ذوو الإعاقات النفسية.. المحرومون من الاهتمام في مواجهة حزمة من التحديات
خلال الدورة الـ158 لمجلس حقوق الإنسان
تحت ضغوط التمييز والوصم والتنمر وانعدام المساواة والعنصرية، يواجه الأشخاص من ذوي الإعاقات النفسية الاجتماعية، والمنتفعون من خدمات الصحة النفسية، تحديات وعقبات عالمية واسعة، وحواجز اجتماعية مقلقة تمنع الخدمات الأساسية والمرافق التي يحتاجون إليها.
وتفيد منظمة الصحة العالمية التي تعرف الصحة النفسية بوصفها "حالة من الرفاه النفسي التي تمكن الأفراد من مواجهة ضغوط الحياة، والمساهمة في مجتمعاتهم المحلية والوطنية، وأنها حق أساسي من حقوق الإنسان"، بأن أكثر من 75 بالمئة من الأشخاص الذين يعانون اضطرابات نفسية وعصبية وإدمانية في البلدان المنخفضة الدخل والبلدان المتوسطة الدخل، لا يتلقون أي علاج على الإطلاق، بخلاف الوصم والتمييز والانتهاكات الحقوقية.
ومنذ أكثر من عقد، بلورت المنظمة ما سمتها "خطة العمل الشاملة للصحة العقلية"، وهي إطار عمل صُمم لتحسين خدمات الصحة العقلية في جميع أنحاء العالم، وخاصة في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، ويفترض اكتماله بحلول عام 2030.
تحذيرات جديدة
خلال اجتماع مجلس حقوق الإنسان في دورته الـ58، المنعقدة في جنيف حتى 4 أبريل المقبل، أعاد مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، تسليط الضوء على الحقوق المهملة في مجال الصحة النفسية، والانتهاكات التي تفاقم المعاناة وتحدّ من فرص الحصول على العلاج.
وأوضح تقرير تورك أن النساء والفتيات يتأثرن بشكل غير متناسب بالعنف القائم على النوع الاجتماعي، وعدم المساواة في سوق العمل، وتحمل أعباء الرعاية والدعم غير المدفوع الأجر. كما أن فهم الصحة النفسية والرفاه مرتبط بالاعتبارات الثقافية، حيث تتأثر هذه الجوانب بالمعتقدات والقيم والتقاليد.
وفي بعض الدول، يُساء تفسير اضطرابات الصحة النفسية باعتبارها سحراً أو لعنة، مما يعرض الأفراد للعنف وانتهاكات حقوق الإنسان. وتواجه النساء والفتيات أشكالًا متداخلة من التمييز، ما يزيد من خطر تعرضهن للعنف، ويحدّ من إمكانية وصولهن إلى شبكات الحماية.
ويواجه كبار السن والأطفال والأشخاص ذوو الإعاقة والأقليات العرقية والإثنية، إضافة إلى أفراد مجتمع الميم والمهاجرين واللاجئين، أخطار التمييز والإيذاء داخل المؤسسات، وفقاً للتقرير.
وأشار التقرير إلى أن الأشخاص ذوي الإعاقات النفسية والاجتماعية، والمنتفعين من خدمات الصحة النفسية، أكثر عرضة للعنف والاستخدام المفرط للقوة من قبل سلطات إنفاذ القانون.
وأثبتت البيانات أن الأشخاص من أصول إفريقية المصابين باضطرابات نفسية قد تعرضوا بشكل متزايد لاستخدام مفرط للقوة من قبل الشرطة أثناء المواجهات، ما زاد من خطر إصابتهم أو حتى وفاتهم خلال الاعتقال.
وأوصى التقرير الدول والجهات المعنية باعتماد إصلاحات قانونية ومؤسسية، والانتقال من النهج العقابي إلى تدابير تركز على الصحة وحقوق الإنسان. كما دعا إلى إلغاء تجريم الانتحار وتعاطي المخدرات وحيازتها للاستخدام الشخصي، وتوفير بدائل للسجن، والتصدي للوصم الاجتماعي، وضمان إتاحة الرعاية والدعم في الوقت المناسب، واعتماد نهج تصالحي يركز على تقديم خدمات الصحة النفسية المجتمعية بدلاً من العقوبات.
الأكثر إهمالا
من جانبه، أكد المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، الدكتور تيدروس أدهانوم غيبريسوس، خلال إحاطة أممية سابقة لليوم العالمي للصحة النفسية في 10 أكتوبر 2024، أن "الصحة النفسية من أكثر المجالات إهمالاً"، مضيفًا: "لا صحة بدون صحة نفسية".
وأشار غيبريسوس إلى أن عدة بلدان، على اختلاف مستويات دخلها، تخصص موارد ضئيلة للغاية لخدمات الصحة النفسية، موضحًا أن هذه المشكلة تتفاقم بسبب الوصم الاجتماعي المرتبط باضطرابات الصحة النفسية وتعاطي مواد الإدمان، ما يعوق توفير الرعاية اللازمة للأفراد.
وأكد أن منظمة الصحة العالمية، بالتعاون مع الحكومات الوطنية والمحلية، تعمل على توسيع نطاق خدمات الصحة النفسية ودمجها ضمن الرعاية الصحية الأولية. كما شدد على أن مسؤولية أرباب العمل لا تقتصر على حماية صحة وسلامة العاملين الجسدية، بل تمتد أيضًا إلى تعزيز صحتهم النفسية.
على الصعيد العالمي، يعاني شخص واحد من كل سبعة أشخاص تراوح أعمارهم بين 10 أعوام و19 عاماً من اضطراب نفسي، وهو ما يمثل نسبة 15٪ من العبء العالمي للمرض في هذه الفئة العمرية، بحسب تقديرات حديثة لمنظمة الصحة العالمية في أكتوبر 2024.
وبحسب المنظمة، فإن الاكتئاب والقلق والاضطرابات السلوكية هي من بين الأسباب الرئيسية المؤدية إلى المراضة والإعاقة في صفوف المراهقين، فضلاً على أن الانتحار هو ثالث سبب رئيسي للوفاة في صفوف الأشخاص الذين تراوح أعمارهم بين 15 و29 عاماً.
وعلى وجه الخصوص، يتعرض المراهقون الذين يعانون اعتلالات الصحة النفسية للاستبعاد الاجتماعي والتمييز والوصم (ما يؤثر في الاستعداد لطلب المساعدة) والصعوبات التعليمية والسلوكيات المجازِفة واعتلال الصحة البدنية وانتهاكات حقوق الإنسان، بحسب المنظمة.
وذلك لا يقتصر على المراهقين، بل كبار السن أيضاً، وتذهب الإحصائيات إلى أن الذين تتعدى أعمارهم 60 عامًا فما فوق، أكثر من 800 مليون مُسن، كما يتوقع زيادة العدد لأكثر من بليوني مُسن بحلول عام 2050، ويعاني كبار السن مشكلات صحية عدة خاصة بهذه الفئة, فالعديد منهم يفقد القدرة على الحركة أو تُصبح حركته محدودة، وتزداد لديهم المشكلات النفسية؛ حيث إنهم غالبًا ما يترددون في طلب المساعدة.
وتفيد منظمة الصحة العالمية، بأن قرابة 116 مليون شخص في إفريقيا يعانون بالفعل صدمات نفسية، وأمراضاً عقلية، وتقدر أن معدل إنفاق وزارات الصحة الإفريقية على الصحة العقلية والنفسية يصل لنحو 50 سنتاً أمريكياً عن كل مواطن، في حين يعد حاجز دولارين للفرد هو الحد الموصى به للدول ذات الدخل المنخفض، لا يتجاوز متوسط عدد الأطباء النفسيين في إفريقيا معدل 0.1 طبيب لكل 100 ألف شخص.
يشير تقرير صادر عن لجنة لانسيت الطبية إلى أن الاضطرابات النفسية ستصل تكلفتها في الاقتصاد العالمي إلى نحو 16 تريليون دولار بحلول عام 2030؛ وذلك في ظل وجود أكثر من ملياري شخص على مستوى العالم يعانون أمراضاً عقلية. وكانت دراسة سابقة أجراها المنتدى الاقتصادي العالمي، وكلية هارفارد للصحة العامة، أشارت إلى أن العالم سيشهد زيادة غير مسبوقة في الإنفاق العالمي على علاج أمراض الصحة النفسية والعقلية؛ وصولًا إلى ستة تريليونات دولار بحلول العام نفسه.
قائمة الحلول
بدورها قالت مديرة مركز القاهرة للتنمية وحقوق الإنسان، الحقوقية انتصار السعيد، إن "الواقع الحقوقي للأشخاص ذوي الإعاقات النفسية الاجتماعية والمنتفعين من خدمات الصحة النفسية يواجه تحديات كبيرة على مستوى العالم، حيث يعانون التمييز والوصم في مختلف الجوانب الاجتماعية والاقتصادية، كما يتعرض هؤلاء الأشخاص لتصورات خاطئة حول قدراتهم وإمكاناتهم، ما يعزز عزلتهم الاجتماعية ويقلل من فرصهم في الحصول على التعليم والعمل والخدمات الصحية والاجتماعية.
وأضافت انتصار في تصريح لـ"جسور بوست" أنه من أسباب زيادة أعداد هذه الفئة إلى 4 أمور أولها التصورات المجتمعية السلبية حيث غالبًا ما يتم وصم الأشخاص ذوي الإعاقات النفسية الاجتماعية باعتبارهم "مجانين “ أو "غير قادرين" على العمل أو التفاعل بشكل طبيعي، ما يسهم في زيادة التهميش والتمييز.
والأمر الثاني بحسب الحقوقية انتصار السعيد يعود إلى نقص الوعي والتثقيف، حيث هناك نقص في الوعي العام حول الصحة النفسية والاضطرابات النفسية، ما يعزز التحيزات والجهل تجاه الأشخاص الذين يعانون هذه الحالات.
وتحل انتصار الضغوط الاقتصادية والاجتماعية كأحد ثالث الأسباب، مشيرة إلى أن الأزمات الاقتصادية والفقر يمكن أن تزيد من معدلات اضطرابات الصحة النفسية بسبب الضغوط الحياتية والتحديات المستمرة، ما يؤدي إلى تفاقم المشكلات النفسية في المجتمعات.
ويعد نقص الدعم النفسي والاجتماعي السبب الرابع، خاصة أنه في كثير من البلدان، خاصة في المناطق النامية، لا توجد خدمات كافية أو فعالة لدعم الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية، ما يؤدي إلى تدهور حالتهم النفسية وزيادة العزلة.
وترى مديرة مركز القاهرة للتنمية وحقوق الإنسان، أن المطلوب لتحقيق الأمان النفسي والسلامة النفسية لهذه الفئة على المستوى العالمي إلى 6 بنود رئيسية، كما تأتي التشريعات والسياسات الداعمة في مقدمة الحلول، مشيرة إلى أنه يجب أن تتبنى الحكومات سياسات تشريعية تحمي حقوق الأشخاص ذوي الإعاقات النفسية الاجتماعية وتضمن تكافؤ الفرص لهم في العمل والتعليم والخدمات الصحية.
ويعد زيادة الوعي والتثقيف حلاً ثانياً تطرحه الحقوقية انتصار السعيد، مؤكدة أهمية أن تُطلق حملات توعية تهدف إلى تقليل الوصم والتمييز ضد الأشخاص المصابين بالاضطرابات النفسية، مع التركيز على تعزيز الفهم العام للموضوع.
وبجانب ذلك يجب تحسين الوصول إلى الخدمات الصحية، كحل ثالث بحيث ينبغي أن تكون خدمات الصحة النفسية متاحة للجميع بشكل يسير وبأسعار معقولة، مع تدريب متخصصين في هذا المجال لضمان تقديم الرعاية الجيدة، وتشير انتصار السعيد إلى دعم الشراكات المجتمعية حلاً رابعاً لمواجهة تلك الانتهاكات، من خلال تعاون المؤسسات المجتمعية والتعليمية والصحية لتوفير بيئات داعمة للنفوس المريضة، مع تشجيع الانفتاح والتقبل في المجتمع.
وعدت تشجيع البحث والابتكار في مجال الصحة النفسية، أمراً مهماً لمعرفة أسباب الاضطرابات النفسية بشكل أعمق وتطوير حلول علاجية مبتكرة تدعم هذا القطاع، تضيف السعيد:
وأخيراً تعتقد انتصار السعيد أن "التوجه نحو هذا النوع من الإصلاحات يمكن أن يسهم بشكل كبير في الوصول إلى بيئة أكثر أمانًا ونفسية صحية لجميع الأفراد في المجتمع، بعيداً عن الانغلاق والعزلة الاجتماعية".