بين الحفاظ على القيم والإضرار بالحقوق.. جدل حول قرار ترامب بشأن المتحولين جنسياً
بين الحفاظ على القيم والإضرار بالحقوق.. جدل حول قرار ترامب بشأن المتحولين جنسياً
أثار قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي يعترف فيه بجنسين فقط؛ الذكر والأنثى، كتصنيفين رسميين في السياسات الحكومية الأمريكية، جدلًا واسعًا في الأوساط الحقوقية والاجتماعية داخل الولايات المتحدة وخارجها.
ويُعيد القرار الذي حمل اسم “الدفاع عن المرأة من التطرف الأيديولوجي بين الجنسين وإعادة الحقيقة البيولوجية إلى الحكومة الفيدرالية”، تعريف السياسات الفيدرالية المتعلقة بالهوية الجنسية ويضع قيودًا جديدة على الاعتراف بالهويات الجندرية غير الثنائية، هذه الخطوة أحدثت تداعيات واسعة النطاق، امتدت من السجون الأمريكية إلى المنظمات الحقوقية العالمية، مع تضارب الآراء حول آثارها.
ويشير قرار ترامب إلى ضرورة اعتماد مصطلح “الجنس” بدلاً من “النوع الاجتماعي” في الوثائق والسياسات الرسمية، وبناءً على ذلك بات مطلوبًا أن تعكس الوثائق الحكومية -مثل جوازات السفر- الجنس البيولوجي المسجل عند الولادة.
وفقًا لمركز “بيو” للأبحاث، فإن نحو 1.6% من البالغين في الولايات المتحدة يعرفون أنفسهم كعابرين جنسياً أو غير ثنائيي الجنس، هذا يعني أن القرار يؤثر مباشرة على مئات الآلاف من الأفراد الذين قد يجدون أنفسهم مضطرين للتعامل مع هويات قانونية لا تعكس هويتهم الحقيقية، وهو توجه يعيد الولايات المتحدة إلى سياسات أكثر تحفظًا، تتناقض مع السياسات التي اعتمدتها إدارة الرئيس جو بايدن، والتي سمحت للمواطنين الأمريكيين باستخدام خيار “X” كعلامة لجنسهم في جوازات السفر والوثائق الرسمية.
قضايا مثيرة للقلق
تداعيات القرار على قطاع السجون كانت من بين أكثر القضايا إلحاحًا وإثارة للقلق، يفرض النظام الجديد إيداع السجناء في منشآت تتوافق مع جنسهم البيولوجي المسجل عند الولادة بدلاً من هويتهم الجندرية تشير تقارير المركز الوطني لمكافحة العنف ضد النساء إلى أن ما يقرب من 30% من العابرين جنسياً في السجون الأمريكية تعرضوا للاعتداء الجنسي، مقارنة بنسبة 4.4% للسجناء عمومًا، هذا التفاوت الصارخ يُظهر بوضوح الخطر المتزايد الذي يواجهه الأفراد العابرون في السجون تحت السياسات الجديدة، حيث يتم تجاهل احتياجاتهم الأمنية والجسدية.
وعلى صعيد الرعاية الصحية، يعاني العابرون جنسياً من تحديات كبيرة في الوصول إلى الخدمات الصحية التي تناسب احتياجاتهم، وفقًا لدراسة أجرتها جمعية الطب الأمريكية (AMA) في عام 2023، فإن 45% من العابرين جنسياً واجهوا تمييزًا عند طلب الرعاية الصحية، القرار الجديد قد يؤدي إلى تفاقم هذه التحديات، حيث إن الأنظمة الصحية ستُجبر على اتباع التصنيفات البيولوجية فقط، مما يحرم العديد من العابرين من الحصول على العلاجات الهرمونية أو العمليات الجراحية التي يحتاجون إليها.
تعد تداعيات القرار على المستوى الدولي مثار اهتمام واسع أيضًا، في العديد من الدول، تعتمد المنظمات الحقوقية المحلية على الدعم المالي والتقني المقدم من الولايات المتحدة، على سبيل المثال، توفر الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) دعمًا ماليًا كبيرًا للمبادرات التي تعزز حقوق العابرين جنسياً والمساواة الجندرية.
في كينيا، حيث لا يُعترف قانونياً بالأشخاص العابرين جنسياً، يعتمد العديد من النشطاء على هذا الدعم لتقديم خدمات الرعاية الصحية والدعم النفسي والاجتماعي… باتسي جيثينجي، ناشطة عابرة جنسياً من نيروبي، أكدت أن “القرار التنفيذي الأمريكي قد يؤدي إلى وقف هذا الدعم الحيوي”، مما يزيد من هشاشة المجتمعات المهمشة.
جدل حول حقوق الهوية الجندرية
يأتي القرار التنفيذي الأمريكي في وقت يشهد فيه العالم تطورات متباينة بشأن حقوق الهوية الجندرية على الرغم من أن 21 دولة، بما في ذلك الأرجنتين وباكستان ونيبال، اعترفت قانونيًا بحق الأفراد في تحديد جنسهم بأنفسهم دون موافقة قضائية أو طبية، إلا أن السياسات الأمريكية الجديدة قد تؤدي إلى تراجع هذا الاتجاه العالمي.
جوليا إيرت، المديرة التنفيذية لمنظمة “آي إل جيه إيه وورلد”، حذرت من أن “القرار قد يشكل سابقة خطيرة تُلهم قادة آخرين حول العالم لاعتماد سياسات تمييزية مماثلة”.
وعلى الرغم من الانتقادات الحقوقية، لقي القرار ترحيبًا من قبل الجماعات المحافظة والدينية التي ترى فيه إعادة تأكيد للقيم التقليدية؛ الأسقف جون برايز دانيال، نائب رئيس زمالة حركة الخمسينية البروتستانتية في نيجيريا، أشاد بالقرار، قائلاً إنه “خطوة نحو إعادة التوازن المجتمعي وحماية الهوية الأسرية التقليدية” في المقابل، اعتبرت منظمات حقوق الإنسان أن هذه السياسات تغذي خطاب الكراهية ضد الأقليات الجنسية وتعرقل جهود التقدم الاجتماعي.
ولا يمكن تجاهل الجانب الاقتصادي للقرار، حيث خصصت إدارة بايدن ميزانية قدرها 2.6 مليار دولار في عام 2023 لدعم برامج التنوع والمساواة الجندرية عالميًا، هذه المبالغ تُستخدم لتمويل مشاريع توفر الدعم القانوني والصحي والنفسي للأفراد العابرين والمجتمعات الهشة، فتقليص أو إيقاف هذه البرامج بسبب السياسات الجديدة قد يؤدي إلى فقدان آلاف الأشخاص للدعم الذي يعتمدون عليه، مما يفاقم من مشكلاتهم الاقتصادية والاجتماعية.
في الهند، التي تعترف قانونياً بجنس ثالث يُطلق عليه “الهجرة”، يعبر النشطاء عن قلقهم من تأثير القرار الأمريكي على الدعم الدولي الذي تتلقاه مجتمعاتهم، روهيت داسغوبتا، أستاذ مساعد في قسم النوع والجنس بكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، أشار إلى أن “السياسات الأمريكية الجديدة قد تؤدي إلى تراجع الدعم المالي والتقني المقدم للمنظمات الحقوقية في جنوب آسيا، مما يضعف قدرتها على مواجهة التحديات المحلية”.
وعلى المستوى القانوني، يواجه القرار التنفيذي طعونًا قضائية داخل الولايات المتحدة “الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية” (ACLU) وصف القرار بأنه انتهاك للدستور، حيث يتعارض مع حقوق الأفراد في التعبير عن هويتهم، تشير التوقعات إلى أن هذه القضية ستصل إلى المحكمة العليا، حيث ستحدد نتائجها مستقبل السياسات المتعلقة بالهوية الجندرية في الولايات المتحدة وربما تؤثر على السياسات العالمية.
تراجع حقوقي يعمّق التمييز
وقال خبير حقوق الإنسان البحريني، عبد الله بن زيد: إنه ومن وجهة نظر الغرب وحقوق الإنسان فإن القرار التنفيذي الذي أصدره الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والذي يعترف بجنسين فقط هما الذكر والأنثى، يعكس نهجاً سياسياً يميل إلى تبسيط قضية معقدة ومتشعبة ترتبط بحقوق الإنسان والكرامة الإنسانية، وهم يرون أن هذا القرار خطوة للوراء تتجاهل الجهود العالمية لتعزيز مبادئ الشمولية والمساواة واحترام الهويات المتنوعة، وهو ما يتعارض مع الأسس التي قامت عليها منظومة حقوق الإنسان الدولية، فالمادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تؤكد أن "جميع الناس يولدون أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق"، هذا النص يشمل ضمنياً كل الأفراد بغض النظر عن هويتهم الجنسية أو الجندرية.
وتابع الحقوقي البحريني، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن قرار ترامب بتحديد الجنس على أساس التصنيف البيولوجي عند الولادة، وفقًا لمبادئ حقوق الإنسان، يتجاهل الحق الأساسي في التعبير عن الهوية الذاتية، وهو أمر جوهري لتعزيز الكرامة الفردية، فحرمان الأفراد من الاعتراف بهويتهم الجندرية يتناقض مع مبدأ احترام الذات الإنسانية ويضعف قدرتهم على ممارسة حقوقهم بشكل متساوٍ، كما يعكس القرار فهماً محدوداً لمفهوم النوع الاجتماعي "الجندر" والذي لا يمكن حصره في تصنيفين فقط.
وقال إن منظمة الصحة العالمية والعديد من الهيئات الدولية الأخرى تعترف بأن الهوية الجندرية تمتد عبر طيف واسع يعبر عن التنوع الإنساني، ففرض تصنيف جامد يتجاهل هذا الطيف يعد تقليلاً من شأن الفهم العلمي والتقدم الحقوقي الذي تحقق خلال العقود الماضية، مشيرًا إلى أن القرار يتعارض مع مبدأ عدم التمييز الذي يعد حجر الزاوية في القوانين الدولية لحقوق الإنسان، المادة الثانية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تنص على أنه "لكل إنسان حق التمتع بكل الحقوق والحريات دون أي تمييز"، استبعاد أو تهميش الأفراد الذين لا يتماهون مع التصنيف الثنائي للجنس يؤدي إلى خلق بيئة تمييزية تمنعهم من الوصول إلى حقوقهم الأساسية، بما في ذلك التعليم، والرعاية الصحية، والعمل، والاعتراف القانوني بهويتهم.
وشدد عبد الله بن زيد، على أن تداعيات هذا القرار تمتد أيضاً إلى الحريات الفردية التي تشمل حرية التعبير والحق في المشاركة المجتمعية، إغلاق البرامج والمبادرات التي تدعم التنوع والمساواة، ومنح موظفي الحكومة المرتبطين بها إجازات إدارية، يعكس سياسة قمعية تهدف إلى إسكات النقاش حول هذه القضايا المهمة، هذه الخطوة ليست فقط تقويضاً لحقوق الأفراد، بل هي أيضاً هجوم على الجهود المؤسسية التي تسعى إلى بناء مجتمع أكثر شمولاً وعدلا.
وقال إنه في سياق السجون، حيث يتم تقسيم الأفراد بناءً على الجنس، يمكن أن يؤدي هذا القرار إلى مزيد من الانتهاكات لحقوق الأشخاص العابرين جنسياً؛ وضع الأفراد في مرافق لا تتماشى مع هويتهم الجندرية يعرضهم لخطر العنف الجسدي والنفسي، ويعد انتهاكاً واضحاً للمادة الخامسة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تحظر "المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة".
وأتم: بصورة عامة، فإن هذا القرار يشكل عودة إلى الوراء في سياق الجهود الحقوقية المبذولة لتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية، بدلاً من تعزيز قيم المساواة والتنوع، يعزز القرار سياسات الإقصاء التي تمس بجوهر حقوق الإنسان، فمعالجة القضايا المتعلقة بالنوع الاجتماعي تتطلب نهجاً مبنياً على الحوار، والاعتراف بالتنوع، واحترام الكرامة الإنسانية لكل فرد، وليس تجاهلها تحت مسمى "الحقيقة البيولوجية".
تحديات قانونية واجتماعية للقرار
قال أستاذ القانون الدولي، فهمي قناوي، إن القرار الذي صدر بشأن الدفاع عن المرأة من التطرف الأيديولوجي بين الجنسين وإعادة الحقيقة البيولوجية إلى الحكومة الفيدرالية يعكس في جوهره تحولاً ثقافياً وقانونياً مثيراً للجدل في الولايات المتحدة، هذا القرار لا يتناول فقط مسألة الجنس والهوية الجنسية، بل يضع أيضًا أسسًا لفهم قانوني وسياسي جديد حول طبيعة التمييز بين الأجناس في سياقات اجتماعية وإدارية.
وقال قناوي، في تصريحات لـ"جسور بوست": من خلال هذا القرار، تبرز قضية تعريف "الجنس" بشكل قاطع بوصفه التصنيف البيولوجي الثابت، وهو ما يتعارض مع المفاهيم الحديثة التي طرحتها الحركات الاجتماعية والمدافعة عن حقوق الإنسان، والتي تسعى إلى إعادة النظر في التصنيفات التقليدية للجنس والنوع الاجتماعي، فالتأكيد على أن الجنسية يجب أن تستند فقط إلى التصنيف البيولوجي عند الولادة يحد من الاعتراف بالتنوع الإنساني الذي لا يمكن اختزاله إلى مجرد ثنائية بيولوجية جامدة.
وتابع، "إذا ما نظرنا إلى ذلك من زاوية القانون الدولي، يمكن أن نرى فيه تحديًا لبعض الالتزامات التي تفرضها الاتفاقيات الدولية مثل (اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة) (CEDAW)، التي تنص على ضرورة تحقيق المساواة بين الجنسين في جميع المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بل إن العديد من الدول قد أدرجت في قوانينها الخاصة التوسع في تعريف "الجنس" ليشمل الهوية الجنسية أو النوع الاجتماعي، وهي خطوة تهدف إلى ضمان حماية الأفراد من التمييز القائم على الهوية الجنسية".
وأشار إلى أن توجيه القرار بعدم السماح باستخدام مصطلح "النوع الاجتماعي" في الوثائق الرسمية يعكس رغبة في العودة إلى تعريف ضيق ومحدد للجنس، لكن هذه الرؤية قد تفتح المجال أمام تحديات قانونية جديدة، خاصة في حال مواجهة قوانين خاصة بالدول أو حتى الطعون الدستورية ضد مثل هذا التوجه، حيث تُعتبر الحريات الفردية وحماية الحقوق الإنسانية جزءًا أساسيًا من النظام القانوني في العديد من الدساتير، وفي ما يخص الإجازات المدفوعة للأجور للموظفين العاملين في برامج التنوع والشمول، يُستشف من هذه الفكرة فرض سياسة تمييزية قد تؤثر على قدرة هذه البرامج على استمرار عملها بشكل فاعل.
واستطرد، أنه يمكن القول إن هذا القرار يضع قيودًا على حرية التنظيم الحكومية في ظل التزامات دولية لتوسيع نطاق مفاهيم المساواة، وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى دور "إعلان حقوق الإنسان" الذي صادقت عليه معظم الدول في الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث ينص على حقوق الأفراد في الاختيار الحر والمتساوي، يُضاف إلى ذلك أن التغييرات المتسارعة في سياسات الهوية الجنسية على الصعيد الدولي قد أثرت في تشكيل القوانين الوطنية، فالعديد من الدول الغربية قد تبنت مفاهيم أكثر شمولية للأشخاص غير الثنائيين، وهي تعترف اليوم بحق الأفراد في تحديد هويتهم الجنسية بشكل مستقل عن التصنيف البيولوجي، ويتناقض التوجه الوارد في القرار الأمريكي مع هذه الحركات التي ترى أن الهوية الجنسية ليست ثابتة بل مرنة، يمكن أن تتغير مع الزمن.
وقال قناوي: إن الأمر الأكثر إثارة للقلق في الغرب من هذا القرار هو تجاهل تأثيراته المحتملة على الأفراد الذين لا ينتمون إلى التصنيفات الثنائية التقليدية، مثل الأشخاص المتحولين جنسياً أو غير الثنائيين، إذ يتجاهل ذلك واقع أنهم قد يواجهون تحديات هائلة في محاولاتهم للحصول على حقوقهم الأساسية في التعبير عن هويتهم الجنسية.
وأتم: يضع هذا القرار الولايات المتحدة في مواجهة مع التطورات الدولية بشأن قضايا الهوية الجنسية والمساواة بين الجنسين، ويجب أن يعاد النظر فيها من خلال الحوار المفتوح مع الخبراء القانونيين والمجتمع المدني لتقديم حلول متوازنة تراعي التحديات القانونية والاجتماعية التي تنشأ في هذا المجال.