التعايش الإنساني بين القانون والقيم.. كيف نجحت دول في تجاوز النزاعات؟

الإمارات وجنوب إفريقيا ورواندا نماذج ناجحة في التعايش والأخوة الإنسانية

التعايش الإنساني بين القانون والقيم.. كيف نجحت دول في تجاوز النزاعات؟
الأخوة الإنسانية - أرشيف

رغم تصاعد النزاعات العرقية والدينية والسياسية في مناطق عديدة من العالم، برزت بعض الدول والمجتمعات كنماذج ناجحة استطاعت تجاوز ماضيها العنيف وبناء نسيج اجتماعي قائم على التعايش والاحترام المتبادل

ولم تأتِ هذه النماذج من فراغ، بل كانت نتيجة سياسات واعية، وإرادة سياسية حقيقية، وإجراءات عملية مستندة إلى العدالة الانتقالية، والتنمية الاقتصادية، وبرامج المصالحة الاجتماعية.

وتُعد رواندا مثالًا على نجاح التعايش بعد واحدة من أبشع المجازر في التاريخ الحديث، فخلال 100 يوم من عام 1994، قُتل أكثر من 800 ألف شخص، معظمهم من أقلية التوتسي، على يد ميليشيات الهوتو المتطرفة، ورغم حجم الدمار والجرح العميق في النسيج المجتمعي، استطاعت البلاد إعادة بناء نفسها عبر نموذج فريد من العدالة والمصالحة. 

اعتمدت رواندا على محاكم الغاتشاتشا التقليدية، والتي عالجت أكثر من 1.2 مليون قضية، حيث أُتيحت للجناة فرصة الاعتراف بجرائمهم وطلب الصفح من الضحايا وعائلاتهم، ووفقًا لتقرير صادر عن "المعهد الدولي للديمقراطية والمساعدة الانتخابية"، فقد ساهمت هذه المحاكم في إعادة الثقة بين فئات المجتمع وتقليل النزاعات المحتملة بنسبة 70% مقارنة بمناطق لم تُطبَّق فيها هذه التجربة، كما لعبت التنمية الاقتصادية دورًا رئيسيًا، حيث سجّلت رواندا نموًا اقتصاديًا بلغ 7.8% سنويًا منذ 2000، مما أدى إلى تراجع معدلات الفقر من 60.4% عام 2001 إلى 38.2% في 2021، وفقًا للبنك الدولي.

وتعد جنوب إفريقيا مثالا آخر يُظهر كيف يمكن للعدالة الانتقالية أن تكون أداة قوية لتحقيق التعايش السلمي، فبعد عقود من نظام الفصل العنصري، واجهت البلاد تحدي تفكيك نظام قائم على القمع والتمييز دون الوقوع في دوامة الانتقام، وتم تأسيس لجنة الحقيقة والمصالحة برئاسة ديزموند توتو، حيث استمعت إلى شهادات الآلاف من الضحايا والجناة، ووفّرت فرصة للمجتمع للاعتراف بالجرائم الماضية وبناء مستقبل مشترك. هذه الآلية، رغم بعض الانتقادات، ساعدت في الحد من العنف السياسي بنسبة 50% بين 1994 و2004، بحسب تقرير "المركز الدولي للعدالة الانتقالية"، كما ارتفع مؤشر ثقة المواطنين في المؤسسات الحكومية بنسبة 42% بين 1995 و2010 وفق دراسة أجراها "معهد الدراسات الأمنية".

لا تقتصر نماذج التعايش الناجح على إفريقيا فحسب، بل نجدها أيضًا في أوروبا وآسيا، فالبوسنة والهرسك، التي شهدت حربًا أهلية مدمرة بين 1992 و1995، تبنّت نموذجًا قائمًا على تقاسم السلطة بين المجموعات العرقية المختلفة، حيث تم تقسيم البلاد إلى كيانين رئيسيين، اتحاد البوسنة والهرسك وجمهورية صرب البوسنة، تحت سلطة حكومة مركزية واحدة، ورغم التحديات السياسية والاقتصادية، فقد ساهم هذا النظام في تقليل النزاعات المسلحة إلى الصفر منذ نهاية الحرب، وارتفعت نسبة الزيجات المختلطة بين العرقيات المختلفة من 4% عام 2000 إلى 17% في 2020، وفقًا لمركز البحوث الاجتماعية في سراييفو.

وتمثل ماليزيا تجربة ناجحة في التعددية الثقافية والتعايش بين العرقيات المختلفة، حيث يعيش الملايو والصينيون والهنود في إطار دولة واحدة رغم اختلافاتهم الثقافية والدينية، وقد ساعدت السياسات الحكومية التي شجّعت على التوازن الاقتصادي بين المجموعات العرقية المختلفة في الحد من التوترات الاجتماعية.

في عام 1970، كان الملايو، الذين يشكّلون الأغلبية السكانية، يمتلكون 2.4% فقط من الثروة الوطنية، بينما ارتفعت هذه النسبة إلى 23.5% بحلول عام 2015 بفضل برامج التمكين الاقتصادي ووفقًا لتقرير "البنك الآسيوي للتنمية"، فإن سياسة "الاقتصاد الجديد" الماليزية ساهمت في تقليص الفجوة الاقتصادية بين المجموعات العرقية بنسبة 60% خلال ثلاثة عقود.

التعايش في الإمارات

دولة الإمارات العربية المتحدة تُعد نموذجًا فريدًا في المنطقة العربية في ما يخص التعايش بين الجنسيات والثقافات المختلفة، حيث تستضيف الإمارات أكثر من 200 جنسية تعيش بانسجام، ووفرت الدولة بيئة قانونية واجتماعية قائمة على التسامح والانفتاح الثقافي.

ووفقًا لـ"مؤشر التسامح العالمي" الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام، تحتل الإمارات المرتبة الأولى عربيًا والثالثة عالميًا من حيث مستوى التسامح بين الثقافات المختلفة، كما أن إعلان عام 2019 عامًا للتسامح، وإنشاء وزارة خاصة للتسامح، وجهود أخرى عديدة قامت بها الدولة خلال السنوات الماضية، تعكس توجهًا حكوميًا لتعزيز هذه القيم على المستويين المحلي والعالمي.

وفي كندا، فقد تبنّت الحكومة سياسة التعددية الثقافية منذ سبعينيات القرن الماضي، مما جعلها واحدة من أكثر الدول اندماجًا وتنوعًا عرقيًا في العالم، وتشير بيانات التعداد الكندي لعام 2021 إلى أن أكثر من 23% من سكان كندا وُلدوا خارج البلاد، وهي النسبة الأعلى بين دول مجموعة السبع، كما تُعد كندا من أوائل الدول التي أقرت قوانين صارمة ضد التمييز العرقي والديني، حيث يعاقب القانون الكندي على جرائم الكراهية بعقوبات تصل إلى السجن مدى الحياة، ووفقًا لتقرير "المعهد الكندي لأبحاث السياسات العامة"، فإن هذه السياسات ساهمت في خفض نسبة الجرائم المرتبطة بالكراهية بنسبة 35% بين 2000 و2020.

وتلعب منظمة الأمم المتحدة دورًا رئيسيًا في دعم التعايش الإنساني من خلال مبادراتها العديدة. برنامج "تحالف الحضارات"، الذي تم إطلاقه عام 2005، يعمل على تعزيز الحوار بين الثقافات وتقليل النزاعات الناتجة عن الاختلافات الدينية، ووفقًا لتقرير صادر عن الأمم المتحدة عام 2022، فإن البلدان التي تبنّت برامج التحالف شهدت انخفاضًا في حوادث العنف بين الطوائف المختلفة بنسبة 45% مقارنة بدول لم تتبنَّ هذه المبادرات.

تحديات تواجه مشاريع التعايش

ولا تزال هناك تحديات كبيرة تواجه مشاريع التعايش في أماكن عديدة، فالمجتمعات التي لم تتمكن من تطبيق آليات فعالة للمصالحة تواجه خطر العودة إلى دوامة الصراع. في ميانمار، لم تؤدِّ محاولات المصالحة بعد الجرائم المرتكبة ضد الروهينغا إلى نتائج ملموسة، حيث لا يزال مئات الآلاف من اللاجئين يعيشون في ظروف قاسية، وفقًا لتقرير "المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين".

ويرى خبراء أن النماذج الناجحة للتعايش تثبت أن تجاوز الصراعات ممكن عبر تطبيق سياسات شاملة تُراعي العدالة، وتحقق التنمية، وتضمن الاعتراف المتبادل بين الأطراف المختلفة، كما أن الإرادة السياسية، والمجتمع المدني النشط، والدعم الدولي، تعد جميعها عناصر أساسية لضمان نجاح أي تجربة تهدف إلى تحقيق السلام الاجتماعي. فإذا كان التاريخ قد أثبت أن النزاعات جزء من الطبيعة البشرية، فإن هذه النماذج تؤكد أن التعايش السلمي ليس مستحيلًا، بل هو خيار استراتيجي يمكن تحقيقه عبر سياسات واعية ومستدامة.

تحديات العدالة وحقوق الإنسان

قال الخبير الحقوقي والبرلماني البحريني السابق، علي بن زيد، إن التعايش الإنساني الناجح ليس مجرد حالة عابرة من السلم الاجتماعي، بل هو نتاج مسار طويل من الاعتراف المتبادل بالحقوق والواجبات، وترسيخ قيم العدالة والمساواة، واحترام التنوع. حين نبحث عن النماذج الناجحة، لا يكفي أن نستعرض قصص المصالحة الوطنية، بل ينبغي أن نفحص الأسس التي قامت عليها، ونسأل ما إذا كانت قابلة للاستدامة، أم أنها مجرد تسويات مؤقتة أُجبرت عليها الشعوب تحت ضغط الحاجة السياسية أو الاقتصادية، حقوق الإنسان، بوصفها الإطار الأخلاقي والقانوني الأشمل، تمثل العمود الفقري لأي تجربة تعايش ناجحة، لكنها ليست وحدها كافية ما لم تُدعَم بإرادة سياسية صادقة، وعدالة اجتماعية تضمن التوزيع المتكافئ للفرص، وآليات محاسبة تحمي الجميع من العودة إلى دوائر الظلم والتهميش.

وتابع علي بن زيد، في تصريحات لـ"جسور بوست"، تظهر بعض النماذج الناجحة في دول خرجت من صراعات مريرة، مثل جنوب إفريقيا التي اعتمدت على العدالة الانتقالية كوسيلة لتجاوز إرث الفصل العنصري، ورواندا التي أعادت بناء مجتمعها بعد الإبادة الجماعية عبر إعادة دمج الجناة والضحايا في منظومة اجتماعية واحدة، هذه التجارب تبدو ملهمة، لكنها ليست مثالية، إذ لا تزال تعاني من فجوات اقتصادية واجتماعية تهدد استدامتها، ففي جنوب إفريقيا، على الرغم من إنهاء التمييز العنصري رسميًا، لا تزال الفجوة الاقتصادية بين البيض والسود واسعة.

وأشار إلى أن الحق في الهوية الثقافية والدينية واللغوية هو عنصر أساسي في نجاح أي نموذج تعايش، إذ لا يمكن لمجتمع أن يتصالح مع ماضيه إذا كان حاضرُه قائمًا على طمس هوياته المتنوعة أو تهميش مكوناته المختلفة. النموذج الكندي في التعددية الثقافية، رغم أنه يُنظر إليه كنموذج ناجح، فإنه ليس خاليًا من الإشكاليات، خصوصًا مع تصاعد الإسلاموفوبيا والعنصرية ضد السكان الأصليين، ما يشير إلى أن نجاح التعايش يحتاج إلى يقظة مستمرة وآليات قانونية حازمة لحماية الفئات الأكثر عرضة للتمييز، وفي المقابل، يمثل لبنان نموذجًا إشكاليًا، فرغم أنه بلد قائم على التعددية الطائفية، فإن نظام المحاصصة السياسية عزز الانقسامات بدلًا من تجاوزها.

وأتم، إذا كان هناك درس واحد يجب استخلاصه من النماذج الناجحة، فهو أن التعايش ليس مجرد قرار سياسي أو اتفاق مرحلي، بل هو عملية مستمرة تستلزم ضمان الحقوق، وتعزيز ثقافة المساواة، ورفض كل أشكال الإقصاء والتمييز. فالتعايش القائم على القمع أو التنازل عن الحقوق الأساسية ليس تعايشًا، بل تأجيلٌ لصراع قادم.

التعايش الإنساني مفتاح الاستقرار

وقالت خبيرة علم الاجتماع والأكاديمية الإماراتية، عائشة الجناني، إن التعايش الإنساني ليس مجرد حالة طارئة أو استثناء في التاريخ البشري، بل هو ضرورة اجتماعية ونفسية لاستقرار المجتمعات وتطورها، في ظل عالم متشابك، تتعدد النماذج الناجحة للتعايش، حيث نجد أنماطًا مختلفة استطاعت تجاوز الخلافات العرقية والدينية والثقافية لبناء مجتمعات أكثر تماسكًا، هذا التعايش لا يقوم فقط على قرارات سياسية أو معاهدات دولية، بل هو انعكاس لبنية اجتماعية متماسكة تدعمها منظومات تربوية وثقافية تعزز قيم التسامح والاعتراف بالآخر.

وتابعت “الجناني”، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن المجتمعات التي تنجح في تحقيق التعايش الفعلي تتسم بقدرتها على تحويل التنوع إلى مصدر قوة، بدلاً من أن يكون عامل انقسام، فعندما يشعر الأفراد بالانتماء لمجتمعهم دون خوف من التهميش أو الإقصاء، يتولد لديهم دافع أكبر للمشاركة الفاعلة في البناء والتطوير. في تجارب مثل رواندا بعد الإبادة الجماعية، نجح المجتمع في تجاوز آلام الماضي من خلال العدالة الانتقالية، حيث لم يكن الهدف الانتقام بل تحقيق مصالحة حقيقية عبر اعتراف الأطراف المختلفة بالجرائم التي وقعت والالتزام بعدم تكرارها، هذا النموذج يظهر أن المجتمعات التي تعتمد نهج المصارحة والمصالحة تمتلك فرصة أكبر لتعزيز الروابط الاجتماعية على أسس متينة.

وقالت إن التعايش الإنساني ينعكس على الأفراد من خلال تعزيز مشاعر الأمان النفسي والاستقرار العاطفي، فالعيش في بيئة تتقبل التنوع وتحتضنه يقلل من مستويات التوتر والعدائية، ويعزز الإحساس بالهوية المتصالحة، وفي المقابل، المجتمعات التي تفتقر إلى التعايش تعاني من مستويات عالية من القلق الجماعي وعدم الثقة بين الأفراد، مما يؤدي إلى تفشي النزاعات الداخلية التي تعيق النمو النفسي والاجتماعي، وأثبتت دراسات أجريت في دول متعددة أن المجتمعات التي تتبنى مناهج تعليمية تعزز الحوار الثقافي والتسامح بين المجموعات المختلفة تتمتع بمعدلات أقل في جرائم الكراهية والعنف الاجتماعي.

وأشارت “الجناني”، إلى أن التداعيات الاجتماعية للتعايش تتجاوز الأفراد لتشمل النسيج المجتمعي ككل. المجتمعات التي تنجح في تحقيق التنوع المتناغم تكون أكثر قدرة على مواجهة الأزمات، سواء كانت اقتصادية أو سياسية، لأنها تمتلك أساسًا من الثقة المتبادلة بين أفرادها، ومن هنا نجد أن الدول التي تعزز قيم المواطنة القائمة على الحقوق المتساوية بدلًا من الهويات العرقية أو الطائفية، تحقق استقرارًا أكبر، والنموذج الكندي على سبيل المثال يوضح كيف يمكن لسياسات التنوع الثقافي أن تعزز الإنتاجية الاجتماعية والاقتصادية، حيث ساهمت استراتيجيات الإدماج في زيادة الابتكار والتفاعل الإيجابي بين مختلف الفئات.

وأتمت، على الرغم من النماذج الناجحة، لا يزال التعايش الإنساني يواجه تحديات عديدة، أبرزها تصاعد الخطابات الشعبوية التي تكرس الانقسام وتعزز النزعات الإقصائية. إن ترسيخ التعايش يتطلب سياسات اجتماعية تعزز العدالة الاجتماعية، وتضمن تكافؤ الفرص بين الأفراد بغض النظر عن خلفياتهم، فالتعايش الحقيقي لا يتحقق عبر الشعارات، بل من خلال ممارسات يومية تعكس قيم التعاون والتضامن، وتضمن حقوق الجميع ضمن إطار مجتمع يحتضن تنوعه ويستثمر فيه كقوة دافعة نحو مستقبل أكثر ازدهارًا.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية