حرية المعتقد على المحك.. «الأعياد الدينية» حق مقدس أم امتياز ممنوح؟

حرية المعتقد على المحك.. «الأعياد الدينية» حق مقدس أم امتياز ممنوح؟
احتفال بالعيد - أرشيف

مثلت الأعياد الدينية عبر التاريخ أكثر من مجرد طقوس شكلية، بل جسدت حقاً إنسانياً أصيلاً في حرية المعتقد والتعبير، وأتاحت هذه المناسبات الفرصة للأفراد والجماعات للتعبير عن هويتهم الثقافية والدينية، وتعزيز الانتماء المجتمعي في أجواء تسودها الحرية والكرامة.

وأقر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 هذا الحق، حيث نصت المادة 18 على حرية الفكر والوجدان والدين، مؤكدةً أن هذا يشمل الحق في تغيير الدين أو التعبير عنه عبر التعليم والممارسة وإقامة الشعائر علناً أو سراً. 

وعززت هذه المادة مكانة الأعياد الدينية، إذ لم تعد مجرد مناسبات شخصية، بل حق أصيل في التعبير عن الهوية الدينية والثقافية.

وأدرجت دول عدة الأعياد الدينية ضمن التقويم الرسمي، مانحةً إجازات لمواطنيها لممارسة شعائرهم بحرية، حيث يحتفي المسلمون في مصر بعيد الفطر وعيد الأضحى، فيما يحظي المسيحيون بإجازات رسمية خلال عيد الميلاد المجيد وعيد القيامة، ومثل هذا الاعتراف يعد التزاماً حكومياً بحماية التنوع الديني وضمان حق الجميع في ممارسة معتقداتهم دون قيود.

وواجهت بعض الجماعات الدينية تحديات في ممارسة هذا الحق، إذ فرضت أنظمة قمعية أو صراعات طائفية قيوداً على الاحتفالات الدينية للأقليات، حيث كشف تقرير صادر عن "فريدوم هاوس" عام 2022 أن 40% من سكان العالم يعيشون في دول تفرض قيوداً مشددة على الحرية الدينية، حيث تُجبر بعض الجماعات على الاحتفال سراً خوفاً من القمع أو التمييز. 

وشهدت دول مثل الصين وكوريا الشمالية إجراءات صارمة، تضمنت حظر التجمعات الدينية العلنية وملاحقة المخالفين قانونياً.

الأعياد تعزز التماسك الاجتماعي

أسهمت الأعياد الدينية في بناء التفاهم بين الأديان وتعزيز الوحدة المجتمعية، حيث اختبرت دول مثل لبنان نموذجاً فريداً من التعايش، حيث احتفل المسلمون والمسيحيون بأعيادهم علناً، ما شكل انعكاساً لتنوع ديني وثقافي غني. 

وأكد تقرير لليونسكو عام 2021 أن الاحتفالات الدينية المشتركة عززت الحوار بين الأديان وخففت من حدة التوترات الطائفية، كما حدث في الهند، حيث نظمت منظمات أهلية فعاليات مشتركة تجمع مختلف الطوائف.

ولعبت الحكومات دوراً محورياً في ضمان هذا الحق، عبر الاعتراف بالأعياد رسمياً، وتوفير الحماية القانونية للجماعات الدينية من التمييز، وبرزت جنوب إفريقيا نموذجاً يُحتذى، حيث تمتع المواطنون بحرية دينية كاملة، وحظيت الأعياد كافة بحماية قانونية، وأسهمت منظمات المجتمع المدني في تعزيز ثقافة التسامح، عبر تنظيم فعاليات دينية مشتركة لترسيخ قيم التعايش واحترام الآخر.

وأثرت الأزمات الاقتصادية والمناخية في قدرة الأفراد على الاحتفال بأعيادهم. كشف تقرير للبنك الدولي عام 2023 أن التحديات الاقتصادية حدّت من إمكانية أسر عدة في الدول النامية على تحمل تكاليف الاحتفالات. 

تقليص بعض الطقوس

وفي بعض المناطق التي تعاني ندرة المياه، تسببت القيود البيئية في تقليص بعض الطقوس، ما أثّر على ممارسة الشعائر الدينية.

وفرضت هذه التحديات ضرورة تعزيز الجهود لضمان ممارسة هذا الحق دون قيود، عبر تشريعات تحمي الحرية الدينية، ودعم المبادرات المجتمعية التي تعزز ثقافة التسامح. 

وشكلت الأعياد الدينية فرصةً لتعزيز الوحدة لا التفرقة، ما يستدعي تعزيز الجهود لضمان بقائها مساحةً للتسامح والسلام.

الأعياد الدينية حق إنساني

أكد عضو مجلس الشيوخ المصري، أحمد قناوي، أن الأعياد الدينية ليست مجرد طقوس تقليدية تُمارس بشكل روتيني، بل هي تجسيد حقيقي لحرية المعتقد والتعبير، وحق إنساني أصيل يعكس التنوع الثقافي للأفراد والمجتمعات؛ فهذه المناسبات تحمل في طياتها تاريخاً طويلاً من التقاليد والقيم التي شكلت نسيج المجتمعات متعددة الأطياف؛ لذلك فإن النظر إلى الأعياد الدينية باعتبارها مجرد مناسبات احتفالية يغفل أهميتها العميقة في بناء مجتمعات قائمة على التسامح والاحترام المتبادل.

وتابع في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن تعزيز الوعي المجتمعي بأهمية هذه الأعياد كونها حقاً إنسانياً، وليس مجرد ممارسات ثقافية، يعد خطوة ضرورية نحو تحقيق مجتمع أكثر تفهماً وانفتاحاً، خاصة في ظل التحديات التي تواجه التعددية الدينية في بعض المجتمعات، فالجهل بهذه الحقوق قد يؤدي إلى سوء الفهم، بل وقد يكون سببًا في خلق فجوات بين الأفراد المنتمين إلى أديان مختلفة، وهنا يأتي الدور المحوري للمؤسسات الحكومية والدينية ومنظمات المجتمع المدني في نشر الوعي حول هذه الحقوق وضمان احترامها.

وأشار قناوي إلى أن التوعية بأهمية الأعياد الدينية يجب ألا تقتصر على البعد النظري أو القانوني فقط، بل يجب أن تشمل الجانب العملي من خلال أنشطة تفاعلية تعزز التقارب بين مختلف أطياف المجتمع، فاستغلال هذه الأعياد كفرص لتعزيز التفاهم المشترك، يمكن أن يتحقق من خلال تنظيم فعاليات تجمع بين أفراد من خلفيات دينية متعددة، مثل ورش العمل المشتركة، والندوات الثقافية، والأنشطة التطوعية، التي تسهم في إزالة الحواجز وبناء جسور التواصل والتفاهم.

وشدد على أن الحد الأدنى المطلوب هو الاحترام المتبادل بين الأفراد، لكن الهدف الأسمى هو خلق بيئة اجتماعية تتبنى التعايش السلمي كونه قيمة أساسية. فالتنوع الديني والثقافي ليس مصدر انقسام كما قد يعتقد بعض الناس، بل هو مصدر ثراء حضاري يعزز قوة المجتمع، إذا ما تم التعامل معه بروح الانفتاح والقبول.

قوة التعددية الدينية

وأوضح قناوي أن التاريخ يحمل نماذج عدة لمجتمعات نجحت في ترسيخ مبادئ التعايش السلمي، وكان التنوع الديني فيها عنصراً من عناصر قوتها. وقد شهدت الأندلس خلال العصور الوسطى تعايشاً استثنائياً بين المسلمين والمسيحيين واليهود، حيث أسهم هذا التنوع في خلق بيئة علمية وثقافية مزدهرة، انعكست على جميع مجالات الحياة، كما أن مجتمعات حديثة كثيرة تتبنى سياسات تقوم على احترام حرية المعتقد، تنعم اليوم بدرجة عالية من الاستقرار والتقدم.

وأشار إلى أن التجربة التاريخية تؤكد أن المجتمعات التي تعاملت مع التنوع الديني والثقافي باعتباره عنصرًا إيجابيًا استطاعت تحقيق نهضة فكرية واجتماعية واقتصادية، في حين تلك التي حاولت قمع هذا التنوع عانت النزاعات والانقسامات.

وعلى المستوى القانوني، أكد قناوي، أن المواثيق والاتفاقيات الدولية، وعلى رأسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، تنص صراحةً على أن حرية الفكر والوجدان والدين حق مكفول للجميع. فالمادة 18 من الإعلان تؤكد حق كل فرد في ممارسة شعائره الدينية والاحتفال بأعياده دون أي تمييز أو قيود، وبالتالي، فإن احترام هذه الحقوق ليس فقط مسألة ثقافية أو اجتماعية، بل هو التزام قانوني وأخلاقي يقع على عاتق الدول لضمان حماية هذا الحق وتعزيزه.

نحو مجتمع أكثر تسامحاً

وفي ختام حديثه، دعا قناوي إلى تضافر الجهود بين المؤسسات المختلفة لضمان ترسيخ ثقافة احترام الأعياد الدينية كونها حقاً إنسانياً لا يمكن المساس به، فالحكومات مطالبة بتبني سياسات تعليمية وإعلامية تدعم الوعي بالتعددية الدينية، والمؤسسات الدينية عليها مسؤولية نشر ثقافة التسامح والانفتاح، ومنظمات المجتمع المدني يجب أن تؤدي دوراً فعالاً في بناء جسور التواصل بين مختلف الفئات الدينية.

وأكد أن بناء مجتمع متماسك ومستقر لن يتحقق إلا من خلال تعزيز قيم الاحترام المتبادل والتعايش السلمي، حيث تصبح الأعياد الدينية رمزًا للوحدة، لا ساحة للخلاف، فالحق في الاحتفال بهذه المناسبات الدينية ليس ترفًا، بل هو جوهر إنساني يعكس عمق التعددية التي تثري المجتمعات وتعزز استقرارها.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية