احتفال وتعايش.. كيف أصبحت الأعياد فرصة للتبادل الثقافي وتعزيز التفاهم بين الشباب؟
احتفال وتعايش.. كيف أصبحت الأعياد فرصة للتبادل الثقافي وتعزيز التفاهم بين الشباب؟
شهد العالم العربي على مدى سنوات طويلة، احتفالات متنوعة جسّدت التعايش الديني والثقافي، حيث تُعد الأعياد مناسبة فريدة لتعزيز الوحدة بين مختلف الطوائف، فبينما يحتفل المسلمون بعيدي الفطر والأضحى، يحتفل المسيحيون بعيد الميلاد، ويحتفل اليهود بعيد الفصح، وهي مناسبات تحمل جميعها قيمًا مشتركة مثل العطاء والتضامن.
أكّد تقرير صادر عن منظمة اليونسكو عام 2024 أن 78% من الشباب في العالم العربي يرون أن الأعياد الدينية والثقافية تُعد فرصة للتعرف إلى ثقافات الآخرين، ما يعكس وعيًا متزايدًا بأهمية التعددية كونها قيمة إنسانية، ففي مصر، أصبحت التهاني المتبادلة بين المسلمين والمسيحيين خلال الأعياد ممارسة شائعة، في حين تشير إحصاءات وزارة الثقافة اللبنانية لعام 2025 إلى أن 60% من العائلات المسلمة والمسيحية تتبادل الزيارات خلال الأعياد الكبرى.
وأتاحت الأعياد فرصة لتعزيز التفاهم بين الأديان المختلفة، حيث أظهرت دراسة لجامعة القاهرة عام 2025 أن 65% من الشباب الذين شاركوا في احتفالات دينية متنوعة شعروا بأن هذه التجربة ساعدتهم على فهم الآخر بشكل أفضل، كما عد 70% من المشاركين الأعياد وسيلة لتعزيز قيم التسامح والانفتاح.
وشهد المغرب، عام 2025، إطلاق مبادرة "عيد بلا حدود"، حيث شارك 10 آلاف شاب في ورش عمل حول التبادل الثقافي خلال الأعياد، وفي تونس، كشفت دراسة لمنظمة "شباب من أجل السلام" أن 55% من الشباب الذين حضروا احتفالات دينية مختلفة تمكنوا من كسر الصور النمطية السلبية عن الآخر، أما في السعودية، فقد تم إطلاق برنامج "تعلّم من الأعياد" في المدارس، والذي يتيح للطلاب التعرف إلى ثقافات الأديان الأخرى من خلال الأنشطة التعليمية.
دور الشباب في بناء التعايش
لعب الشباب دورًا محوريًا في ترسيخ قيم التسامح من خلال تنظيم مبادرات لتعزيز التعايش، كما حدث في لبنان عام 2025، حيث نظّمت مجموعة شبابية مبادرة "عيد واحد، قلب واحد"، جمعت أكثر من 500 شاب من مختلف الطوائف للاحتفال المشترك بعيد الفطر وعيد الميلاد.
وفي العراق، شهدت بغداد مهرجان "الأعياد تجمعنا"، الذي استقطب أكثر من 3 آلاف شاب من مختلف الطوائف لتعزيز التنوع الثقافي والديني. أما في فلسطين، فقد أظهر استطلاع لجامعة بيرزيت أن 75% من الشباب يعدون الأعياد فرصة لتعزيز الوحدة الوطنية في ظل التحديات السياسية.
ورغم الإيجابيات التي تحملها الأعياد كجسر للتواصل، فإن هناك تحديات تتعلق بالموروثات الاجتماعية التي تعوق التفاعل بين الأديان المختلفة. فقد أشار تقرير لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" عام 2025 إلى أن 40% من الشباب العرب يشعرون بصعوبات في التفاعل مع أفراد من ديانات أخرى بسبب العادات والتقاليد السائدة.
ومع ذلك، تتاح فرص كبيرة لتعزيز التفاهم من خلال التعليم والإعلام، حيث أطلقت الكويت برنامج "التعليم من خلال الأعياد"، في حين نظّمت قطر مهرجان "التسامح في الأعياد"، الذي جمع أكثر من 50 ألف مشارك في فعاليات تعكس التنوع الثقافي، ما يؤكد أن الأعياد ليست مجرد احتفالات، بل مناسبات لتعزيز الوحدة والتفاهم.
الأعياد حق إنساني
في السياق، قالت خبيرة علم الاجتماع آية حسين، إن الأعياد الدينية ليست مجرد مناسبات احتفالية، بل هي انعكاس عميق للهوية الاجتماعية والدينية للأفراد، وتحمل في طياتها أبعادًا نفسية وحقوقية مهمة، هذه المناسبات تمثل حاجة نفسية واجتماعية ضرورية، إذ توفر للأفراد شعورًا بالانتماء، وتعزز الروابط الأسرية والمجتمعية، ما يسهم في تحقيق توازن نفسي واجتماعي ضروري للحياة اليومية.
وقالت آية حسين، في تصريحات لـ"جسور بوست"، إن الأعياد حق إنساني لا يقل أهمية عن أي من الحقوق الأساسية الأخرى، كحرية التعبير أو التنقل، حيث تمنح الأفراد فرصة للتعبير عن معتقداتهم الدينية وممارستها في أجواء من الاحترام والتسامح. وترى أن أي تقييد لهذا الحق، سواء من خلال سياسات تمييزية أو مضايقات اجتماعية، قد يؤدي إلى شعور بالاغتراب والتهميش، ما قد ينعكس سلبًا على الصحة النفسية للأفراد وعلى استقرار المجتمع ككل.
وشددت حسين على أن للدولة دورًا محوريًا في تعزيز مفهوم التعايش والمواطنة عبر ضمان حرية ممارسة الأعياد الدينية دون تمييز. فالمجتمعات التي توفر مساحة متساوية لجميع المعتقدات، وتضمن حرية الاحتفال دون قيود تعسفية، تعزز مشاعر الانتماء والمساواة بين مواطنيها، ما ينعكس إيجابيًا على الاستقرار الاجتماعي.
وأشارت إلى أن فرض قيود على الاحتفالات الدينية، أو السماح بوجود ممارسات تمييزية ضد فئات معينة، يولد حالة من التوتر الاجتماعي ويزيد من مشاعر الإقصاء، ما قد يؤدي إلى اضطرابات نفسية واجتماعية خطِرة. وتشير دراسات علم النفس الاجتماعي إلى أن الأفراد الذين يشعرون بالتقدير والاحترام داخل مجتمعاتهم يكونون أكثر قدرة على التكيف النفسي والاجتماعي، في حين أن من يشعرون بالتمييز أو التهميش يكونون أكثر عرضة للمشكلات النفسية مثل القلق والاكتئاب.
تعزيز الوعي بأهمية الأعياد
ترى آية حسين أن دور المجتمع لا يقل أهمية عن دور الدولة في حماية هذا الحق. إذ يحتاج الأفراد إلى إدراك أن الأعياد ليست مجرد طقوس دينية، بل هي مساحات للراحة النفسية والتواصل الاجتماعي وتجديد الطاقة الذهنية والجسدية وبالتالي، فإن تعزيز الوعي بهذه الأهمية يتطلب جهودًا متكاملة تشمل المؤسسات الإعلامية، والتعليمية، والمجتمع المدني.
وتقترح أن يتم التركيز على نشر ثقافة احترام التعددية من خلال المناهج الدراسية، والبرامج الإعلامية التوعوية، والفعاليات المجتمعية التي تعزز الحوار بين الأديان والثقافات المختلفة، وتؤكد أن تعزيز قيم التسامح والتفاهم المتبادل في سن مبكر يقلل من احتمالات التوترات المستقبلية، ويسهم في بناء أجيال أكثر تقبلًا واحترامًا للاختلافات.
وشددت على أن الأعياد الدينية ليست مجرد مناسبات احتفالية عابرة، بل هي جزء لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي والهوية الثقافية للأفراد، وضمان حق الجميع في الاحتفال بها دون خوف أو قيود ليس مجرد التزام قانوني، بل هو عامل أساسي في تعزيز السلم الاجتماعي، وتقوية الروابط بين الأفراد، وتحقيق التوازن النفسي داخل المجتمعات.
وأشارت إلى أن المجتمعات التي تحترم هذا التنوع وتوفر بيئة آمنة لجميع المعتقدات تشهد معدلات أعلى من الاستقرار والتنمية، حيث يشعر الأفراد بأنهم جزء من نسيج مجتمعي يحتضن اختلافاتهم بدلاً من أن يقصيها، ومن هنا فإن حماية هذا الحق وتعزيزه يجب أن يكون أولوية في أي مجتمع يسعى إلى تحقيق العدالة والتوازن الاجتماعي.
تأثير التكنولوجيا على الأعياد
في السياق، قال الخبير الاجتماعي، فهمي قناوي، إن الأعياد ليست مجرد مناسبات للاحتفال، بل هي محطات اجتماعية فارقة تعزز التماسك الأسري والانتماء المجتمعي، حيث يستعيد فيها الأفراد صلتهم بجذورهم الثقافية والدينية، إنها فرصة للتجمع بعد فترات طويلة من الانشغال، ما يجعلها ركيزة أساسية في بناء الروابط الاجتماعية، لكن مع التطورات الحديثة، وخاصة الثورة التكنولوجية، باتت هذه المناسبات تواجه تحديات تهدد جوهرها، حيث تغيّرت أنماط الاحتفال، وأصبحت العلاقات الاجتماعية أكثر سطحية في ظل الاعتماد المتزايد على الوسائل الرقمية للتواصل.
وتابع في تصريحات لـ"جسور بوست"، الأعياد قد شُرعت منذ القدم نتيجة لمناسبات دينية أو وطنية أو اجتماعية، وكانت دائمًا مرتبطة بفكرة الجماعة والانتماء ففي الإسلام والمسيحية واليهودية، تأتي الأعياد تتويجًا لحدث ديني أو ذكرى ذات دلالات إيمانية، لكنها تمتد لتشمل الأبعاد الاجتماعية من خلال لمّ شمل الأسر، وتقوية أواصر المحبة بين الأفراد، وتجديد العادات والتقاليد التي تعزز الهوية الثقافية وتوفر هذه المناسبات فرصة لتعزيز القيم المجتمعية مثل الرحمة، والتكافل الاجتماعي، وتقاسم الفرحة بين الجميع بمختلف أطيافهم.
وأضاف أن التطور التكنولوجي أثر بشكل مباشر في طبيعة الاحتفال بالأعياد، حيث بات كثير من الأفراد يكتفون بتهنئات سريعة عبر الرسائل النصية أو مكالمات هاتفية مقتضبة، ما أدى إلى تراجع التفاعل الإنساني المباشر في الماضي، كان العيد مناسبة يلتقي فيها الأقارب، ويتجمع فيها الجيران والأصدقاء، في حين أصبح اليوم -في كثير من الأحيان- يقتصر على تبادل التهاني الافتراضية، ما يضعف الروابط الاجتماعية ويؤثر في الإحساس الحقيقي بالعيد كونه فرصة لتعزيز العلاقات.
وأشار إلى أن تأثير التكنولوجيا لم يكن سلبيًا بالكامل، إذ أتاح بعض الإيجابيات، مثل تسهيل التواصل مع الأقارب والأصدقاء الذين تفصلهم المسافات الجغرافية، كما ساعدت المنصات الرقمية على نشر التوعية حول معاني الأعياد، وتعزيز مبادرات خيرية تهدف إلى مساعدة المحتاجين خلال هذه المناسبات، إلا أن هذه الإيجابيات لا ينبغي أن تغطي على التراجع الملحوظ في العلاقات الحقيقية والتواصل المباشر، حيث باتت العلاقات الأسرية والاجتماعية تفقد أحد أهم أركانها وهو التفاعل الشخصي واللقاءات التي تعزز التماسك المجتمعي.
وحذّر من أن بعض الأفراد باتوا يعدون التهنئة الافتراضية كافية، متناسين أن الأعياد ليست مجرد كلمات تُقال، بل هي مشاعر تُعاش وتجارب تُخاض مع العائلة والمجتمع، وأكد أن هذه النزعة تضعف روح الانتماء، وتحرم الأفراد، خاصة الأطفال والشباب، من تعلم القيم الاجتماعية التي تُنقل من جيل إلى جيل من خلال هذه المناسبات ومن هنا، لا بد من إعادة النظر في كيفية استغلال التكنولوجيا بحيث تدعم، ولا تضعف، التجمعات الأسرية والاجتماعية خلال الأعياد.
ولمواجهة هذه الظاهرة، شدد قناوي، على ضرورة اتخاذ تدابير تعزز التفاعل الحقيقي بين الأفراد. أولًا: يجب على الإعلام والمؤسسات الثقافية تسليط الضوء على أهمية الحضور الأسري خلال الأعياد، والتأكيد على أن العيد ليس مجرد يوم عطلة، بل هو مناسبة لتعزيز أواصر المحبة والرحمة، ثانيًا: ينبغي على العائلات إعادة إحياء تقاليد التجمعات الأسرية، مثل الموائد المشتركة، والزيارات العائلية، وإشراك الأطفال في طقوس العيد لتعريفهم بقيم التواصل الحقيقي.
وطالب المؤسسات التعليمية والدينية بالتركيز على التوعية بأهمية العيد من منظور اجتماعي وليس فقط ديني، فالعيد هو مناسبة للفرح الجماعي، وليس مجرد طقس فردي. وأضاف أن المجتمع بحاجة إلى إطلاق مبادرات تشجع التفاعل الواقعي، مثل تنظيم فعاليات اجتماعية ولقاءات في الأحياء والمدارس والمؤسسات العامة، لتعويض النقص الحاصل في التواصل المباشر بين الأفراد.
وأتم، الأعياد ليست مجرد لحظات احتفالية، بل هي مناسبات تعيد ترميم النسيج الاجتماعي، وتمنح الأفراد الشعور بالانتماء والتواصل. وأضاف أن التحدي الأكبر اليوم هو كيفية الحفاظ على جوهر الأعياد في ظل التحولات التكنولوجية التي باتت تغير معالم التفاعل الاجتماعي، مشددًا على ضرورة تحقيق توازن بين الاستفادة من التكنولوجيا دون التفريط في القيم الإنسانية التي تجعل الأعياد فرصة لتعزيز الروابط الأسرية والاجتماعية وتجديد المشاعر الإيجابية بين الناس.