حرب بلا منتصر... الذكرى الخمسون للحرب الأهلية اللبنانية بين أشباح الماضي ووعود المستقبل
حرب بلا منتصر... الذكرى الخمسون للحرب الأهلية اللبنانية بين أشباح الماضي ووعود المستقبل
تحلّ الذكرى الخمسون لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (1975–1990) وسط مشهد سياسي وأمني معقد، يتصدّره عدوان إسرائيلي متواصل، وعهد رئاسي جديد بقيادة جوزيف عون، في وقت لم يُحسم فيه بعد ملف سلاح حزب الله، وتحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة تهدّد البلاد والعالم بأسره.
إنها ذكرى تستحضر مآسي الماضي.. نحو 200 ألف قتيل، ومليون مهاجر، ونظام محاصصة طائفية يحاول العهد الرئاسي الجديد الفكاك من قبضته.
وبينما يستعيد اللبنانيون ألم الحرب، ينقسم الخبراء حول احتمال تكرارها؛ فهناك من يرى أن اللبنانيين اكتسبوا "مناعة قوية" ضد العودة إلى القتال، مدفوعين بوعي جماعي بأن الحرب لا رابح فيها، بل كانت مأساة جماعية خسرت فيها كل الطوائف.
في المقابل، يحذر آخرون من أن هذه المناعة "ليست مطلقة"، في ظل استفحال الأزمات الاقتصادية، والتوترات الإقليمية، والاعتداءات الإسرائيلية، فضلاً عن استمرار النظام الطائفي المتجذر في البنية السياسية والاجتماعية اللبنانية.
شبح الحرب
يرى محللون أن تجاوز الماضي الأليم يتطلب خمسة مسارات أساسية، هي تعزيز الانتماء الوطني والالتفاف حول الدولة، بدلاً من الاصطفاف الطائفي، وإطلاق إصلاحات سياسية واقتصادية جذرية، وتوحيد السلاح تحت سلطة الدولة اللبنانية، وتحسين مستوى التعليم وتعزيزه كونه وسيلة لبناء وعي جماعي سليم، والدعوة إلى حوار وطني شامل يضم مختلف المكوّنات.
في مثل هذا اليوم من عام 1975، اندلعت شرارة الحرب الأهلية في منطقة عين الرمانة بضواحي بيروت، حين أطلق مسلحون مجهولون النار على عنصرين من حزب الكتائب، أحدهما كان مرافقًا لرئيس الحزب بيار الجميّل. سرعان ما تصاعدت الأحداث إلى اشتباكات شاملة وانقسام دموي عمّ العاصمة وامتدّ إلى مختلف المناطق.
ولم تنته الحرب إلا بعد نحو 15 عاماً من الدمار، حين انعقد مؤتمر الطائف في السعودية، عقب قمة عربية طارئة عُقدت بمدينة الدار البيضاء في 23 مايو 1989، وشُكّلت لجنة ثلاثية ضمت المغرب والسعودية والجزائر.
وجمع مؤتمر الطائف، في 30 سبتمبر 1989، 62 نائبًا لبنانيًا يمثلون القوى المتقاتلة، أبرزها: حركة أمل، الحزب التقدّمي الاشتراكي، القوات اللبنانية، وحزب الكتائب، وأسفر المؤتمر عن توقيع اتفاق الطائف، الذي اعتُبر وثيقة الوفاق الوطني، ومهّد الطريق لنهاية الحرب رسمياً عام 1990.
أرقام المأساة
بحسب تقديرات لبنانية، خلّفت الحرب الأهلية ما يقرب من 150 ألف قتيل، و300 ألف جريح، و17 ألف مفقود، كما تسببت في تهجير أكثر من مليون شخص، من أصل 3 ملايين نسمة، ونزوح نحو 600 ألف من 189 بلدة وقرية، وقدّرت خسائر القطاعين العام والخاص حينها بنحو 25 مليار دولار.
في الذكرى الخمسين لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، استذكر المسؤولون اللبنانيون وجع الماضي، مؤكدين أن الطريق إلى مستقبل مستقر يمر عبر حوار وطني شامل، واحتكار الدولة وحدها للسلاح، ورفض أي مشاريع تقسيم أو فدرلة.
وقال رئيس الحكومة اللبنانية، نواف سلام، في كلمة ألقاها الأحد: "إننا نقف اليوم لا لنفتح الجراح، بل لنسترجع دروسًا يجب ألا تُنسى"، مضيفًا: "لا دولة حقيقية دون احتكار السلاح من قبل القوات المسلحة الشرعية. كل الانتصارات كانت زائفة، وكل الأطراف خرجت خاسرة، مهما تباينت الآراء حول أسباب الحرب، فإنها تلتقي عند نقطة واحدة: غياب الدولة أو عجزها"، بحسب ما نقلته وكالة الأنباء اللبنانية.
ومن قصر بعبدا، وجّه رئيس الجمهورية جوزيف عون، السبت، كلمة متلفزة إلى اللبنانيين، قائلاً: "إن الدولة والجيش والقوى الأمنية الرسمية وحدها تحمي لبنان".
وتابع: "طالما أننا متفقون على أن أي سلاح خارج إطار الدولة يشكل خطرًا على مصلحة لبنان، فقد آن الأوان لنقول بصوت واحد: لا يحمي لبنان إلا دولته، وجيشه، وقواه الأمنية".
وشدد على أن "العنف والحقد لا يحلان أي معضلة في لبنان"، داعيًا إلى التمسك بالحوار كوسيلة وحيدة لحل الخلافات، قائلاً: "كلما استقوى أحد بالخارج على شريكه في الوطن، خسر كما خسر شريكه، وخسر الوطن كله".
وفي حديثه عن ذكرى الحرب، استعاد الرئيس عون آلام اللبنانيين قائلاً: "لا بد من أن نذكر آلاف الشهداء الذين سقطوا في كل المناطق، وآلاف الجرحى الذين لا تزال جراحهم مفتوحة، والمفقودين الذين سيبقون مع ذويهم ضحايا دائمين لتلك الحرب".
كفى حربًا
من جانبه، قال النائب اللبناني بلال الحشيمي في بيان: "آن الأوان لنبني السلام. قبل خمسين عامًا اندلعت الحرب الأهلية، ففتحت مرحلة مظلمة دمّرت الوطن، قتلت، هجّرت، وشرّدت. لم ينتصر فيها إلا الحقد، ولم يكن فيها رابح، بل خسر لبنان كله".
وأضاف: "كفى استحضارًا لمشهد الحرب وكأنها مناسبة للتأمل أو الجدل. لقد كانت محرقة دامت 13 عامًا، زرعت الموت، وعمّقت الشروخ، ومع الأسف لم ننجح في تحويل الذكرى إلى عبرة حقيقية".
وأكد أن "اللبنانيين، بكل أطيافهم، لا يزالون عاجزين عن بناء مصالحة حقيقية، في وقتٍ تقف فيه القوى السياسية عند حدود الشعارات فقط، دون خطوات فعلية لمداواة الجراح". وتابع: "بعد نصف قرن، ما زالت التحديات هي ذاتها وإن تغيّرت الأسماء. السلاح غير الشرعي باقٍ، والولاءات المزدوجة تعرقل بناء الدولة".
وختم بدعوة صريحة: "فلنمحُ الحرب من ذاكرتنا اليومية لا نسيانًا، بل تخطيًا مسؤولًا. ولنجعل من 13 نيسان محطة للوعي لا مجرد استذكار، فقد آن الأوان لكتابة تاريخ جديد لا تصنعه البنادق، بل تبنيه الإرادة، والعدالة، والمواطنة".
مواقف متباينة
في المقابل، عبّر عضو "كتلة التنمية والتحرير" النائب غازي زعيتر، خلال احتفال حضره مناصرون لحزب الله، عن رفضه للدعوات المطالبة بنزع سلاح المقاومة وتطبيق القرار 1701، في ظل ما وصفه بـ"العدوان الصهيوني المستمر".
وقال زعيتر: "رئيس الجمهورية دعا إلى الحوار، من أجل إزالة الهواجس والتلاقي على مستقبل الوطن، إلا أن بعض القوى ترفض الحوار وتدعو من جهة أخرى إلى الفدرالية والتقسيم، وهذا أمر مرفوض بكل المقاييس".
وأضاف: "التمسك بسيادة لبنان لا يكون بنزع سلاح المقاومة، بل بدعمها وتطويرها، والالتفاف حول ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة".
بدورها استعادت المحللة السياسية اللبنانية ميساء عبد الخالق، في تصريح لـ"جسور بوست"، تداعيات الحرب الأهلية اللبنانية، ووصفتها بأنها "إحدى أحلك فصول تاريخ لبنان الحديث"، قائلة: "كانت حربًا أليمة عصفت بالبلاد وخلفت أكثر من 200 ألف قتيل وآلاف المفقودين... الجميع خسر. ومع حلول الذكرى الخمسين، نأمل أن نتعظ كي لا تتكرر تلك المأساة".
وترى عبد الخالق أن المجتمع اللبناني، رغم التحديات، بات اليوم أكثر نضجًا ووعيًا، مؤكدة أن "معظم اللبنانيين، بمختلف طوائفهم، يتمتعون بمناعة وطنية أقوى ضد الانزلاق نحو الحرب مجددًا، بعدما تبيّن للجميع أن لا رابح في تلك المعارك، وأن خسارة الوطن كانت موازية لخسارة الأرواح".
ولفتت إلى أن الأزمات الاقتصادية العميقة التي عاشها لبنان، بالإضافة إلى العدوان الإسرائيلي الأخير، "ساهمت في توحيد الشارع اللبناني بشكل غير مباشر، من خلال تعزيز الشعور بالانتماء الوطني، رغم استمرار الانقسامات السياسية"، مشيرة إلى اتهامات تُوجّه إلى أطراف معينة، منها "حزب الله"، بالضلوع في تأجيج الصراعات.
وبنبرة متفائلة، اعتبرت عبد الخالق انتخاب الرئيس جوزيف عون يمثل فرصة مفصلية: "لبنان يدخل عهدًا رئاسيًا جديدًا مع شخصية تحظى بقبول واسع، وهو ما قد يسهم في فتح صفحة جديدة عنوانها الوحدة الوطنية، وتجاوز الاصطفافات الطائفية".
وشددت على ضرورة الالتفاف حول الدولة ومؤسساتها، مؤكدة أن "الحل الوحيد لتحصين البلاد من أي شرارة قد تعيد شبح الحرب هو حصر السلاح بيد الجيش اللبناني، وضمان قدرة الدولة على الإمساك الكامل بزمام الأمور".
في الذكرى الخمسين للحرب الأهلية اللبنانية، تتقاطع الآراء عند ضرورة استخلاص العِبر وبناء وطن يحصّنه الوعي ويقوده الحوار في لبنان، الذي عانى طويلاً من ويلات الانقسام، يقف اليوم أمام فرصة تاريخية لتثبيت السلم الأهلي وتكريس دولة القانون.