: كانت السنوات في ليبيا صعبةً على كل المستويات، لم يكن الدواء متوافراً باستمرار، وحتى عندما وُجد كان مكلفاً كثيراً وأضطر إلى شرائه من مالي الخاص، استمررت في استخدام العلاج نفسه منذ 2012 حتى 2022، وعندما انتقلت إلى هولندا كان الوضع مختلفاً تماماً، هناك متابعة طبية دقيقة ورعاية نفسية لم أتخيلها، أتابع مع طبيب خاص، وأجري الفحوصات بانتظام، حالتي الصحية تحسنت كثيراً، لدرجة أن التحاليل التي كنت أخشاها في ليبيا أصبحت اليوم أفضل مما توقعت.
ألم المرض قد يُحتمل، لكن ألم الرفض الاجتماعي كان الجرح الذي لم يلتئم، يحكي أرحيم عن سنوات من التنمر والتمييز، قائلا بصوتٍ يملؤه الحزن، كان المجتمع يعاملني كأنني وصمة، وليس كإنسان، حتى فرص العمل كانت مستحيلة، وكثيراً ما شعرت أنني مجرد رقم منسي، ومع ذلك كنت محظوظاً بدعم أسرتي، الذين وقفوا إلى جانبي واحتضنوني دون أن يجعلوني أشعر للحظة أنني مختلف.
يضيف أرحيم: مع انتقالي إلى هولندا بدأت أشعر أن الحياة يمكن أن تكون أفضل، لم تعد الرعاية الصحية فقط أفضل، بل أصبحت أجد احتراماً لوجودي كإنسان، أكثر ما أحتاج إليه ليس المال أو التعويضات، بل أن يتم تقديري كإنسان، وأن أحصل على معاملة تليق بإنسانيتي.
ورغم التحسن الكبير في حياته ما زال يتذكر زملاءه من الضحايا الذين يعانون داخل ليبيا بسبب نقص الرعاية الطبية، وانعدام الدعم النفسي، وغياب أي جهود مجتمعية لتوعيتهم ودمجهم، وعندما يتحدث عن أحلامه، لا يفكر أرحيم كثيراً، ويقول ببساطة: “أريد أن أرى يوماً نظرات تقدير لهذه الفئة، أن يفهم الناس أن المرض ليس ذنبنا، وأننا بشر مثلهم”.
ورغم كل الصعوبات التي مر بها، يختتم حديثه بكلماتٍ مؤثرة: (لو خُيرت، لما اخترت هذه الحياة، لكنها قدري، وأنا مؤمن بقدري. أحاول أن أعيش وأن أواجه، لكن ما يحتاج إليه الناس من أمثالي هو القليل من الإنسانية. ليس أكثر).
اليوم يعيش أرحيم في هولندا، يحمل على عاتقه ذكريات الماضي، لكنه أيضاً يحمل أملاً لمستقبلٍ أفضل، ليس له فقط، بل لكل من مرّوا بتجربته نفسها.
حالات صحية متفاوتة
وأوضح المتحدث باسم أسر الضحايا، إدريس لاغا، أن الحالة الصحية للضحايا تختلف تبعاً لقوة الجهاز المناعي لديهم، فالبعض يتمتع بحالة صحية جيدة، بينما يعاني آخرون من أمراض انتهازية نتيجة ضعف المناعة، وهناك من حالتهم الصحية حرجة للغاية.
وأكد لاغا أن الرعاية الصحية المتوفرة محلياً تقتصر على عيادة خاصة بمدينة بنغازي، في ظل استمرار طرد الضحايا من المستشفيات العامة والخاصة في جميع أنحاء البلاد منذ أكثر من 25 عاماً، مما يضطر الحالات الحرجة إلى السفر إلى تونس لتلقي العلاج.
وأشار لاغا إلى أن الانهيار النفسي يعدّ من أبرز التحديات التي تواجه الضحايا، حيث سجلت أكثر من ثلاث محاولات انتحار خلال السنوات الماضية، دون أي برنامج دعم نفسي حكومي يُقدم لهم حتى الآن، أما أسر الضحايا الذين توفوا بسبب الفيروس فلا تتلقى أي دعم أو رعاية، مضيفا أن النبذ الاجتماعي والوصم السلبي الذي يواجهه الضحايا منذ بدء المأساة وحتى اليوم يمثل ضغطاً نفسياً كبيراً عليهم، ما يزيد من معاناتهم.
تطرق لاغا إلى تعويضات الضحايا، موضحاً أن النظام السابق فرض صلحاً على الأسر، ينص على تخفيف أحكام الإعدام إلى السجن المؤبد للمتهمين في القضية مع قضاء العقوبة داخل ليبيا، مؤكدا أن المطالب الحالية تتمثل في إيفاد الضحايا إلى أوروبا لتلقي العلاج المتقدم، وفقاً لما نص عليه الصلح بين الأسر والحكومة الليبية، وذلك لإنقاذ من يمكن إنقاذه من الضحايا الذين تدهورت حالتهم الصحية.
وفي ما يتعلق بدور منظمات المجتمع المدني، أعرب لاغا عن أسفه الشديد لغياب أي مبادرات محلية أو دولية لدعم الضحايا، باستثناء الجهود التي بُذلت في بداية الأزمة من قبل مفوضية كشاف بنغازي والهلال الأحمر.
وأضاف أن الضحايا، على ما يبدو، قد طواهم النسيان تماماً.
استقرار صحي ونقص في الخدمات
أكد مدير مركز بنغازي للأمراض السارية، الدكتور وائل الهواري، أن الوضع الصحي لغالبية المصابين بالفيروس في ليبيا مستقر حاليًا، باستثناء الحالات التي تعاني من أمراض جانبية أخرى أو تعاني من مشكلات كترك العلاج، وأوضح أن الانتظام في تناول الدواء أمر أساسي لتجنب تطور مقاومة الفيروس للأدوية، مما يؤدي إلى تدهور صحة المرضى بشكل أسرع.
وبالنسبة لتوفر الأدوية، أشار الهواري إلى أن الأدوية تُوفر بشكل متقطع، حيث تعمل وزارة الصحة وجهاز الإمداد الطبي واللجنة العليا لمتابعة الأطفال المحقونين على تأمينها، لكنه أكد أن نقص الإمدادات يظل تحديًا مستمرًا، موضحاً أن المرضى كانوا يخضعون لفحوصات دورية تصل إلى ثلاث أو أربع مرات سنويًا، لكن بسبب نقص مواد التشغيل، تقلصت الفحوصات إلى مرتين فقط في السنة، وحاليًا يتم إرسال المرضى إلى تونس لإجراء هذه الفحوصات، وأضاف أن برامج التأهيل المنظمة لهذه الفئة غير متوفرة حتى الآن، ما يعوق توفير دعم شامل للمصابين.
خدمات صحية مجانية
أكد الهواري أن جميع الخدمات الصحية تقدم مجانًا للمرضى، حيث تتحمل وزارة الصحة أو اللجنة العليا لرعاية الأطفال المحقونين التكلفة بالكامل، ومع ذلك يعاني المصابون من وصم ونبذ اجتماعي في العديد من الأماكن، بما في ذلك المستشفيات والجهات الصحية، وهو ما وصفه الدكتور الهواري بأنه نتيجة تصرفات فردية لا تمثل سياسات الدولة، مشيراً إلى الحاجة الماسة لدعم توعوي وقانوني لتغيير النظرة النمطية تجاه المصابين، مشددًا على أهمية تعزيز وعي المجتمع لقبولهم بشكل أفضل.
وكشف الهواري أن عدد الأحياء من المصابين حتى الآن يبلغ نحو 380 حالة، فيما توفي 120 شخصًا بسبب المرض، مشيرا إلى أن هناك بعض الحالات لم يتم اكتشافها بعد، مما يشير إلى أهمية الجهود المستمرة لتشخيص الحالات وتقديم الدعم اللازم لها.
قرارات حكومية داعمة
وفي وقت سابق، قررت حكومة الوحدة الوطنية زيادة المنحة الشهرية للمحقونين بفيروس نقص المناعة المكتسبة الإيدز، حتى يتمكنوا من تلبية احتياجاتهم، داعياً المؤسسة الحكومية لتوفير الظروف المناسبة لهذه الشريحة وتقديم الدعم الكامل لهم.
وعلى الرغم من الجهود المبذولة لتوفير الأدوية والخدمات الصحية للمصابين بالفيروس في ليبيا، لا تزال التحديات قائمة، سواء على المستوى الصحي أو النفسي والاجتماعي، ومع وجود نقص في الإمدادات وضعف برامج التأهيل، تبرز الحاجة لتكاثف الجهود بين الجهات الصحية والمجتمع لتوفير حياة كريمة وآمنة لهؤلاء المرضى.