كوريا الشمالية تحت المجهر.. تدهور حقوقي متزايد وآمال الإصلاح تتلاشى

كوريا الشمالية تحت المجهر.. تدهور حقوقي متزايد وآمال الإصلاح تتلاشى
كيم جونغ أون رئيس كوريا الشمالية

لم تختلف حقبة كيم جونغ أون، الذي تولى قيادة كوريا الشمالية منذ عام 2011، عن عهد والده وجده فيما يتعلق بملف حقوق الإنسان، بل شهدت البلاد تدهورًا متزايدًا وفقًا لتقارير حقوقية حديثة، كان آخرها المراجعة الأممية لحقوق الإنسان.

وبحسب خبراء في الشؤون الآسيوية وحقوق الإنسان تحدثوا لـ"جسور بوست"، فإن كوريا الشمالية تعاني انتكاسة حقوقية غير مسبوقة بسبب القيود الداخلية الصارمة المفروضة من قبل النظام الحاكم.

وأشار الخبراء إلى أن العقوبات الدولية وحالة العداء مع القوى الكبرى لا يمكن أن تكون مسوغًا لإغفال ملف حقوق الإنسان، مشددين على ضرورة قيام المجتمع الدولي بدور فاعل لإنهاء عزلة الشعب الكوري الشمالي والتخفيف من الانتهاكات المستمرة التي يتعرض لها.

ويجري مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في دورته الـ58، والتي تستمر حتى 4 أبريل المقبل، مناقشات حول وضع حقوق الإنسان في جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية، وذلك من خلال تقرير المقررة الخاصة المعنية بهذا الملف، إليزابيث سالمون.

ووفقًا للتقرير الذي اطلعت عليه "جسور بوست"، أصدرت كوريا الشمالية خلال السنوات الأخيرة عدة قوانين تهدف إلى تشديد القيود على حرية التنقل والعمل والتعبير، من بينها قوانين تتضمن عقوبات قاسية مثل الإعدام وإعادة العمل بالمحاكمات العلنية وعمليات الإعدام العلنية.

ومن بين هذه القوانين، قانون الوقاية من الأوبئة (2020)، وقانون القضاء على الفكر والثقافة الرجعية (2020)، وقانون الإجراءات الطارئة لمكافحة الأوبئة (2021)، وقانون حماية اللغة السائدة في بيونغ يانغ (2023).

وفي 6 نوفمبر 2024، وجهت المقررة الخاصة ومجموعة من المكلفين بولايات رسالة ادعاء مشتركة إلى حكومة كوريا الشمالية بشأن تقارير تفيد بإجراء محاكمة علنية في 31 أغسطس 2024، شملت 11 امرأة أُعدن قسرًا من الصين.

ووفقًا للمعلومات الواردة، حُكم على امرأتين من بينهن بالإعدام بتهم تشمل الاتجار بالبشر وتشغيل منشآت ترفيهية للبالغين وممارسة الدعارة وإهانة كرامة المواطنين، وتم تنفيذ الحكم في اليوم ذاته. أما النساء التسع الأخريات، فقد صدرت بحقهن أحكام بالسجن المؤبد بتهمة التورط في عمليات الاتجار بالبشر في الصين، وقد طالب المقررون الأمميون الحكومة الكورية بتقديم معلومات حول مصير أولاء النساء، إلا أنهم لم يتلقوا ردًا حتى الآن.

وتخضع كوريا الشمالية لعقوبات أممية وثنائية بسبب برامجها النووية والصاروخية، ما أدى إلى تقييد التجارة والاستثمار والمعاملات المالية، وتعتبر بيونغ يانغ أن هذه العقوبات تشكل أحد أكبر العوائق أمام تحقيق أهدافها التنموية، ووفقًا للتقرير، تبرر الحكومة الكورية التحديات التي تواجهها بوجود حصار اقتصادي مستمر، وكوارث طبيعية متتالية، فضلًا عن الأزمة الصحية العالمية.

أما فيما يتعلق بتعزيز وحماية حقوق الإنسان، فقد أفادت الحكومة الكورية بأن الضغوط الدولية والممارسات العدائية التي تهدف إلى عزلها وتهديدها عسكريًا تشكل تحديات كبرى أمام تحسين أوضاع حقوق الإنسان في البلاد، غير أن التقرير الأممي شدد على أن العزلة والتهديدات الخارجية لا تعفي الحكومة من مسؤوليتها في تحسين أوضاع مواطنيها، مطالبًا بيونغ يانغ باتخاذ خطوات إصلاحية، والانخراط في مسارات دبلوماسية وسلمية، وإيلاء اهتمام خاص بالفئات المهمشة.

وأوصت المقررة الخاصة الحكومة الكورية بمراجعة سياسات الإنفاق العام لإعطاء الأولوية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مثل الحق في الغذاء والرعاية الصحية، خاصة رعاية الأمومة والصحة الإنجابية، إلى جانب الحق في التعليم والمياه والصرف الصحي. كما دعت إلى جمع بيانات تفصيلية لتحديد الفئات الأكثر تهميشًا وضمان وصول الخدمات الأساسية إليها.

كما أوصى التقرير المجتمع الدولي باستغلال أي فرص متاحة للحوار مع كوريا الشمالية لتهيئة بيئة ملائمة لتعزيز حقوق الإنسان، وتقديم مزيد من الدعم للجهات الفاعلة في العمل الإنساني والتنموي، بما في ذلك الأمم المتحدة، لتمكينها من تلبية احتياجات السكان الأكثر ضعفا.

وفي تقرير سنوي أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية في أبريل 2024، تناولت واشنطن "قضايا حقوق الإنسان الخطيرة" في كوريا الشمالية، مشيرةً إلى وجود "تقارير موثوقة" حول عمليات قتل تعسفية، وإعدامات خارج نطاق القضاء، وحالات اختفاء قسري، وتعذيب ومعاملة قاسية أو غير إنسانية على يد السلطات الحاكمة في بيونغ يانغ.

وردًا على ذلك، صرحت كوريا الشمالية بأنها ستتخذ "خيارات حاسمة" لحماية سيادتها وأمنها، متهمةً الولايات المتحدة باستخدام ملف حقوق الإنسان كأداة لممارسة الضغوط السياسية والعداء ضدها، وذلك وفق ما نقلته وكالة الأنباء المركزية الكورية.

تأسست جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية عام 1948 وسط تداعيات الحرب العالمية الثانية، وسرعان ما أصبحت دولة مغلقة تحكمها سلالة كيم، بدءًا من كيم إيل سونغ الذي وضع أسس النظام السياسي والاقتصادي واستمر في قيادته لأكثر من خمسة عقود. ويعد كيم جونغ أون ثالث زعيم في السلالة الحاكمة، إذ تولى السلطة بعد وفاة والده كيم جونغ إيل في ديسمبر 2011 إثر نوبة قلبية.

أسباب داخلية

بدوره يؤكد الباحث في الشؤون الآسيوية، إسلام منسي، أن الواقع الحقوقي في كوريا الشمالية يتأثر بالعوامل الخارجية والتغيرات في النسق الدولي، إلا أن السبب الرئيسي يكمن في العوامل الداخلية، وتحديدًا في سلوك وعقلية النظام السياسي وهيكلة الدولة، التي أفرزت تجربة فريدة من العزلة وفرض القيود الصارمة.

ويرى منسي في تصريح لـ"جسور بوست" أن على المجتمع الدولي مسؤولية تقديم الدعم لكوريا الشمالية، ليس فقط في الجانب الحقوقي، بل على نطاق أوسع، خاصة وأن الشعب الكوري الشمالي لا يزال ضحية لتجاذبات القوى الكبرى وردود أفعال النظام الحاكم.

ويستبعد أن تكون العقوبات والضغوط الخارجية هي السبب الأساسي في التدهور الذي تعانيه البلاد، مؤكدًا أن المسؤولية الأولى تقع على عاتق النظام، الذي يجب عليه تأمين حياة كريمة لمواطنيه. ويشدد على أن أي تحسن في الوضع الحقوقي لن يتحقق إلا بتغيير النهج السياسي الداخلي.

ويشير منسي إلى أن أي تدخل دولي في هذا الملف غالبًا ما تحكمه الحسابات السياسية والمصالح الكبرى، التي لا تضع الاعتبارات الإنسانية والحقوقية في أولوياتها للأسف.

انتكاسة حقوقية

من منظور حقوقي، يرى الخبير في القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، رضا الدنبوقي، في تصريح لـ"جسور بوست"، أن "تقييم التدهور الحقوقي في كوريا الشمالية لا يمكن فصله عن بنية النظام السياسي، الذي يقوم على احتكار السلطة بشكل شامل وتقييد الحريات الأساسية تحت ذريعة الأمن القومي".

ويوضح الدنبوقي أن التقارير الحقوقية الدولية تؤكد استمرار الانتهاكات المنهجية، التي تشمل الاعتقالات التعسفية، التعذيب، القمع الرقابي، وانعدام حرية التعبير، فضلًا عن التجويع الممنهج، ويشير إلى أن تقرير مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان لعام 2014 قدَّر عدد المحتجزين في معسكرات الاعتقال السياسية (كوان-li-so) بنحو 120,000 شخص، وهو رقم يُرجح تضاعفه بحلول عام 2025.

كما يؤكد أن كوريا الشمالية تحتل المرتبة الأخيرة (180 من أصل 180 دولة) في مؤشر حرية الصحافة لعام 2023، وفقًا لتصنيف "مراسلون بلا حدود"، وفيما يخص الأوضاع المعيشية، يشير إلى أن 42% من السكان كانوا يعتمدون على المساعدات الغذائية وفق تقديرات برنامج الأغذية العالمي لعام 2022، في حين تُوجه الموارد نحو البرامج العسكرية. وتشير تقديرات غير مؤكدة إلى أن نسبة المحتاجين للمساعدات الغذائية قد ارتفعت إلى 60% بحلول نهاية عام 2024.

ويلفت الدنبوقي إلى أنه خلال آلية الاستعراض الدوري الشامل (UPR) لعام 2023، رفضت كوريا الشمالية 148 توصية من أصل 268 مقدمة من الدول الأعضاء، بما في ذلك توصيات بوقف التعذيب وضمان المحاكمات العادلة، وهو ما يعكس استمرار سياسة الإنكار رغم التزامات بيونغ يانغ الدولية، مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966.

*ذرائع النظام

يرفض الدنبوقي مبررات كوريا الشمالية بشأن تأجيل الإصلاحات الحقوقية تحت دعاوى التهديدات الخارجية والعقوبات، مشددًا على أن هذا التبرير غير مقبول لثلاثة أسباب قانونية أولها استقلالية الالتزامات الحقوقية عن السياق السياسي: المادة 2 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية تُلزم الدول باحترام الحقوق الأساسية دون تمييز أو استثناء، حتى في حالات النزاع أو العقوبات.

أما السبب الثاني فيتعلق طبيعة العقوبات المفروضة، وهي العقوبات الدولية، مثل القرارات 1718 و2375 الصادرة عن مجلس الأمن، تستهدف البرامج النووية والصاروخية، فيما تستثني المساعدات الإنسانية، ومع ذلك، يُسهم سوء إدارة الموارد من قبل الحكومة في تفاقم الأزمة الإنسانية.

فيما يتمثل السبب الثالث في المساءلة الدولية، حيث أكد تقرير لجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة لعام 2014 أن الانتهاكات المرتكبة في كوريا الشمالية تُشكل جرائم ضد الإنسانية، وهي لا تسقط بالتقادم ولا تبررها الظروف الخارجية.

ويختتم الدنبوقي حديثه بالتأكيد على أن أي إصلاح حقيقي للوضع الحقوقي في كوريا الشمالية يوجب تغييرًا جذريًا في سياسات النظام الداخلي، بعيدًا عن التذرع بالعقوبات أو التدخلات الخارجية.

سبل التصحيح

وعن سبل التصحيح المأمولة، أشار الدنبوقي إلى أن "أدوار المجتمع الدولي لتحسين الوضع الحقوقي للخروج من هذا الوضع تتطلب الأمر لستراتيجية متعددة المحاور، تشمل تفعيل آليات المساءلة وربط العقوبات بالإصلاحات وتعزيز الحوار الثنائي حماية المهاجرين الكوريين الشماليين.

وبشأن"تفعيل آليات المساءلة، أوضح أهمية "دعم إحالة ملف الانتهاكات إلى المحكمة الجنائية الدولية (ICC)، عبر مجلس الأمن، وإن كان ذلك يصطدم بحق النقض (الفيتو) الروسي والصيني، وتطبيق "الاختصاص الكوني" لمحاكمة المسؤولين عن جرائم دولية في دول ثالثة، كما حدث في قضية المحكمة الألمانية ضد مسؤول أمن كوري شمالي عام  (2020)". 

وشدد على ضرورة ربط العقوبات بالإصلاحات عبر تقديم حوافز لتخفيف العقوبات الاقتصادية مقابل تحسينات ملموسة مثل إطلاق سراح السجناء السياسيين أو السماح بزيارات مفوضية حقوق الإنسان. 

وأشار إلى أهمية تعزيز الحوار الثنائي والمتعدد الأطراف عبر  إنشاء قنوات اتصال غير سياسية (مثل منظمة الصحة العالمية أو اليونيسف) لبناء الثقة وتقييم الاحتياجات الإنسانية دون شروط مسبقة، بخلاف ضمان عدم ترحيل اللاجئين من الدول المجاورة مثل الصين تنفيذًا لمبدأ "عدم الإعادة القسرية" (المادة 33 من اتفاقية اللاجئين 1951). 

وعن إمكانية التغيير في الملف الحقوقي لكوريا الشمالية، يرى الخبير في القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، رضا الدنبوقي، أن "التقدم مرهون بتحولات  داخلية صعبة لكن التاريخ يثبت أن الضغوط الدولية المنسقة قد تحدث شقوقًا في الأنظمة المنغلقة، فضلا على أهمية ألا يغفل المجتمع الدولي أدواته، مثل:  تقارير الرصد المستمر عبر الآليات الخاصة للأمم المتحدة (مقرر حقوق الإنسان الخاص بكوريا الشمالية)، وحملات التوعية واستخدام الإذاعات الموجهة وكسر حصار المعلومات الداخلية".

وختامًا، يعتقد الدنبوقي، أن الوضع الحقوقي الكوري ليس قدرًا محتومًا، لكن تغييره يتطلب صبرًا طويلاً، وإرادة سياسية توازن بين الضغط والدبلوماسية، واستثمارًا في الإنسان قبل الجغرافيا"، مشيرًا إلى أن "التحدي الأكبر يبقى في تحويل المجتمع الدولي من كيان مشتت إلى جبهة موحده عبر تجاوز الخلافات الجيوسياسية، لأن حقوق الإنسان في كوريا الشمالية ليست ملفًا إقليميًا فحسب، بل اختبار لمصداقية النظام الدولي برمته.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية