مساواة وهمية.. كيف تحولت القوانين من أدوات تحرر إلى قيود لحقوق المرأة؟

مساواة وهمية.. كيف تحولت القوانين من أدوات تحرر إلى قيود لحقوق المرأة؟
دعوات للمساواة بين الجنسين - أرشيف

في عالم يُفترض أن يكون قد قطع أشواطًا كبيرة نحو تحقيق المساواة بين الجنسين، تتعرض حقوق المرأة لتراجع مقلق على مستوى العالم، رغم التقدم التشريعي الذي تحقق على مدار العقود الماضية.

وكشف تقرير أممي -صدر حديثًا- أن ربع دول العالم شهدت تراجعًا في حقوق المرأة خلال عام 2024، وهو ما يثير تساؤلات عميقة حول أسباب هذا التراجع، خاصة في ظل وجود قوانين وسياسات دولية يُفترض أنها تهدف إلى حماية حقوق المرأة وتعزيزها.

فكيف تُستخدام هذه القوانين والسياسات للسيطرة على النساء؟ ولماذا تتراجع حقوق المرأة حتى في الدول التي كانت تُعد نموذجًا للمساواة؟ 

وفقًا للتقرير الصادر عن الأمم المتحدة، فإن امرأة تُقتل كل 10 دقائق على يد شريكها أو فرد من أسرتها، في حين ارتفعت حالات العنف الجنسي المرتبط بالصراعات بنسبة 50% منذ عام 2022، هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات باردة، بل هي صرخة استغاثة من ملايين النساء اللواتي يعانين في صمت، خاصة في المناطق التي تشهد نزاعات مسلحة. يبدو أن إعلان بكين لعام 1995 -الذي كان يُعد خارطة طريق تاريخية لتحقيق المساواة بين الجنسين- لم يعد كافيًا لمواجهة التحديات الجديدة التي تواجهها المرأة في القرن الحادي والعشرين. 

ويأتي يوم المرأة العالمي، هذا العام في ظل ظروف صعبة، وهو الذي بدأ كحركة عمالية في أوائل القرن العشرين، ثم تحول إلى منصة عالمية للدفاع عن حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين، ومع ذلك فإن التقرير الأممي يسلط الضوء على أن التقدم المحرز في هذا المجال مهدد بالتراجع، فبدلاً عن تعميم المساواة، نشهد تعميماً لكراهية النساء، كما قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش. هذه العبارة القوية تعكس واقعاً مريراً فبعد 30 عاماً من اعتماد إعلان بكين، فما تزال النساء يواجهن تمييزاً عنيفاً في مجتمعات عدة. 

ورغم التقدم التشريعي الذي تحقق في عدة دول، فإن القوانين نفسها غالباً ما تُستخدم أداةً لقمع المرأة، بدلاً عن تمكينها. في بعض الدول، تُستخدم التشريعات المتعلقة بالأسرة أو الأحوال الشخصية لتقييد حقوق المرأة في الطلاق أو الحضانة أو الميراث، في دول أخرى، تُستخدم قوانين مكافحة الإرهاب أو الأمن القومي لتجريم الناشطات الحقوقيات أو قمع حركات المرأة، حتى في الدول التي تُعد متقدمة في مجال حقوق المرأة، نجد القوانين المتعلقة بالعمل أو الضرائب -غالباً- غير عادلة، ما يعمق فجوة الأجور بين الرجال والنساء. 

تحديات تواجهها المرأة

وما تزال فجوة الأجور، على سبيل المثال، واحدة من أكبر التحديات التي تواجهها المرأة في سوق العمل؛ فوفقًا للتقرير الأممي، فإن النساء يحصلن على 64% فقط من الحقوق القانونية التي يتمتع بها الرجال، وهو ما ينعكس بشكل مباشر على دخلهن في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تحصل المرأة على 82 سنتًا مقابل كل دولار يحصل عليه الرجل في العمل نفسه في أوروبا، تصل الفجوة إلى 14% في المتوسط، في حين تتفاقم هذه النسبة في الدول النامية لتصل إلى 30% أو أكثر. 

وفي الدول التي كانت تُعد نموذجاً للمساواة بين الجنسين، نجد حقوق المرأة تواجه تراجعاً ملحوظاً في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، أدى إلغاء حكم "رو ضد وايد" إلى تقييد حقوق المرأة في الإجهاض، ما أثار موجة من الاحتجاجات والتنديد الدولي في أوروبا، نجد أن صعود التيارات اليمينية المتطرفة أدى إلى تراجع في حقوق المرأة، خاصة في مجالات مثل الهجرة واللجوء، حيث تُستخدم القوانين لتقييد حقوق النساء اللاجئات. 

في الدول الاسكندنافية، التي تُعد من أكثر الدول تقدماً في مجال المساواة بين الجنسين، نجد النساء ما يزلن يواجهن تحديات كبيرة في الوصول إلى المناصب القيادية. وفقًا للتقرير الأممي، فإن 87 دولة فقط قادتها امرأة، وهو ما يعكس ضعفاً كبيراً في تمثيل النساء في مواقع صنع القرار حتى في هذه الدول، نجد النساء -غالبًا- ما يواجهن تمييزًا غير مباشر، مثل التحرش الجنسي في مكان العمل أو التمييز في الترقيات. 

ويحدد التقرير الأممي خارطة طريق للمستقبل، تشمل تعزيز الوصول العادل إلى التكنولوجيات الجديدة، ومكافحة الفقر، وتحسين العدالة المناخية، وهي مجالات يمكن أن تسهم بشكل كبير في تعزيز حقوق المرأة، ومع ذلك فإن تحقيق هذه الأهداف يتطلب إرادة سياسية قوية وتعاوناً دولياً فعالاً. 

فجوة بين التشريع والتطبيق

وقالت الناشطة الحقوقية التونسية، مريم جواد، إن المرأة عالمياً تعاني، ونشهد تراجعاً حقوقياً عالمياً في حقوق النساء، ولم يعد الأمر قاصرًا على الدول الفقيرة. في الوقت الذي تم فيه سن قوانين تجرّم العنف ضد المرأة، وتكفل المساواة في الأجور، وتحمي حقوقهن في المشاركة السياسية، فما تزال المرأة تواجه تحديات جوهرية تجعل هذه القوانين غير كافية، بل وأحيانًا تُستخدم ضدها بطريقة غير مباشرة. التشريعات التي تُقر نظريًا بالمساواة، كثيرًا ما تصطدم بأنظمة اجتماعية وسياسية ما تزال تتبنى أنماطاً تمييزية ضد المرأة، ما يحوّل هذه القوانين إلى نصوص غير مفعّلة أو إلى مجرد ديكور تجميلي تستخدمه الحكومات في المحافل الدولية، دون نية حقيقية لإنفاذه.

وتابعت جواد، في تصريحات لـ"جسور بوست"، هذا الفجوة بين التشريع والتطبيق تسمح باستمرار الانتهاكات تحت غطاء قانوني، حيث يتم تمرير قوانين تحمي النساء من جهة، بينما تُسن تشريعات أخرى تحدّ من قدرتهن على الاستفادة الحقيقية من هذه الحماية، على سبيل المثال، في دول عدة أُقرّت قوانين تحمي النساء من العنف الأسري، ثم نجد في المقابل سياسات تجعل من الصعب على النساء اللجوء إلى العدالة، إما بسبب ضعف آليات التنفيذ أو بسبب أعراف قانونية تُجبر النساء على التصالح مع المعتدين تحت غطاء "حماية الأسرة". 

واسترسلت، في سوق العمل، رغم وجود قوانين تضمن المساواة بين الجنسين، فإن النساء ما زلن يواجهن تحديات ممنهجة تعوق وصولهن إلى الفرص المتكافئة في بعض الدول، يتم التذرع بالقوانين التي تحظر التمييز لتبرير الحد من برامج التمييز الإيجابي، ما يؤدي إلى تفاقم الفجوة الاقتصادية بين الجنسين بدلًا من تضييقها حتى في الدول التي تمتلك قوانين صارمة لمكافحة التمييز في الأجور، تظل النساء محاصرات في وظائف أقل أجرًا، أو يتم استبعادهن من المناصب القيادية بطرق غير مباشرة، مثل فرض معايير ترقية تستثنيهن أو تجبرهن على العمل في بيئات غير صديقة للمرأة، ما يدفعهن إلى ترك وظائفهن طواعية، وهنا يتحول القانون من أداة حماية إلى أداة للضغط غير المباشر. 

وقالت جواد، إن السياسات الدولية التي يُفترض أن تدعم حقوق المرأة لم تكن بمنأى عن هذا الاستغلال، حيث نجد أن بعض الاتفاقيات والبرامج الأممية قد تحولت إلى أدوات للضغط السياسي بدلًا من أن تكون ضمانة للحقوق، إذ يتم فرض سياسات معينة على دول نامية كشرط للحصول على الدعم الاقتصادي، دون مراعاة السياقات الثقافية والاجتماعية، ما يجعل هذه السياسات أحيانًا تأتي بنتائج عكسية من جهة أخرى، فإن بعض الدول التي تروج لنفسها على أنها حامية لحقوق المرأة على المستوى الدولي، لا تطبق المعايير ذاتها داخل حدودها، بل تسهم بشكل غير مباشر في انتهاك حقوق النساء عبر دعم أنظمة وسياسات تمييزية في مناطق النزاع أو الدول ذات الأنظمة غير الديمقراطية. 

وأتمت، إن التراجع في حقوق النساء ليس مجرد نتيجة لضعف التشريعات، بل هو انعكاس لإرادة سياسية واجتماعية تسعى للحفاظ على أنماط الهيمنة التقليدية عبر وسائل حديثة، التلاعب بالقوانين واستخدامها أداة لضبط النساء بدلًا من تحريرهن هو أحد أخطر أشكال التمييز، لأنه يمنح القمع غطاءً قانونيًا ويجعل من الصعب كشفه ومقاومته لهذا، فإن الحل لا يكمن فقط في سن المزيد من القوانين، بل في مساءلة آليات تطبيقها، وضمان أن تكون الحقوق مكفولة.

القوانين وقهر النساء عالميًا

وقال خبير علم الاجتماع، الأكاديمي، فهمي قناوي، إن ما يتبادر إلى الأذهان عند الحديث عن تراجع حقوق النساء عالميًا التساؤل عن الأسباب الكامنة خلف هذا التراجع، رغم ما يشهده العالم من تقدم تشريعي يفترض أنه يصب في مصلحة تحقيق المساواة غير أن الواقع يؤكد أن التشريعات وحدها لا تكفي، بل قد تتحول في بعض السياقات إلى أدوات لإعادة إنتاج السيطرة على النساء بدلًا من تحريرهن فعلى الرغم من أن القوانين المتعلقة بحقوق المرأة شهدت توسعًا في العقود الأخيرة.

وتابع قناوي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، تشير التقارير الأممية إلى أن نحو ربع دول العالم سجلت تراجعًا في حقوق المرأة خلال العام الماضي، وهو ما يعكس أن حقوق النساء لا تتراجع بالصدفة، بل بفعل تيارات سياسية واجتماعية تستغل القوانين لخدمة مصالحها في بعض البلدان، يتم سن قوانين جديدة تدّعي حماية النساء، لكنها في الحقيقة تقيد حرياتهن، كما هي الحال في السياسات التي تفرض وصاية على المرأة في مجالات العمل، والسفر، وحقوق الإنجاب، فتُحرم النساء من اتخاذ قراراتهن المستقلة تحت ذريعة الحماية الاجتماعية، في الوقت نفسه، يتم تجاهل القوانين التي يمكن أن توفر حماية فعلية للنساء. 

وأضاف أنه من المفارقات أن التراجع في حقوق المرأة لا يقتصر على الدول التي تعاني من أزمات اقتصادية أو سياسية، بل يمتد حتى إلى الدول التي كانت تُعد نماذج للمساواة في هذه المجتمعات، يتم إضعاف المكتسبات الحقوقية من خلال آليات غير مباشرة مثل تقليص ميزانيات المؤسسات التي تُعنى بحقوق المرأة أو التشكيك في جدوى سياسات التمييز الإيجابي، ما يؤدي إلى تعطيل التقدم الفعلي نحو المساواة، كما أن صعود الحركات السياسية والاجتماعية المحافظة، حتى في الدول الديمقراطية، أعاد إنتاج خطابات تكرس أدوارًا نمطية للنساء. 

وقال قناوي، إن الفجوة الاقتصادية بين الجنسين هي أحد أبرز تجليات هذا التراجع، حيث ما تزال النساء في معظم دول العالم يحصلن على أجور أقل من الرجال رغم أدائهن لنفس العمل، كما أن نسبة تمثيلهن في المناصب القيادية والاقتصادية ما تزال ضئيلة مقارنة بالرجال في المقابل، فإن الدول التي تحاول تضييق هذه الفجوة تواجه ضغوطًا سياسية واقتصادية تجعل من الصعب تحقيق نتائج ملموسة. 

وتابع: يؤدي هذا التراجع في حقوق المرأة إلى تأثيرات كارثية تمتد إلى المجتمع بأسره فغياب الحماية القانونية الفعالة للنساء يعزز من معدلات العنف الأسري ويؤدي إلى ارتفاع نسبة النساء اللواتي يتعرضن للعنف الجسدي أو النفسي. كما أن إضعاف دور النساء في المجال العام يؤثر في التنمية الاجتماعية والاقتصادية، حيث تؤكد الدراسات أن المجتمعات التي تتمتع فيها النساء بحقوق متساوية تشهد نموًا اقتصاديًا أكبر واستقرارًا اجتماعيًا أعلى، وعلى العكس من ذلك، فإن تقليص حقوق النساء يؤدي إلى زيادة معدلات الفقر والتهميش ويعزز من الأنماط الاجتماعية غير العادلة التي تعوق التطور المجتمعي. 

وأتم، بينما قد يبدو الوضع قاتمًا، فإن التاريخ يثبت أن حقوق النساء لم تكن يومًا هبة تُمنح لهن، بل هي نتاج نضال مستمر، ورغم أن العقود الماضية شهدت مكاسب حقيقية، فإن الحفاظ عليها يتطلب وعيًا مستمرًا بخطورة التراجع عنها، ومساءلة الأنظمة التي تحاول استخدام التشريعات لإعادة إنتاج الهيمنة بدلاً من تحقيق العدالة، إن إدراك المجتمعات لهذه الآليات هو الخطوة الأولى نحو مقاومة هذا التراجع، والضغط من أجل تحويل القوانين إلى أدوات لتحرير النساء بدلًا من إحكام السيطرة عليهن.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية