تصاعد خطاب الكراهية في لبنان.. هل يتكرر سيناريو الحرب الأهلية من جديد؟
تصاعد خطاب الكراهية في لبنان.. هل يتكرر سيناريو الحرب الأهلية من جديد؟
بينما كان لبنان يسعى للتعافي من حرب مدمرة أسفرت عن خسائر بشرية كبيرة ودمار واسع طال القرى والمنازل، ظن اللبنانيون أنهم على وشك طي صفحة من الألم استمرت لأكثر من عام ونصف العام.
غير أن الخطاب الطائفي، الذي لطالما شكّل جزءًا من المشهد السياسي والاجتماعي في البلاد، عاد ليبرز مجددًا، ما أثار مخاوف من زيادة التوترات في بلد له تاريخ طويل مع الحرب الأهلية والانقسامات الداخلية.
وفي ظل هذه التطورات، يُثار التساؤل حول مدى تأثير هذا الخطاب على الاستقرار الاجتماعي والسياسي في لبنان، وعن كيفية الحد من الحد من تأثيراته.
وفي وقت يرى كثيرون أن هناك خطاب كراهية موجهاً ضد طائفة معينة في لبنان أوضح رئيس الجمهورية اللبنانية جوزيف عون أنه "ليس هناك حصار على الطائفة الشيعية كما يروج البعض.. والطائفة الشيعية جزء أساسي من الجسم اللبناني وليست غريبة عنه".
"جسور بوست" استطلعت آراء عينة عشوائية من اللبنانيين بين 21 و37 سنة لفهم أسباب الخطاب الطائفي ومخاطره وسبل الحد منه.
وأظهرت النتائج أن 51% يرون أن الأزمة الاقتصادية تعزز الطائفية بسبب انعدام الأمان الاجتماعي والوظيفي، بينما يعتبر 42% أن الإعلام ومواقع التواصل تضخم ذلك الخطاب.
ويرى 33% أن التدخلات الخارجية تجعل لبنان ساحة لصراعات إقليمية تغذي الانقسامات، فيما يربط 24% الطائفية بالتربية والمناهج الدراسية، في وقت يرى 63% أن الحرب الأخيرة أدت إلى تشنج الخطاب الطائفي في البلاد.
وأكد 78% أن الطائفية تؤثر على حياتهم الاجتماعية، و55% يرون أن المحسوبيات الطائفية تلعب دورًا أساسيًا في الاقتصاد.
وعلى صعيد الحلول، طالب 64% بإصلاح النظام السياسي وإنهاء المحاصصة، و53% يدعون لتعزيز التعليم المدني لنشر ثقافة المواطنة، فيما يؤيد 47% وضع قوانين تحدّ من الخطاب الطائفي في الإعلام ومواقع التواصل، بينما يعتقد 30% أن المجتمع المدني قادر على تعزيز الوحدة الوطنية.
السياق التاريخي للخطاب الطائفي
من جانبها، استعرضت الباحثة في العلوم الاجتماعية وعلم الاجتماع السياسي الدكتورة هدى رزق مسار الخطاب الطائفي تاريخيا في لبنان إلى الحرب الأهلية اللبنانية التي امتدت ما بين عامي 1975 و1990 وصولا إلى أحداث مفصلية من بينها صدور القرار 1559 الذي دعا إلى سحب سلاح حزب الله وصولا إلى اغتيال رفيق الحريري عام 2005 والأزمة السياسية التي أدت إلى انقسام اللبنانيين ما بين فريقي 8 و14 مارس، من دون نسيان تأثير حرب 2006 التي اتهم فيها كثر "حزب الله" بامتلاك قرار الحرب والسلم.
وبينما تذكر بأن انخراط حزب الله في الصراع السوري فاقم المشهد بسبب انقسام اللبنانيين ما بين مؤيد لبشار الأسد ومدافع عن الثورة السورية، تعتقد رزق أن مقاومة إسرائيل والتركيبة الطائفية هما أساسي الخلاف بين اللبنانيين.
وتناولت رزق، في حديث مع "جسور بوست"، الحرب الأخيرة التي واجه فيها حزب الله إسرائيل، مشيرة إلى أن "إسرائيل قصدت ضرب البيئة الحاضنة للمقاومة وهي البيئة الشيعية ومناطق الديمغرافيا الشيعية، وقد ترافق الأمر مع تصعيد إعلامي داخلي محابٍ لما تقوم به إسرائيل"، موضحة أن ما بث أظهر وكأن ما "سيأتي بعد الحرب هو التقسيم وليس العيش المشترك".
وتابعت: “لقد برز الخطاب الطائفي والاستعلائي، المستقوي بالتفوق العسكري الإسرائيلي.. ما أدى الى تنافر اجتماعي حاد في الوقت الذي تقوم به إسرائيل بدك المنازل والبنى التحتية في الجنوب اللبناني وتستثني قرى من لون طائفي”.
وفي وقت تؤكد رزق أهمية الحوار وضرورة ألّا تتناقض المواقف السياسية مع المصلحة العامة للبلاد، تشدد على أهمية "الذهاب نحو المواطنة وإلى قانون انتخاب خارج القيد الطائفي ولبنان دائرة انتخابية واحدة حيث يجرى التركيز على البرامج ويتم التصويت لهذه البرامج، كذلك إلغاء الطائفية السياسية في الوظائف من قمة الهرم إلى أسفله، كما من المهم تنظيف البيئة من التمييز الطائفي".
الحوار يعزز التفاهم
بدورها، أكدت رئيسة مؤسسة "أديان"، الدكتورة ديالا طبارة، على جزئية الشرخ الذي ظهر خلال العدوان الأخير على لبنان مذكرة بأن "هناك ضرورة دائمة للحوار، وهذا يجب أن يتم على كل الأصعدة"، مضيفة "نحن في (أديان) نعتقد أن الحوار والاستماع إلى بعضنا بعضا أساسي.. ونحن هنا لا نتحدث عن الحوار الديني (حول الاعتقاد)، بل عن الحوار بين الأشخاص الذين ينتمون لجماعات لديها ذاكرتها التاريخية المحددة.
وقالت إن "هذه الذاكرة التاريخية مشحونة مجتزأة، كون أن لكل جماعة ذاكرتها التي تتناقلها من جيل إلى جيل.. وهذه الذاكرة تؤدي إلى قراءة الحاضر على أساسها. ومع كل حدث تزداد النظرة الخاصة لأي جماعة للأحداث ولعلاقة الآخرين فيها حول ما إذا كان الآخر متقبلا أم مهمشا لها".
وكشفت طبارة في حديث مع "جسور بوست"، عن أن مؤسسة "أديان" لديها مجموعة من القادة الدينيين ضمن ما يسمى منتدى المسؤولية الاجتماعية الدينية يجتمعون ويتحاورون حول القضايا المختلفة ويستمعون لآرائهم المتناقضة، تشير طبارة إلى أن "أكثرية الجماعات في لبنان لديها نظرة بأنها كانت مهمشة، وغالبا ما تكون غاضبة وموجوعة أو تشعر بالمظلومية في فترة زمنية ما".
وأضافت أن الحوار "يخفف من حدة التوتر عند الأشخاص، خاصة عندما يكون هناك من يصغي فعلا ويعترف بأوجاع الآخر"، مضيفة "وأما إذا كان حوار لا يصغي فيه طرف إلى الآخر بشكل جيد وغير مستعد للاعتراف بوجع الآخر ولأنسنته بحيث ينظر إليه كعدو أو نقيض أو شخص لديه وجهة نظر سياسية مختلفة لا يمكن التصالح معها، فعندها لا ينفع الحوار، فالحوار يفيد عندما نأنسن بعضنا بعضا ونعترف بأوجاع واحتياجات بعضنا".
وأوضحت طبارة، أنه "بحسب تجربة مؤسسة أديان والمتخصصين في علم النفس الاجتماعي، فإن كل شعوب العالم عرضة بأن يكون لديها مواقف اقصائية تجاه الآخرين أو طائفية أو عنصرية، وكلما زاد السياق توترا يكون هناك أناس لديهم رفض للآخر وتقوقع على ذاتهم"، مذكرة بأن الشعب اللبناني من الشعوب التي تعيش تنوعا وهذا ما يسهم في التخفيف "من الصور الخاطئة عن الآخر".
وفي وقت تشير إلى أن “المشاحنات السياسية والأمنية والاقتصادية هي التي تزيد من إقصاء الآخر أو رفضه”، ترى طبارة في حديث "أنه "من بعد الحرب الأهلية، في كل مرة نجد أن البلد يُجر نحو الحرب الأهلية (مرة أخرى) يكون هناك وعي يوقف الناس. بمعنى أن (الاضطرابات الأمنية) تحدث لمدة أسبوع على الأكثر.. ولكن الأمور تعود لتهدأ. وهذا يبرهن على أن الشعب اللبناني تعلم من الحرب الأهلية".
ووفقاً لدراسة أعدها الباحث اللبناني، غابي مارون، فقد تبيّن أن مجموع حالات الزواج المختلط في محافظة الشمال (كنموذج) بلغت 3161 حالة زواج، انقسمت بين 1656 شابًا مسلمًا تزوجوا من صبايا مسيحيات، و1505 شباب مسيحيًين تزوّجوا من صبايا مسلمات.
وفي حين تصدّرت طرابلس الأعداد بـ1140 حالة، فإن عكار جاءت في المرحلة الثانية بـ776 حالة، لتتوزع الحالات الأخرى وفق الآتي: 369 في البترون، 303 في زغرتا، 329 في الكورة، 164 في المنية - الضنية و101 في بشري.
الإعلام والتعليم والتوعية
وترى مؤسِسة ورئيسة منظمة "إعلام للسلام- ماب"، فانيسا باسيل، أن النظام السياسي في لبنان قائم على الطائفية وأن قانون الأحوال الشخصية ليس مدنيا، ما يجعل حياة المواطنين قائمة على الطائفية، موضحة أنه "وعلى الرغم من أن اتفاق الطائف ينص على إلغاء الطائفية السياسية، فإنه لا يوجد تطبيق لهذا النص".
وبينما تدعو باسيل في حديث مع "جسور بوست" لتطبيق ذلك النص، تعتقد أنه "لا يوجد وعي في المجتمع.. فالناس متأثرة بالطائفية بسبب الثقافة الطائفية في البلد، وبالتالي لكي نلغي الطائفية علينا أن نوعي عقلية الناس، ليتوقف الناس عن رؤية الأطراف الأخرى على أنها عدو، وهذا يبدأ من خلال التربية في البيوت والمدارس والجامعات".
وفي حين ترى باسيل أن النظام التعليمي قد يسهم في تأجيج الصراعات أو العكس توضح أنه “يجب على على وزارة التربية أن تقوم بتطوير النظام التعليمي خصوصا أن البلد يتراجع نحو الخلف في ظل أزماته.. عدا عن أن الكراهية باتت تزداد في المجتمع”، متسائلة "ما الذي يمنع من أن يكون هناك صدام مرة أخرى؟! خصوصا بعد الأحداث الأخيرة التي حصلت في لبنان والتي بينت أن الأمور لا تحتمل أي تدهور بعد".
وتابعت قائلة "إن تغيير مناهج التربوية يجب أن يبدأ من الآن على أن تشمل مواد تعلم الطالب بأن هناك أشخاصا آخرين يعيشون معه في هذا البلد، بحيث يعتاد فكرة الاختلاط والتنوع تقبل الآراء والمعتقدات المختلفة.. كما أنه من الضروري التركيز على مفهوم المواطنة".
واقترحت باسيل "إدخال مادة التربية الإعلامية.. بحيث يتعلم المواطن كيفية قيام بالتفكير النقدي تجاه المواد الإعلامية التي يتلقاها، لكي يميز بين المواد المفيدة وتلك الضارة، وهكذا يستطيع أيضا كيف ومتى يتلاعب الإعلام به.. كما يعيد النظر في ما يتلقاه من دون أن يصدق كل شيء يراه أو يسمعه وأن يتأكد منه".
وترى أنه "لا بد من حملات توعية مستمرة حول خطاب الكراهية والطائفية وحول أهمية الحوار والانفتاح بحيث تصبح هذه الأمور جزءاً من ثقافتنا وليس الكره والسلاح والعنف وغير ذلك".
وأكدت باسيل أهمية دور الإعلام، مشيرة إلى أنه "يلعب دورا سلبيا في الأزمات التي نعيشها في البلاد، بدلا من أن يكون جزءا من الحل.. فبدلا من أن يكون سلطة رابعة تمارس الرقابة، فهو يقوم بالعكس"، متسائلة عن الإعلام الذي يضيء على الأمور الإيجابية ويحاول تقريب وجهات النظر ويوعي على تقبل الاختلاف.
وقالت إن "الإعلام الإلكتروني لا يقوم بالدور الصحيح، فإلى الجانب المحتوى الذي ينشر، يوجد غياب لضبط التعليقات والتي تشكل محتوى مؤذيا كونها تشمل التهجم والتحريض الذي يخلو من الاحترام تجاه الرأي الآخر"، مضيفة "وهذا يحتاج لضبط كونه أمر غير مقبول، بل يجب ضبط حرية الرأي والتعبير، فلا بد من يمارس الأفراد أو الوسيلة الإعلامية الرقابة الذاتية على محتواهم.
واختتمت باسيل بالتأكيد على دور وسائل الإعلام في ضبط المحتوى الإعلامي والتوعية على ضرورة احترام الآخر ووجهة نظره مع تقديم الوجهات المختلف من أجل تثقيف الناس، مذكرة بأن "على الدولة أن تضع قوانين لضبط الفضاء الإلكتروني".
حرية التعبير والتشريع
من ناحيتها، أكدت عضو مؤسس للمركز الدولي للملكية الفكرية والدراسات الحقوقية، المحامية أنديرا سمير الزهيري، أن حرية التعبير مصانة في الدستور اللبناني، مشيرة في الوقت نفسه إلى أنها "مشروطة تحت سقف القانون ومناطة به ولا يمكن تجاوزها، إذ إن تجاوزها يؤلف جرما جزائيا يعاقب عليه القانون وخصوصا إذا تجاوزت سمعة الأشخاص وأمنهم وسلامتهم وسلامة أملاكهم، لذلك فإن حرية المرء تقف عند حدود حرية الآخرين، ومن يخالف ذلك عليه اللجوء إلى القضاء المختص".
وأضافت الزهيري في حديث مع "جسور بوست"، أن "دخول المجتمعات العالم الافتراضي والعولمة وانفتاحه على بعض بحيث أصبح كالقرية الصغيرة، ناهيك على دخول الذكاء الاصطناعي، كل هذا التحول يسهم ويسرع انتشار الضرر والخطر والتحريض".
وأوضحت الزهيري، أنه بين "حق وحرية التعبير وخطاب الكراهية خط رفيع"، مشددة على أهمية دور التشريع، وفي هذا الإطار، ترى أنه وعلى الرغم من "أهمية القضاء فإن نقص النص القانوني وتطويره يحول ويعرقل مهمة القضاء، إذ لا عقوبة دون نص قانوني".
توازن الحرية والمحاسبة
بدوره، يرى المحامي علي مراد، أنه "لا حاجة لإعادة تعريف حرية التعبير. فمفهوم حرية التعبير واضح، فهي من الحريات الأساسية المرتبطة بالحريات الفردية والعامة، وضمن هذا القانون تم وضع أطر لتحديد هذا الأمر عندما يتعارض مع النظام العام والمصلحة العامة أو عندما يكون هناك خطاب تحريضي وخطاب كراهية".
وأوضح مراد في حديث مع "جسور بوست"، أن المشكلة "ليست في القوانين في لبنان، أو حتى في مجال تطبيقها. بل المشكلة تكمن في ضرورة عقلنة الحياة السياسية وظهور الأصوات العقلانية التي تستطيع تغيير اللعبة السياسية بطريقة مختلفة"، مشيرا إلى أن في الوقت نفسه يجب أن "يطبق القانون يجب أن على الجميع بشكل صحيح.. فأي خطاب تحريضي يجب أن تتم المحاسبة عليه".
وأضاف مراد، "أعتقد أنه يجب على لبنان أن يعدل القوانين، بحيث تكون المحاسبة على القضايا المتعلقة بحرية التعبير كعقوبة مدنية وليست جزائية، خاصة أن السجن يزيد من صعوبة المحاسبة على عكس ما يعتقد البعض".
يذكر أن لبنان يضم 18 طائفة تتوزع ما بين مسلمين ومسيحيين، وبحسب "الدولية للمعلومات" فإن 62% من اللبنانيين هم من المسلمين، في حين 32% هم من المسيحيين، وتنقسم المناصب الرسمية في البلاد مناصفة بين الديانتين وبين الطوائف على قاعدة العيش المشترك.