بين الهدايا والديون.. موسم الكريسماس يتحول إلى عبء اقتصادي على الأسر

بين الهدايا والديون.. موسم الكريسماس يتحول إلى عبء اقتصادي على الأسر
هدايا عيد الميلاد

تتحول الاحتفالات في كل عام، ومن بينها الكريسماس إلى موسم اقتصادي استثنائي يتجاوز كونه مناسبة اجتماعية أو دينية ليصبح حدثًا اقتصاديًا عالميًا، بين الأضواء المتلألئة والهدايا المزينة، تظهر معادلات اقتصادية معقدة تعكس مدى تأثير هذه الاحتفالات على الأسر، ما يفتح سؤالًا يردده البعض في أذهانهم.. هل ما نشهده هو احتفال حقيقي أم أنه مشهد مُعد بعناية من قِبل صناعة التسويق العالمية؟

يُعتبر الكريسماس واحدًا من أكثر المواسم استهلاكًا في العالم، حيث تسجل الشركات في القطاعات المختلفة، لا سيما التجزئة والترفيه، أعلى مستويات مبيعاتها السنوية، وفقًا لتقرير صادر عن شركة Statista عام 2023، بلغ حجم الإنفاق العالمي خلال موسم الكريسماس حوالي 1.1 تريليون دولار، حيث تُنفق الأسرة الواحدة في الولايات المتحدة وحدها ما متوسطه 998 دولارًا على الهدايا والطعام والزينة وهذا الرقم لا يعكس فقط قوة الاقتصاد، بل يشير أيضًا إلى الأعباء المالية المتزايدة على الأسر، خاصة تلك ذات الدخل المتوسط أو المحدود.

ويمتد التأثير الاقتصادي للاحتفالات ليشمل الشركات الصغيرة والكبيرة على حد سواء، وتُظهر البيانات أن ما يقرب من 30% من الإيرادات السنوية للعديد من الشركات الكبرى تأتي من مبيعات موسم الكريسماس، على سبيل المثال، أبلغت شركة أمازون عن زيادة بنسبة 22% في مبيعاتها خلال الربع الرابع من عام 2022 مقارنة بالربع السابق، وتساهم الشركات الصغيرة والمحلية أيضًا في هذا النشاط، حيث أظهرت دراسة أجرتها Small Business Administration أن 42% من الشركات الصغيرة تحقق معظم أرباحها السنوية خلال هذا الموسم، ومع ذلك، فإن هذا الازدهار لا يأتي دون تحديات، حيث تواجه الشركات الصغيرة صعوبة في التنافس مع العروض الترويجية الكبرى التي تقدمها الشركات العملاقة.

ويظهر التسويق كأحد المحركات الرئيسية التي تعزز الاستهلاك خلال هذه الفترة، وعبر الإعلانات الموجهة، والعروض الحصرية، وبرامج الولاء، نجحت الشركات في خلق طلب غير ضروري في كثير من الأحيان، وقد أظهر تقرير Nielsen لعام 2023 أن 78% من المستهلكين يعترفون بأن الإعلانات تؤثر بشكل كبير على قراراتهم الشرائية في موسم الأعياد.

ويتجلى هذا التأثير بشكل خاص في الإعلانات الرقمية التي تستهدف المستهلكين بناءً على بياناتهم الشخصية وسلوكياتهم عبر الإنترنت، التسويق هنا لا يقتصر على الترويج للمنتجات، بل يمتد ليشمل تشكيل الثقافة نفسها، حيث تُظهر الإعلانات الكريسماس كوقت مثالي للسعادة والرفاهية التي لا تتحقق إلا من خلال الشراء والاستهلاك.

وتشير الأرقام إلى أن حوالي 40% من الأسر في الولايات المتحدة تعتمد على بطاقات الائتمان لتمويل مشترياتها خلال موسم الكريسماس، ما يؤدي إلى تراكم الديون بمعدل يصل إلى 5% سنويًا، وفي المملكة المتحدة، أظهر استطلاع للرأي أجرته YouGov عام 2022 أن 52% من البريطانيين يشعرون بالضغط المالي نتيجة للتوقعات الاجتماعية المتعلقة بالإنفاق خلال موسم الأعياد، هذا الضغط لا يقتصر على الأفراد فقط، بل يمتد إلى الشركات الصغيرة التي تتحمل أعباء مالية إضافية لتلبية الطلب المتزايد.

ويشير بعض الاقتصاديين إلى الفوائد الاقتصادية الإيجابية لموسم الكريسماس، خاصة من حيث خلق فرص العمل وتحفيز الاقتصاد المحلي. تقرير صادر عن مكتب العمل الأمريكي عام 2022 أظهر أن حوالي 750,000 وظيفة مؤقتة تم توفيرها خلال فترة الأعياد، ما ساعد في خفض معدل البطالة بنسبة 0.3%. ومع ذلك، فإن هذه الوظائف غالبًا ما تكون مؤقتة وغير مستقرة، ما يعيدنا إلى التساؤل حول مدى استدامة هذا النمو الاقتصادي.

من الناحية البيئية، يثير الاستهلاك الهائل خلال موسم الكريسماس قضايا خطيرة تتعلق بالاستدامة، يُقدر أن حوالي 25 مليون شجرة كريسماس تُقطع سنويًا في الولايات المتحدة وحدها، وأن 85% من هذه الأشجار ينتهي بها المطاف في مكبات النفايات، بالإضافة إلى ذلك، ويُظهر تقرير لوكالة البيئة الأوروبية أن انبعاثات الكربون الناتجة عن إنتاج وتوزيع السلع خلال موسم الأعياد تزداد بنسبة 30% مقارنة ببقية العام، هذه الأرقام تُظهر الحاجة الماسة إلى تبني سياسات وتقنيات مستدامة للحد من الآثار البيئية لهذه الاحتفالات.

ويلعب التسويق دورًا كبيرًا في تشكيل المفاهيم الاجتماعية والثقافية المرتبطة بالكريسماس. من خلال الصور المثالية للعائلات السعيدة والهدايا الوفيرة، يتم تعزيز فكرة أن الاستهلاك هو الوسيلة الأساسية لتحقيق السعادة والانسجام العائلي، هذا الخطاب يؤثر بشكل خاص على الأطفال، الذين يصبحون مستهلكين مستهدفين من خلال الإعلانات الموجهة والألعاب المرتبطة بالشخصيات الشهيرة. وفقًا لدراسة أجرتها جامعة هارفارد عام 2022، يتعرض الطفل الأمريكي العادي لحوالي 5,000 إعلان تجاري مرتبط بالكريسماس قبل بلوغه سن الثانية عشرة.

في خضم هذا المشهد، يبرز السؤال: هل يمكن تحقيق توازن بين الاحتفال بالكريسماس وتجنب الأضرار الاقتصادية والاجتماعية والبيئية المرتبطة به؟ هنا، يمكن أن تلعب الحكومات والمجتمع المدني دورًا حاسمًا من خلال الترويج لثقافة استهلاك مستدامة ومسؤولة.

تعزيز القيم الإنسانية

وقال خبير حقوق الإنسان، مصطفى عبدالكبير، إنه لا يمكن فصل هذا النقاش عن المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، خاصة تلك المتعلقة بالكرامة الإنسانية، والحق في مستوى معيشي لائق، وحق الأسرة في الحماية والرعاية، الاحتفالات التي يفترض أن تكون تعبيرًا عن القيم الإنسانية كالتضامن والمشاركة، تتحول في كثير من الأحيان إلى أعباء اقتصادية ضخمة تُثقل كاهل الأسر، وتخلق ديناميكيات استغلالية تُشكك في مدى احترام النظام الاقتصادي السائد لحقوق الإنسان.

وتابع عبدالكبير، في تصريحات لـ"جسور بوست"، البداية مع الأسر، حيث يُلاحظ أن الضغوط الاجتماعية والتوقعات الثقافية المرتبطة بالكريسماس تُرغم العديد من العائلات على الإنفاق بما يفوق قدرتها الحقيقية، وفقًا لمبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لكل فرد الحق في مستوى معيشي يكفل له ولأسرته الصحة والرفاهية، لكن الواقع يشير إلى أن السياسات الاقتصادية غير العادلة، وتركز القوة الاقتصادية في يد الشركات الكبرى، يدفعان بالأسر محدودة الدخل إلى اتخاذ قرارات اقتصادية غير مستدامة، فبينما تُصوَّر السعادة الأسرية في الإعلانات من خلال الإنفاق المفرط على الهدايا والاحتفالات، تجد العديد من العائلات نفسها غارقة في الديون، ما يقوض قدرتها على تلبية احتياجات أساسية أخرى كالصحة والتعليم.

وقال الخبير الحقوقي، إن الشركات تلعب دورًا مزدوجًا في هذا الإطار، فبينما تساهم الاحتفالات في تعزيز الأرباح وخلق فرص عمل موسمية، فإن التركيز على تحقيق أقصى الأرباح غالبًا ما يأتي على حساب حقوق العمال وظروفهم، العمالة المؤقتة التي تزدهر خلال موسم الكريسماس تُعتبر في كثير من الأحيان انتهاكًا لحقوق العمال المضمونة بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فالوظائف المؤقتة، التي تفتقر إلى الاستقرار أو الحماية الاجتماعية، تضع العمال في مواقف هشة، وتجعلهم عرضة للاستغلال من قبل أصحاب العمل الذين يركزون على تخفيض التكلفة وزيادة الإنتاجية.

وذكر أن النزعة الاستهلاكية، التي تتعارض في جوهرها مع المبادئ البيئية والاجتماعية المستدامة، الأطفال، الذين يُعتبرون من الفئات الأكثر عرضة للتأثير، هم أيضًا هدف رئيسي للتسويق خلال موسم الكريسماس، الإعلانات تستغل براءة الأطفال لتشجيعهم على الضغط على أسرهم لشراء المنتجات، ما يُعرضهم لنمط حياة قائم على النزعة المادية بدلًا من القيم الإنسانية، هذا يتناقض مع اتفاقية حقوق الطفل التي تنص على أن مصلحة الطفل الفضلى يجب أن تكون الاعتبار الأساسي في جميع القرارات التي تؤثر على حياته.

وتابع، يمكن النظر إلى الاحتفالات من زاوية أخرى تركز على تعزيز الحقوق الإنسانية بدلًا من استغلالها، الكريسماس يُمكن أن يكون فرصة حقيقية لتعزيز التضامن الاجتماعي من خلال المبادرات المجتمعية التي تدعم الأسر الفقيرة وتقلل من حدة الفجوة الاقتصادية، الحكومات والمجتمع المدني بحاجة إلى لعب دور أكثر فاعلية في تنظيم الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالاحتفالات لضمان توافقها مع مبادئ حقوق الإنسان، ويجب تعزيز سياسات الاستهلاك المستدام، وتوفير الحماية القانونية للأسر والعمال، وتقليل هيمنة الشركات الكبرى على هذه المناسبات.

وقال عبدالكبير، إن الهدف الأساسي لأي احتفال هو تعزيز القيم الإنسانية وتحقيق السعادة للجميع، وليس تعميق الأعباء الاقتصادية أو خلق تفاوتات اجتماعية أعمق، إذا أردنا أن نحتفل بروح الكريسماس الحقيقية، فعلينا أن نعيد التفكير في كيفية تنظيم هذا الموسم بما يحترم كرامة الإنسان، ويحمي حقوقه الاقتصادية والاجتماعية، ويضمن استدامة الموارد للأجيال القادمة، بهذا يمكن للكريسماس أن يتحول من موسم استهلاكي إلى موسم إنساني بمعناه الأسمى.

فرصة ذهبية لتنشيط الأسواق

وقال الخبير الاقتصادي خالد عبدالشافي، إنه في عالم الاقتصاد، يُنظر إلى الاحتفالات، كظاهرة معقدة تمتزج فيها الفوائد الاقتصادية بالتحديات الاجتماعية، ما يستدعي تحليلًا دقيقًا لأبعادها وتأثيراتها، فالكريسماس بمظاهره البراقة يخلق ديناميكيات اقتصادية خاصة تُحفز الطلب والاستهلاك على نطاق واسع، لكن، هل تحقق هذه الديناميكيات التوازن المطلوب بين تعزيز النمو الاقتصادي وضمان العدالة الاجتماعية؟ من منظور اقتصادي، يمثل الكريسماس فرصة ذهبية لتنشيط الأسواق، الطلب المرتفع على السلع والخدمات يساهم في زيادة الإنتاج ويخلق وظائف جديدة، خاصة في قطاعات مثل التجارة والتجزئة والخدمات اللوجستية، وهذا النشاط الاقتصادي السريع يحمل في طياته تحديات هيكلية تعكس انعدام التوازن بين الأرباح المحققة والتكاليف الاجتماعية والبيئية المصاحبة.

وتابع عبدالشافي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، الأسر، كمستهلك رئيسي في هذا الموسم، تواجه ضغوطًا اقتصادية متزايدة تُحدِث خللًا في ميزانياتها من الناحية النظرية، يُفترض أن تعزز الإنفاقات المرتبطة بالكريسماس من مستويات الرفاهية من خلال تحسين نوعية الحياة، ولكن في الواقع، تجد كثير من الأسر نفسها في مواجهة ديون مرتفعة، حيث كشفت دراسة اقتصادية حديثة أن أكثر من 50% من الأسر في أوروبا تضطر إلى استخدام وسائل اقتراض لتغطية نفقاتها خلال موسم الأعياد. هذا الاعتماد المتزايد على الائتمان يُعمّق الفجوة بين مستويات الدخل ويُضعف قدرة الأسر على تحقيق استقرار مالي طويل الأمد.

وأضاف، أن الشركات تظهر خلال الاحتفالات كمستفيد رئيسي من هذا الموسم، الأرباح المتزايدة تمثل حافزًا قويًا لاستثمارات جديدة، لكنها ليست موزعة بالتساوي عبر جميع الشركات. الشركات الكبرى متعددة الجنسيات تتمتع بقدرة هائلة على استغلال الفرص التسويقية وفرض هيمنتها على الأسواق، ما يُضعف تنافسية الشركات الصغيرة والمتوسطة، وهذه الهيمنة تُبرز خللًا في عدالة السوق، وهو مبدأ اقتصادي أساسي يُفترض أن يحقق توزيعًا متوازنًا للفرص والأرباح.

وقال عبدالشافي، إن التسويق، باعتباره المحرك الأساسي للطلب في موسم الكريسماس، يُسهم في تضخيم الاستهلاك بطرق قد تكون غير مستدامة اقتصاديًا واجتماعيًا. تعتمد الحملات التسويقية بشكل كبير على فهم دقيق لسلوك المستهلكين واستخدام أدوات تحليل البيانات، ما يخلق استراتيجيات تُغذي النزعة الاستهلاكية ورغم أن هذه الأدوات تُعتبر ابتكارًا اقتصاديًا، فإنها تثير مخاوف تتعلق بحقوق الإنسان، خاصة في ما يتعلق بالخصوصية والحق في اتخاذ قرارات استهلاكية حرة وغير مُوجّهة.

وأضاف أن الاحتفالات تُبرز تحديات اقتصادية ترتبط بالتكاليف البيئية غير المحسوبة في الأسواق التقليدية، الإنتاج الضخم خلال موسم الأعياد يؤدي إلى زيادة في استهلاك الموارد الطبيعية وانبعاثات الكربون هذا النوع من الاستهلاك غير المستدام يُهدد مبادئ الاقتصاد الدائري الذي يُشجع على تقليل الهدر وإعادة التدوير.

وأشار إلى أن موسم الكريسماس يكشف عن تناقضات جوهرية في النموذج الاقتصادي الحالي، التوسع في الإنتاج والاستهلاك يعزز النمو على المدى القصير، لكنه يُعمّق التفاوت الاجتماعي ويُضعف الاستدامة البيئية، ولتجاوز هذه التحديات، ينبغي إعادة النظر في السياسات الاقتصادية المرتبطة بالمواسم الاحتفالية.

وقال الخبير الاقتصادي، إنه يمكن تعزيز السياسات التي تُشجع على الاستهلاك المستدام، مثل تقديم حوافز للأسر لشراء منتجات صديقة للبيئة أو فرض ضرائب أعلى على الشركات التي تعتمد على استراتيجيات إنتاجية ملوثة، علاوة على ذلك، يمكن تعزيز العدالة الاقتصادية من خلال دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة عبر تقديم قروض ميسرة وضمان وصولها إلى أسواق جديدة.

واختتم حديثه، قائلا، إنه لا بد من توجيه الجهود نحو تحقيق توازن اقتصادي يستند إلى مبادئ حقوق الإنسان، حيث تكون الأولوية لرفاهية الأفراد واستدامة الموارد، وليس فقط لزيادة الأرباح، في هذا السياق، يتحول الكريسماس من مجرد موسم للاستهلاك إلى فرصة حقيقية لإعادة تعريف العلاقة بين الاقتصاد والمجتمع.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية