«عرب تركيا».. ثالث أكبر مجموعة عرقية تائهة بين مزايا الاندماج ومخاوف الانقراض

«عرب تركيا».. ثالث أكبر مجموعة عرقية تائهة بين مزايا الاندماج ومخاوف الانقراض
عرب في تركيا- أرشيف

بين تحديات الهوية في ظل المتغيرات السياسية والاجتماعية، تتألف تركيا من ثلاث كتل رئيسية من حيث التوزيع العرقي وهم: الأتراك، والأكراد، والعرب، حيث يشكّل العرب ثالث أكبر مجموعة عرقية في البلاد، خاصة في المناطق الجنوبية. 

ورغم امتداد وجودهم التاريخي، فإن لغتهم العربية تراجعت بشكل ملحوظ لصالح التركية، التي تهيمن ثقافياً وسياسياً، وسط غياب أي كيان سياسي يمثّلهم، بخلاف القوميتين التركية والكردية، وتثير سياسات الاندماج الرسمية مخاوف بشأن تلاشي الهوية العربية تدريجياً.

ويرى خبراء أتراك في تصريحات لـ"جسور بوست" أن العرب الأصليين في تركيا لم يطالبوا بحقوق إضافية، لأنهم -وفق وجهة نظرهم- لا يعانون من تمييز قانوني، بل اندمجوا في المجتمع تحت مظلة القومية التركية السائدة. 

ومع ذلك، تشير تقديرات إلى أن المستقبل قد يشهد تبلور كيان سياسي أو قانوني يمثّل العرب، لا سيما في ظل منح الجنسية التركية للعديد من الوافدين العرب خلال العقد الأخير، ما عزّز حجم الكتلة العربية في البلاد، وأدى إلى تنامي حضورهم من خلال جمعيات مختلفة.

التعداد السكاني

في 6 فبراير 2025، أعلنت هيئة الإحصاء التركية عن ارتفاع عدد سكان تركيا من 85,372,377 نسمة عام 2023 إلى 85,664,944 نسمة عام 2024، بزيادة قدرها 292,567 نسمة.

وارتفعت نسبة السكان في المدن الكبرى من 93% عام 2023 إلى 93.4% عام 2024، في المقابل انخفض عدد الأجانب المقيمين في تركيا خلال الفترة نفسها بمقدار 89,996 شخصًا، ليصل إلى 1,480,547 شخصًا، ومع ذلك، لم تقدم الهيئة أي تفاصيل رسمية بشأن التركيبة العرقية للسكان، خاصة في ما يتعلق بالعرب الذين يُعدّون ثالث أكبر مجموعة عرقية في البلاد.

وفي سياق تقدير أعداد العرب، كشف الدكتور ياسين أقطاي، المستشار السابق لرئيس حزب العدالة والتنمية، في مقابلة عام 2020 أن عدد العرب في تركيا ليس 4.5 مليون كما يُشاع، بل يصل إلى ضعف هذا الرقم، مشيرًا إلى أن 10% من سكان البلاد هم من أصول عربية، وأن نصفهم ينحدرون من العائلات العربية التي استقرت في تركيا منذ دخول الإسلام، بينما النصف الآخر من الوافدين الجدد بعد "الربيع العربي".

لا توجد إحصاءات رسمية دقيقة حول أعداد الأتراك من أصول عربية، لكن يُقدَّر أنهم يتمركزون في المناطق الجنوبية والشرقية، لا سيما في ولايات: هطاي، أضنة، مرسين، غازي عنتاب، شانلي أورفا، ماردين، سيرت، باتمان، أديمان، نصيبين، حران، كليس، مرعش، ولواء إسكندرون، إلى جانب انتشارهم في مدن رئيسية مثل إسطنبول وأنقرة بسبب موجات الهجرة الداخلية، 

وينتمي العرب في تركيا إلى تنوع ديني يشمل المسلمين السنة، والعلويين، والمسيحيين، إذ بدأ الوجود العربي في الأناضول منذ عام 600م، مع موجات الهجرة العربية المبكرة، وازداد بشكل ملحوظ خلال العهد العثماني. 

لكن مع تأسيس الجمهورية التركية عام 1923، شهد العرب محاولات طمس لهويتهم، خاصة مع تصاعد النزعة القومية العلمانية التي سعت إلى تقييد استخدام اللغة العربية. ومع ذلك، شهدت الهوية العربية انتعاشًا بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2001، حيث تحسّن مستوى الخدمات المقدمة للعرب، ما عزّز اندماجهم في المجتمع.

وأسهمت موجة الهجرة العربية إلى تركيا بعد 2011 في تعزيز الوجود العربي، وهو ما دفع الجمعية العربية في إسطنبول إلى الإعلان عام 2019 عن تشكيل "اتحاد الجاليات العربية"، بهدف تعزيز التنسيق مع القيادات التركية وتحقيق تمثيل أكثر فاعلية للجاليات العربية، التي يُقدَّر عددها بنحو 5 ملايين شخص، معظمهم من السوريين.

ويواجه العرب في تركيا تحديات تتعلق بالهوية والاندماج، في ظل السياسات الثقافية واللغوية السائدة. وبينما يندمج جزء كبير منهم في المجتمع التركي، تبرز تساؤلات حول مستقبل الهوية العربية وإمكانية تشكيل كيان سياسي أو ثقافي يُعزز حضورهم داخل المشهد التركي المتغير.

تحديات الهوية

تعرضت الثقافة واللغة العربية للتهميش، كما هي حال بقية اللغات والثقافات التي تراجعت خلال حقبة الحزب الواحد في تركيا، حيث كشف المؤرخ التركي إسماعيل ياغجي في تصريحات لوكالة الأنباء العمانية أواخر عام 2023، أن العديد من المدن التركية لا تزال تحافظ على التحدث باللغة العربية إلى جانب التركية، نظرًا لمكانتها الدينية كلغة القرآن الكريم، ورغبة البعض في الحفاظ على لغة الأجداد.

وأضاف ياغجي: "الشعب التركي ينظر إلى اللغة العربية على أنها مقدسة، لأنها لغة القرآن الكريم، ولأن الإسلام جاء بها"، مشيرا إلى أن الحكومة التركية اتخذت في السنوات الأخيرة خطوات لتعزيز تعليم اللغة العربية، حيث يدرس أكثر من مليون طالب اللغة العربية في مدارس "الأئمة والخطباء"، إضافة إلى افتتاح العديد من التخصصات الجامعية التي تُدرَّس بالعربية في المؤسسات الحكومية والخاصة.

وقد بدأت رسميًا بعض المدارس التركية بإدراج حصص للغة العربية ضمن مناهجها، بمعدل يتراوح بين حصتين إلى خمس حصص أسبوعيًا، مع التركيز على تنظيم أنشطة تعليمية جانبية، مثل المسابقات الرياضية والعلمية والترفيهية، لتسهيل تعلم اللغة بشكل أسرع.

على الرغم من التعددية الحزبية في تركيا، فإنه لا يوجد حزب سياسي عربي يمثل العرب الأتراك، حيث يقتصر وجودهم على مشاركات فردية داخل بعض الأحزاب، لا سيما حزب العدالة والتنمية الحاكم، الذي يُعتبر الحزب الأبرز الذي يحتوي العرب، سواء من المواطنين الأصليين أو القادمين بعد الأزمات التي شهدتها المنطقة العربية في العقد الأخير.

غيابٌ وتهميشٌ

وبدوره قال الكاتب الصحفي والنائب السابق رسول طوسون، في تصريح لـ"جسور بوست"، أن تركيا تتمتع بتعددية قومية، لكن القومية التركية تبقى الغالبة، وهي المهيمنة ثقافيًا.

وأوضح طوسون: “القوميات الأخرى اندمجت في الهوية التركية، باستثناء بعض الأكراد الذين تأثّروا بتنظيم (PKK) الإرهابي، المدعوم من القوى الإمبريالية، والذي فشل في تحقيق أهدافه، حتى إن زعيمه طالب بحلِّه الأسبوع الماضي”.

وأضاف: "كل القوميات في تركيا تتمتع بحقوق متساوية، والعرب الأصليون لم يطالبوا بحقوق إضافية، لأنهم لا يشعرون بنقص في الحقوق، فهم جزء لا يتجزأ من المجتمع التركي".

ويرى المحلل السياسي التركي الدكتور مصطفى حامد أوغلو، أن العرب في تركيا لم يكونوا على فكر سياسي موحّد منذ قيام الجمهورية، ويجب التمييز بين العرب السنة في جنوب شرق البلاد، الذين يميلون إلى حزب العدالة والتنمية، والعرب العلويين في منطقة هطاي، الذين يجدون أنفسهم أقرب إلى حزب الشعب الجمهوري المعارض.

وأضاف حامد أوغلو في تصريح لـ"جسور بوست": "بعد قيام الجمهورية التركية، حدث نوع من الانصهار الثقافي، ولم يتم الحفاظ على الهوية العربية بسبب الضغوط التي شهدتها تلك الفترة، ورغم بعض المحاولات الأخيرة لإعادة إحياء الانتماء العربي، فإنها لم تلقَ دعمًا كافيًا".

وأشار إلى أن "الخطاب السياسي التركي يتناول الأكراد والقوميات الأخرى، لكنه نادرًا ما يشير إلى العرب، باستثناء خطابات الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي يؤكد أحيانًا أن تركيا تتكوّن من الأتراك والأكراد والعرب".

وأوضح حامد أوغلو أنه “لا يوجد حزب يمثل عرب تركيا بشكل مباشر، لكن كانت هناك محاولات لإنشاء كيان يضم العرب الأصليين في شكل جمعية وليس حزبًا سياسيًا.. ومع تجنيس آلاف العرب خلال العقد الأخير تغيرت التركيبة السكانية العربية في البلاد”.

يرى حامد أوغلو أنه لا يوجد حتى الآن جهود منظمة لتوحيد العرب، سواء من المواطنين الأصليين أو الوافدين الجدد، مشيرًا إلى أن حزب العدالة والتنمية الحاكم يسعى إلى استقطاب الأصوات العربية، ويعتبرها "خزانًا استراتيجيًا"، حيث سبق أن ضم شخصيات عربية في قوائمه الانتخابية، وسعى إلى تعزيز فرص ترشحهم في الانتخابات.

وأضاف: "العرب في تركيا اندمجوا بشكل كبير في القومية التركية، ولم يعد للغة العربية حضور قوي كما كان في السابق.. لكن في المستقبل، قد نشهد تحولًا إيجابيًا في الوجود العربي داخل المشهد السياسي التركي، ليس بالضرورة عبر تأسيس حزب عربي، ولكن من خلال التأثير في الأحزاب القائمة، حيث يمكن أن تصبح الكتلة العربية قوة انتخابية يُحسب لها حساب، وقد تقلب موازين الانتخابات".

تأثير العرب الوافدين

وتطرق حامد أوغلو، إلى تأثير العرب الوافدين خلال العقد الأخير على العرب الأتراك، موضحًا أنه لا توجد حتى الآن جهود ملموسة لدمجهم في كيان موحد.

ومضى قائلا: "ليس هناك تعاون واضح بين العرب الجدد والقدماء في تركيا، رغم أنني شخصيًا رئيس إحدى الجمعيات.. وحتى الآن، لم تتبلور أي جهود حقيقية لتوحيد الصف العربي داخل البلاد".

وأشار إلى أن التغيرات السياسية في سوريا لعبت دورًا في تخفيف المخاوف السابقة تجاه اللاجئين العرب، ما قد يفتح المجال لمزيد من الانخراط العربي في المجتمع التركي.

ويتجه مستقبل العرب في تركيا نحو تأثير سياسي متزايد، رغم غياب كيان موحد يمثلهم، ومع استمرار انخراطهم في المشهد التركي، سواء من خلال المشاركة الفردية في الأحزاب أو عبر الجمعيات، قد تتحول الكتلة العربية إلى قوة انتخابية بارزة قادرة على التأثير في مسار السياسة التركية في المستقبل.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية