بين حقوق الإنسان والطموح التكنولوجي.. هل يصبح الفضاء ملاذاً للنخبة؟

بين حقوق الإنسان والطموح التكنولوجي.. هل يصبح الفضاء ملاذاً للنخبة؟
بين حقوق الإنسان والطموح التكنولوجي.. هل يصبح الفضاء ملاذاً للنخبة؟

في ظل التسارع التكنولوجي الذي يشهده العالم، برز استكشاف الفضاء كأحد أكثر المجالات طموحًا، ليس فقط من حيث الابتكار العلمي، ولكن أيضًا كأفق جديد للبشرية لتحقيق أحلام طالما بدت مستحيلة، ومع ذلك، يطرح هذا المجال تساؤلات جوهرية حول إمكانية تحقيق مبدأ المساواة والعدالة في الوصول إلى الفضاء، وسط مخاوف متزايدة من أن يصبح استكشاف الفضاء حكرًا على النخب الثرية أو القوى العالمية الكبرى. 

فهل يمكن أن يتحقق حلم البشرية بجعل الفضاء متاحًا للجميع؟

تشير الأرقام إلى أن تكلفة السفر إلى الفضاء حاليًا تفوق بكثير قدرات الأفراد العاديين.. على سبيل المثال، تقدر تكلفة الرحلة الواحدة على متن مركبة "سبيس إكس" بما يقرب من 55 مليون دولار لكل راكب.

ووفقًا لتقرير صادر عن ناسا عام 2023، حتى السياحة الفضائية، التي تبدو وكأنها فرصة لتحقيق حلم السفر إلى الفضاء، تبدو بعيدة المنال عن معظم سكان العالم، حيث تبدأ تكلفة التذكرة في برامج مثل "بلو أوريجين" من نحو 450 ألف دولار، هذه الأرقام تعكس فجوة اقتصادية شاسعة تجعل من الفضاء امتيازًا للثراء بدلاً من حق إنساني شامل.

ويمكن اعتبار حق الإنسان في السفر للفضاء، امتدادًا لمبادئ أساسية نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لا سيما المادة 13 التي تكفل حرية التنقل، إذا كان استكشاف الفضاء يُنظر إليه كجزء من الإرث الإنساني المشترك، فإنه ينبغي أن يُتاح للجميع دون تمييز بناءً على الثروة أو الجنسية. 

ومع ذلك، تشير بيانات الاتحاد الدولي للنقل الفضائي إلى أن 95% من الأنشطة الفضائية الحالية تحتكرها 5 دول فقط، هي: الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، واليابان، وفرنسا، هذا الاحتكار يثير تساؤلات أخلاقية حول ما إذا كانت الموارد الفضائية تُستخدم حقًا لصالح البشرية جمعاء أم لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية لقلة مختارة.

جدل حول السياحة الفضائية

وتثير السياحة الفضائية، التي باتت حديث الساعة في الأوساط التكنولوجية، جدلاً عميقًا حول أبعادها الاجتماعية والثقافية. بينما يرى البعض أنها تمثل تقدمًا تاريخيًا، يشير آخرون إلى أنها قد تُكرس انعدام المساواة؛ تقرير صدر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية عام 2022 أوضح أن نحو 1% فقط من سكان العالم يمتلكون القدرة المالية للوصول إلى خدمات السياحة الفضائية... هذا التفاوت يبرز تحديات في كيفية تحويل هذا القطاع إلى فرصة لتحقيق العدالة الاجتماعية بدلاً من ترسيخ الفجوة الاقتصادية.

وإلى جانب التكاليف الباهظة، هناك تحدٍ آخر يتمثل في الأطر القانونية والتنظيمية المتعلقة بالسفر الفضائي، وعلى الرغم من وجود معاهدة الفضاء الخارجي لعام 1967، التي تنص على أن الفضاء ملك مشترك للبشرية، فإنها لا تقدم إطارًا واضحًا لكيفية تنظيم السياحة الفضائية أو ضمان وصول جميع الدول إليها.

 ووفقًا لتقرير مركز الدراسات الفضائية العالمي لعام 2023، فإن 60% من الدول النامية لا تمتلك تشريعات وطنية لتنظيم الأنشطة الفضائية، هذا القصور يترك الباب مفتوحًا أمام الدول الكبرى والشركات الخاصة لاستغلال الفراغ القانوني لمصلحتها.

ورغم هذه التحديات، يمكن للسياحة الفضائية أن تكون أداة لتعزيز ثقافة حقوق الإنسان إذا أُديرت بشكل عادل وشفاف، على سبيل المثال، يمكن تصميم برامج تعاونية تسمح للدول النامية بالمشاركة في الأنشطة الفضائية من خلال تقديم منح أو شراكات دولية… فتجربة برنامج "كوبيرنيكوس" الأوروبي، الذي يوفر بيانات فضائية مجانية لدول العالم، تُظهر أن التعاون الدولي يمكن أن يكون وسيلة فعالة لتقليل الفجوة بين الدول في مجال استكشاف الفضاء.

وحول التأثير الثقافي والنفسي للسياحة الفضائية، تشير أبحاث جديدة إلى أن مشاهدة الأرض من الفضاء يمكن أن تعزز الشعور بالانتماء الإنساني المشترك. فقد أظهرت دراسة أجرتها جامعة هارفارد عام 2021 أن 87% من رواد الفضاء أعربوا عن شعور متزايد بالمسؤولية تجاه الكوكب بعد رؤية الأرض من الفضاء.

 هذا التأثير النفسي يمكن أن يسهم في تعزيز القيم الإنسانية العالمية، مثل التعاون والسلام وحماية البيئة.

السياحة الفضائية وسيلة للترفيه

وهناك مخاوف من أن تصبح السياحة الفضائية مجرد وسيلة للترفيه الفاخر دون تقديم مساهمات ملموسة للبشرية. 

وفقًا لتقرير منظمة الفضاء والتنمية المستدامة، فإن 70% من الرحلات الفضائية السياحية خلال السنوات الثلاث الماضية كانت تهدف للترفيه فقط دون أهداف علمية أو تعليمية، هذا الاتجاه يثير تساؤلات حول كيفية تحقيق التوازن بين الاستفادة التجارية وضمان الأثر الإيجابي على المجتمع.

ويكمن التحدي الأكبر في تصميم نموذج اقتصادي مستدام يجعل من الفضاء متاحًا للجميع، إحدى الأفكار المطروحة هي إنشاء صناديق دولية تُمول برامج الفضاء للدول الفقيرة، على أن تُموَّل هذه الصناديق من الضرائب المفروضة على شركات السياحة الفضائية. على سبيل المثال، يمكن فرض رسوم بيئية على الشركات لتعويض الأثر البيئي لإطلاق الصواريخ، والذي يُقدر بأنه يولد نحو 300 طن من ثاني أكسيد الكربون لكل رحلة واحدة، وفقًا لتقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة عام 2023.

وعلى المستوى التكنولوجي، فإن تقليل التكاليف يعد شرطًا أساسيًا لجعل الفضاء متاحًا للجميع. شركة "سبيس إكس" حققت تقدمًا كبيرًا في هذا المجال من خلال تطوير صواريخ قابلة لإعادة الاستخدام، مما أدى إلى خفض تكلفة الإطلاق بنسبة 40% مقارنة بالتقنيات التقليدية، ومع ذلك فالوصول الشامل للفضاء يتطلب استثمارات طويلة الأمد في البحث والتطوير لابتكار تقنيات أكثر كفاءة وأقل تكلفة.

ويرى خبراء أن استكشاف الفضاء يعد فرصة عظيمة لتوسيع آفاق الإنسانية، لكنه يظل مشروطًا بقدرة المجتمع الدولي على مواجهة التحديات المرتبطة بالتكاليف، والعدالة، والتنظيم القانوني. 

فإذا استطاع العالم تحويل استكشاف الفضاء إلى نشاط يشمل الجميع، فإنه سيحقق ليس فقط تقدمًا علميًا، بل أيضًا نقلة نوعية في ثقافة حقوق الإنسان. ومع ذلك، فإن الفشل في مواجهة هذه التحديات قد يجعل من الفضاء رمزًا جديدًا للتفاوت والاحتكار بدلاً من أن يكون أفقًا مشتركًا للأمل والإنجاز البشري.

بين الحق الإنساني والاحتكار الاقتصادي

وقال الخبير الحقوقي، مصطفى عبد الكبير، إنه لا يمكن النظر إلى الفضاء باعتباره امتدادًا لنفوذ القوى الاقتصادية الكبرى أو الأغنياء فقط، بل يجب أن يكون متاحًا كحق إنساني عام، ضمن إطار يُعزز القيم العالمية مثل المساواة والتعاون الدولي، ومع ذلك، تظهر العديد من المؤشرات التي تؤكد أن هذه الرؤية المثالية تواجه تحديات حقيقية قد تُكرس انعدام المساواة.

وتابع عبد الكبير، في تصريحات لـ"جسور بوست": تستند حقوق الإنسان إلى مبادئ أساسية مثل المساواة والعدالة وعدم التمييز، ومن هذا المنطلق، فإن فكرة أن السفر إلى الفضاء قد يصبح امتيازًا يقتصر على الأثرياء تتعارض مع روح هذه المبادئ، فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في مادته الأولى، ينص على أن جميع الناس يولدون أحرارًا ومتساوين في الكرامة والحقوق، وبالمثل تنص المادة 27 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على حق كل فرد في الاستفادة من التقدم العلمي وتطبيقاته إذا كان الفضاء ملكًا للبشرية جمعاء كما تنص معاهدة الفضاء الخارجي لعام 1967، فإن تحويله إلى سوق مغلق للأغنياء يُعد إخلالًا خطيرًا بهذه الالتزامات.

وشدد على أن السياحة الفضائية التي بدأ الحديث عنها كجزء من استكشاف الفضاء ليست سوى صورة مصغرة لمشكلة أكبر تتعلق بالاحتكار الاقتصادي للموارد الجديدة في الوقت الذي يُنظر فيه إلى هذه السياحة كإنجاز تقني وعلمي، فإن تكلفتها الفلكية تجعلها خدمة متاحة فقط لنسبة صغيرة للغاية من سكان العالم، هذا الاحتكار الاقتصادي يعكس اتجاهًا مقلقًا يمكن أن يعيد إنتاج الأنماط التقليدية للاستغلال والسيطرة التي شهدناها على الأرض، مثل استعمار الموارد الطبيعية في الفضاء، كأفق جديد للبشرية.

وأشار إلى أن التحديات تتجاوز البعد الاقتصادي، وأن هناك أيضًا غيابا واضحا لإطار قانوني عالمي يحكم هذا النوع من الأنشطة، فمعاهدة الفضاء الخارجي تضع مبادئ عامة فقط، ولكنها لا تتناول السياحة الفضائية أو الآليات التي تضمن مشاركة الدول النامية في هذا المجال، غياب هذا الإطار يزيد من خطر استحواذ القوى الاقتصادية الكبرى وشركات التكنولوجيا على هذا المجال الناشئ، مما يحرم المجتمعات الأقل حظًا من حقها في المشاركة والاستفادة.

وقال إنه يمكن النظر إلى السياحة الفضائية كفرصة لتعزيز ثقافة حقوق الإنسان إذا أُعيدت صياغة أهدافها بطريقة شاملة وإنسانية، على سبيل المثال يمكن لهذه الرحلات أن تُسهم في تعزيز الوعي بالمسؤولية العالمية المشتركة تجاه كوكب الأرض من خلال "تأثير النظرة الشاملة" الذي يشعر به رواد الفضاء عند رؤية الأرض ككل، هذا الوعي يمكن أن يكون أساسًا لتعزيز قيم مثل السلام، والتعاون الدولي، وحماية البيئة، لكن هذا التأثير يظل محدودًا إذا لم تُصمم هذه الرحلات لتكون في متناول الجميع، بما في ذلك العلماء والمفكرون والناشطون من الدول الأقل تقدمًا.

وأضاف الخبير الحقوقي أن التحدي الحقيقي هنا يكمن في إيجاد توازن بين الاستفادة التجارية من السياحة الفضائية وتحقيق قيم العدالة والمساواة يمكن للشركات الكبرى أن تلعب دورًا إيجابيًا من خلال استحداث مبادرات تدعم مشاركة أوسع، على سبيل المثال، يمكن تخصيص جزء من الأرباح لدعم أبحاث علمية فضائية في الدول النامية، أو تقديم منح تعليمية للشباب المهتمين بالعلوم الفضائية، في المقابل يتعين على الدول الكبرى تطوير أطر تنظيمية تفرض على الشركات احترام قيم الشفافية والمساواة في هذا القطاع.

وأتم: إذا لم يتم اتخاذ خطوات جادة نحو دمج الفضاء كجزء من التراث المشترك للبشرية فقد نشهد مستقبلاً يكون فيه استكشاف الفضاء امتدادًا لعدم المساواة التي تعاني منها البشرية على الأرض الفضاء، بما يحمله من إمكانات لتغيير مسار التاريخ البشري، يجب أن يكون فرصة لإعادة التفكير في القيم العالمية وتطبيقها في هذا الأفق الجديد، بدلاً من أن يصبح رمزًا جديدًا للاحتكار والهيمنة الاقتصادية.

تحديات العدالة الإنسانية

وقالت هبة أسد، مدير شركة متخصصة في الطاقة المتجددة وأنظمة التحكم الذكية، إنه مع التطور المتسارع للأنظمة الذكية أصبح استكشاف الفضاء محور اهتمام جديد للعلماء والشركات، ليس فقط من منظور علمي بل أيضًا كفرصة اقتصادية هائلة، ومع ذلك فإن التساؤل الأهم يكمن في مدى إتاحة هذه الفرصة للجميع، هل يمكن أن يتحول استكشاف الفضاء إلى مساحة تشاركية تجمع البشرية، أم سيبقى امتيازًا حكرًا على الأغنياء؟

وتابعت أسد، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن الأنظمة الذكية تلعب دورًا جوهريًا في خفض تكاليف استكشاف الفضاء، فمن خلال تصميم الروبوتات ذاتية التشغيل، وتقنيات تحسين الوقود، وخوارزميات التعلم الآلي لتحليل البيانات، بات من الممكن تقليل النفقات بشكل كبيرـ ورغم ذلك لا تزال تكلفة الرحلات الفضائية والسياحة الفضائية بعيدة عن متناول غالبية البشر، هذا يثير سؤالًا حقوقيًا جوهريًا: هل التكنولوجيا، التي تعد محركًا للتقدم البشري، يمكن أن تظل حكراً على فئة اقتصادية معينة؟ حتى الآن، لا يزال استكشاف الفضاء بعيدًا عن هذا الهدف، فالنفقات المرتفعة ليست مجرد عائق مالي؛ بل تعكس فجوة في الوصول إلى الموارد التكنولوجية والخبرات العلمية.. هذه الفجوة تعيد إنتاج التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية الموجودة على الأرض في الفضاء.

وقالت إن السياحة الفضائية تقدم نموذجًا مثيرًا للجدل من جهة، يمكن أن تساهم في توسيع نطاق فهم البشرية وتقديرها لمدى ضآلة وجودنا في هذا الكون الواسع، وهو أمر يعزز التضامن الإنساني ومن جهة أخرى، قد تتحول إلى أداة لتعزيز الانقسام الاجتماعي، إن الاستفادة من أنظمة الذكاء الاصطناعي لتطوير حلول منخفضة التكلفة للسياحة الفضائية، مثل تحسين كفاءة الوقود أو تطوير منصات إطلاق أقل تكلفة، يمكن أن يساهم في فتح المجال أمام أعداد أكبر من البشر، ومع ذلك، فإن التحدي يكمن في إيجاد نموذج اقتصادي يوازن بين الأرباح والتوسع الشامل.

وأكدت هبة أسد أن التقنيات الذكية توفر فرصة أيضًا لتعزيز ثقافة حقوق الإنسان في استكشاف الفضاء.. ويمكن استخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتحديد الأولويات الإنسانية في برامج استكشاف الكواكب، مثل البحث عن مصادر جديدة للمياه أو الطاقة التي يمكن أن تفيد البشرية ككل، لكن هذا يتطلب إطارًا عالميًا يدعم الوصول العادل للبيانات التي يتم جمعها من الفضاء، وهو أمر يشكل تحديًا في ظل الهيمنة الحالية للدول الغنية والشركات الكبرى على الموارد الفضائية.

وأشارت إلى أن هناك بُعداً آخر مهماً يرتبط بالتنظيم القانوني والأخلاقي؛ يجب أن تواكب الأنظمة الذكية، التي تسهم في دفع استكشاف الفضاء قدمًا، مبادئ الشفافية والمساءلة، ومن غير المقبول أن تصبح هذه الأنظمة أداة لاحتكار المعلومات أو لتطوير تقنيات عسكرية تهدد السلم العالمي.. هذا يتطلب إنشاء أطر تنظيمية دولية تضمن أن يظل الفضاء ملكًا مشتركًا للبشرية، كما هو منصوص عليه في معاهدة الفضاء الخارجي لعام 1967.

وأتمت: استكشاف الفضاء يحمل إمكانات غير محدودة، لكنه يحتاج إلى رؤية إنسانية شاملة، الأنظمة الذكية ليست مجرد أدوات لتسريع هذه العملية، بل يمكن أن تكون حافزًا لإعادة التفكير في كيفية توزيع المنافع بطريقة عادلة وشاملة، إذا ما استخدمنا هذه التقنيات لتعزيز حقوق الإنسان، يمكن أن يصبح الفضاء نموذجًا للتعاون الإنساني، بدلاً من أن يكون امتدادًا للصراعات الأرضية والانقسامات الاجتماعية.

 

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية