استهداف النظام الصحي في غزة.. حرب ممنهجة تخترق القانون الدولي
استهداف النظام الصحي في غزة.. حرب ممنهجة تخترق القانون الدولي
شهد يوم السابع من أكتوبر 2023 بداية انهيار ممنهج للقطاع الصحي في غزة، ضمن سياق عدوان إسرائيلي شامل، حوّل المستشفيات إلى أهداف مباشرة، ووضع غزة في صدارة الكوارث الإنسانية في العصر الحديث، حيث فقدت المدينة، التي كانت تحتضن 36 مستشفى رئيسيًا، جزءًا كبيرًا من قدراتها العلاجية، وتحولت إلى منطقة طبية منكوبة في ظل الهجمات المتواصلة.
أكدت منظمة الصحة العالمية في تقرير صدر في أكتوبر 2024، وقوع أكثر من 625 هجومًا استهدف المنشآت الصحية في القطاع منذ بداية العدوان، بما في ذلك المستشفيات الحكومية والميدانية، مثل المستشفى الكويتي في خان يونس الذي تعرض الأسبوع الماضي لهجوم أدى إلى إصابة طاقم طبي، بينهم ممرضتان، في حين كان يعالج مئات الجرحى.
وأفاد التقرير بأن 15 مستشفى تم تدميرها كليًا أو تعرضت لأضرار جسيمة أدت إلى توقفها النهائي، فيما تواصل 21 مستشفى فقط العمل جزئيًا، في مشهد يعكس الانهيار شبه الكامل للمنظومة الصحية.
وخسرت غزة أكثر من 350 من الكوادر الطبية ما بين أطباء وممرضين، سقطوا خلال تأدية واجبهم الإنساني، وهو ما يمثل نزيفًا بشريًا يهدد مستقبل الرعاية الصحية في القطاع المحاصر، وأدت هذه الخسائر إلى تفاقم أزمة الكوادر في ظل غياب التدريب والاستبدال، مع استمرار العمليات الحربية التي تستهدف الطواقم مباشرة.
العدوان يخالف القانون الدولي
انتهكت إسرائيل بشكل صارخ القانون الدولي الإنساني باستهدافها المتكرر للمنشآت الصحية، في تحدٍّ صريح للمادة 18 من اتفاقية جنيف الرابعة، التي تنص على حماية المرافق الطبية خلال النزاعات المسلحة، ووصفت منظمات حقوقية هذه الممارسات بأنها ترقى إلى جرائم حرب مكتملة الأركان، تتنافى مع كل المبادئ الإنسانية.
وأوضح أستاذ القانون الدولي بجامعة القدس، البروفيسور أحمد الدجاني، أن القوات الإسرائيلية انتهكت 32 مادة من اتفاقيات جنيف، بينها 12 مادة خاصة بحماية المنشآت الطبية، محذرًا من تحول غزة إلى منطقة خارج القانون الدولي.
وسجلت الأمم المتحدة 4200 انتهاك ضد القطاع الصحي، شملت الاعتقالات، والهجمات المباشرة، ومنع الإمدادات، ما عمق من الجرح الإنساني في غزة.
وفقد القطاع الصحي 85% من قدرته التشغيلية، وفقًا لتقرير منظمة الصحة العالمية، وسط نقص حاد في المعدات الطبية وانعدام الأدوية الأساسية، وعلى رأسها علاجات السرطان والسكري، ومع تصاعد الأزمة، أصبحت المستشفيات تعمل بقدرات بدائية لا تكفي لعلاج آلاف المصابين.
مستشفيات تحولت إلى ملاجئ
أوضح الدكتور محمد أبو سلطان، جراح أوعية دموية في مستشفى الشفاء، أن غرف العمليات تم تدميرها بالكامل، ما اضطر الطواقم إلى إجراء العمليات الجراحية في الممرات، وفي كثير من الأحيان دون تخدير كافٍ، مشيرًا إلى أن "المولدات لا تعمل إلا لساعات محدودة، والموارد نفدت منذ شهور".
وأكد تقرير "أطباء بلا حدود" أن 78% من العمليات تجرى حاليًا في ظروف غير إنسانية، باستخدام معدات ملوثة أو معاد تدويرها.
وتوقعت منظمة الصحة العالمية أن يصبح الكوليرا من أبرز التهديدات، بعد أن أُصيب به 35% من أطفال القطاع، نتيجة تلوث المياه وسوء النظافة العامة، كما أفادت وكالة "أونروا" أن 78% من النازحين يعانون أمراضًا جلدية ناتجة عن الاكتظاظ وانعدام الرعاية الطبية داخل الملاجئ.
وذكرت نقابة الأطباء أن 94% من الكوادر الطبية يعملون دون أجر منذ أكثر من عشرة أشهر، في ظروف معيشية قاسية، ويتعرض الأطباء للعمل حتى 72 ساعة متواصلة، مع تعرض 65% منهم لإصابات خلال العمل، في حين استشهد 40 طبيبًا خلال محاولاتهم إنقاذ الأرواح تحت القصف.
عرقلة المساعدات الإنسانية
واجهت المساعدات الإنسانية عراقيل كبيرة، إذ أشارت تقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية إلى أن 18% فقط من المساعدات تم السماح بدخولها إلى غزة، رغم الحاجة الملحة إلى 500 شاحنة يوميًا، ورفضت السلطات الإسرائيلية 45% من طلبات تنسيق دخول المواد الطبية، ما زاد من حدة الأزمة.
حذرت منظمات دولية من أن استمرار هذا الوضع سيؤدي إلى وفاة نحو 50 ألف شخص مع حلول فصل الشتاء، إذا لم يتم تقديم مساعدات عاجلة، وقد يُغلق 12 مستشفى إضافيًا خلال الأسابيع المقبلة، كما يخشى الخبراء من أن يواجه أطفال غزة جيلًا كاملًا من الإعاقات الدائمة نتيجة سوء التغذية ونقص الرعاية الطبية.
وأكد محمد عبد الناصر، أحد سكان قطاع غزة، أن القانون الدولي وضع آليات واضحة لحماية المنشآت الطبية والعاملين بها في مناطق النزاع، بما في ذلك في غزة، مشيرًا إلى أن هذه الحماية يجب أن تكون محل احترام من قبل كافة الأطراف، بما في ذلك الاحتلال الإسرائيلي، موضحًا أن الاحتلال لا يلتزم بتلك المبادئ، بل يمارس انتهاكات جسيمة ضد المستشفيات والعاملين فيها، حيث يتم استهداف المنشآت الطبية بشكل متعمد.
وأضاف في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن هذه الاعتداءات تشكل خرقًا صارخًا للقانون الدولي، بل يمكن تصنيفها على أنها جرائم حرب وجريمة ضد الإنسانية، بل وربما تصل إلى حد الإبادة الجماعية، حيث يسعى الاحتلال إلى قتل كل شيء في غزة، بما في ذلك المدنيين والمرافق الحيوية.
وأوضح أن الوضع الصحي في القطاع مأساوي، فلا يتمكن الجرحى من الحصول على العلاج المناسب نتيجة للاستهداف المتكرر للمستشفيات والمراكز الصحية، مشيرًا إلى أن الهدف من هذا الهجوم على المنشآت الطبية في غزة هو إيقاف الرعاية الصحية، ما يزيد من معاناة المواطنين ويضاعف من أعداد الضحايا. فالمصاب، عند تعرضه للإصابة، يجد نفسه أمام خيار قاتم؛ إما الموت أو العيش في ظل عدم وجود الرعاية الطبية اللازمة، وهي حالة سائدة في كافة أنحاء القطاع في الوقت الحالي.
وأكد عبد الناصر ضرورة تفعيل آليات القانون الدولي بشكل عاجل وملموس، حيث يجب على المجتمع الدولي بذل كل الجهود لضمان حماية المنشآت الطبية وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة. وأشار إلى أهمية الضغط على الاحتلال من خلال إصدار قرارات ملزمة من قبل مجلس الأمن أو الأمم المتحدة لتوفير الحماية اللازمة للفلسطينيين في قطاع غزة، وتحديدًا فيما يتعلق بحماية المنشآت الطبية وتسهيل دخول المساعدات.
وشدد عبد الناصر على أن المحاصرة المستمرة للمدنيين في غزة وقتلهم بالطرق المختلفة، من خلال منعهم من الحصول على الغذاء والدواء والوقود، يشكل جريمة مكتملة الأركان. فهذه السياسة لا تستهدف فقط الإنسان الفلسطيني، بل تقتل كل مقومات الحياة، وتزيد من معاناة المواطنين في ظل نقص حاد في الرعاية الطبية، مؤكدا أن هذا النوع من الحروب، التي تستهدف الإنسان والحجر على حد سواء، يعد بمنزلة حرب إبادة جماعية، تشارك في ارتكابها القوى الكبرى التي تدعم الاحتلال بشكل غير مباشر من خلال السياسة الخارجية والمواقف الدولية المتراخية.
في ختام تصريحاته، شدد عبد الناصر على أن التحدي الأكبر أمام المؤسسات الدولية يكمن في كيفية مواجهة إرهاب الدولة الإسرائيلي في ظل الدعم الأمريكي المستمر، وكذلك ضعف النظام الأممي الذي بات يعاني عجزًا في اتخاذ قرارات حاسمة، في وقت تمارس فيه الدول الكبرى سياسة خارجية تفضل السياسة على العدالة القانونية.
انتهاك القانون الدولي
من جانبه، تحدث المحامي والحقوقي رائد البرش، عن واقع القطاع الصحي في غزة، ويناقش في تصريحات قانونية كيفية ضمان حماية المنشآت الطبية والعاملين فيها في ضوء الهجمات الإسرائيلية المتزايدة.
وتابع البرش، في تصريحات لـ"جسور بوست"، لقد نصت اتفاقيات القانون الدولي الإنساني على ضرورة حماية الطواقم الطبية والأعيان الصحية، بما في ذلك المستشفيات والمراكز الطبية، وهي محمية بموجب اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 والبروتوكولات الإضافية التي أُبرمت في عام 1977، وكذلك القواعد العرفية التي تشدد على واجب الأطراف المتنازعة احترام الطواقم الطبية والمرافق الصحية ورغم ذلك، لا تكاد تمر فترة دون أن تشهد غزة هجمات متواصلة تستهدف هذه المنشآت، في انتهاك صارخ لهذه القواعد.
وتستمر هذه الهجمات في تكثيف معاناة السكان، حيث يلاحظ أن الاحتلال الإسرائيلي لا يكتفي بالهجوم على المدنيين، بل يوجه ضرباته مباشرة نحو النظام الصحي الذي يُعد أحد أهم الأعمدة الأساسية لبقاء الناس على قيد الحياة. وفي ظل هذا الوضع القاسي، يبدو أن حماية المنشآت الطبية تظل مجرد شعارات طالما غابت الإرادة السياسية لدى المجتمع الدولي في تفعيل الآليات الفعالة لتطبيق القانون الدولي.
وأوضح البرش أن الاعتداءات على المستشفيات والمراكز الصحية في غزة تمثل انتهاكاً صارخاً لاتفاقيات جنيف، وقد تشكل جرائم دولية تتطلب ملاحقة قضائية، ورغم هذا الانتهاك الواضح، فإن محاكمة إسرائيل أمام المحاكم الدولية تظل بحاجة إلى إرادة سياسية من قبل السلطة الفلسطينية والمجتمع الدولي لدفع هذه القضية نحو محاكمة دولية، لا سيما أمام المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية.
وفيما يتعلق بمسألة الضغط على إسرائيل لوقف الهجمات على المنشآت الطبية في غزة، يلفت البرش إلى أن المجتمع الدولي لا يزال يعاني من عجز واضح في تطبيق أحكام القانون الدولي بشكل فعال، ولا سيما مع الدعم المستمر الذي تقدمه الدول الكبرى للاحتلال الإسرائيلي. ويشير إلى أن الإرادة السياسية لبعض الدول الكبرى، بما في ذلك الولايات المتحدة وبريطانيا، تدعم إسرائيل بشكل مطلق، ما يمنحها الإحساس بأنها فوق القانون.
ويرى البرش أن هناك فرصاً للضغط على إسرائيل من خلال عدد من الإجراءات التي تشمل قطع العلاقات الدبلوماسية، تعليق المعاملات التجارية، وتفعيل الولاية القضائية للدول، مشددا على أهمية الترويج للاعتراف بالدولة الفلسطينية على حدود 1967، وتوفير الدعم للشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. ويؤكد أن هذه الإجراءات قد تسهم في إجبار الاحتلال الإسرائيلي على احترام قواعد القانون الدولي والإنساني.
وعن الأوضاع الصحية، قال البرش، إن الوضع أصبح مقلقاً للغاية في ظل العجز الكبير في الإمكانيات الصحية. فالمستشفيات التي كانت تقدم الرعاية لآلاف المصابين في الماضي، أصبحت الآن عرضة للتدمير بشكل متعمد. بالإضافة إلى ذلك، يشير إلى أن القطاع الصحي يعاني نقصًا حادًا في الأطباء والمعدات الطبية، بسبب استهداف الأطباء وقتلهم وتهديدهم ومنعهم من أداء عملهم.
وأكد البرش أن الرعاية الصحية في غزة تتم وفقاً لأدوات بسيطة للغاية، حيث يتم تقديم الإسعافات الأولية والعمليات الجراحية البسيطة للمصابين، بينما يعاني العديد من المرضى غياب العلاج المناسب. وبحسب قوله، فإن المرضى لا يجدون ما يكفي من الرعاية الطبية المتكاملة، ويعتمدون على ما هو متاح من موارد، ما يجعل الوضع الصحي في غزة في غاية الخطورة.
وأتم، يبقى قطاع غزة يعاني الحصار المستمر والاعتداءات المتواصلة على حقوق الإنسان، وخصوصاً الحق في الرعاية الصحية. ومع ذلك، يبقى الأمل في أن يتحرك المجتمع الدولي لمحاسبة الاحتلال الإسرائيلي على جرائمه، وضمان حقوق الشعب الفلسطيني في العيش بسلام وفي ظروف إنسانية أفضل.