سوريا تحت تهديد الألغام.. مخلفات الحرب تحصد أرواح الأبرياء بلا رحمة

سوريا تحت تهديد الألغام.. مخلفات الحرب تحصد أرواح الأبرياء بلا رحمة
مخلفات الحرب- أرشيف

في بلد لم تهدأ فيه نار الحرب منذ 14 عاماً، لا تزال الأرض السورية تنبض بخطر صامت، خطر لا يرى بالعين المجردة، ولا يصدر إنذاراً قبل أن يخطف الأرواح أو يشوّه الأجساد. 

انفجار تسيل بريف درعا، الذي أودى بحياة 4 أشخاص بينهم أطفال، وجرح 4 آخرين، ليس استثناءً ولا حادثاً عابراً، بل هو فصل جديد في مأساة مستمرة، عنوانها البارز "مخلفات الحرب" التي ما زالت تحصد الأرواح حتى بعد أن هدأ صوت القذائف وتوارى الدخان خلف خرائب المنازل المهدّمة.

وتكشف أرقام القتلى والمصابين عن عمق الفاجعة، حيث وثق المرصد السوري لحقوق الإنسان مقتل 346 مدنياً منذ بداية عام 2025 وحتى أبريل، نتيجة انفجار ألغام وقنابل عنقودية وذخائر لم تنفجر، تركتها سنوات النزاع الطويلة في الحقول، وعلى جنبات الطرق، وفي المدارس المهجورة، وفي الحدائق والمزارع، بل وأحياناً في منازل عاد إليها أصحابها بعد سنوات من التهجير. 

من بين هؤلاء الضحايا، هناك 77 طفلاً، وهو ما يعادل أكثر من 22% من مجموع القتلى، و19 سيدة، ما يؤشر على مدى استهداف الفئات الهشّة وغير المحمية، ويعكس فشلاً مركباً في حماية المدنيين في بيئات ما بعد الحرب، أما الجرحى فقد بلغ عددهم 358 شخصاً، من بينهم 151 طفلاً و3 سيدات، وتتنوع الإصابات بين إعاقات جسدية دائمة، فقدان أطراف، تشوهات، وإصابات نفسية لا تقل قسوة.

هذه الكارثة المتجددة ليست معزولة عن سياقها العام، بل هي نتيجة مباشرة لفوضى الحرب الطويلة التي حولت سوريا إلى واحدة من أكثر الدول تلوثاً بالألغام والمتفجرات في العالم.

زيادة عدد الضحايا

ووفق تقرير حديث صادر عن منظمة هيومن رايتس ووتش، فإن عدد الضحايا الناتجين عن مخلفات الحرب منذ سقوط النظام في ديسمبر الماضي وحتى الآن تجاوز 600 ضحية بين قتيل وجريح، مشيرة إلى أن الأسلحة المتروكة تسببت في مقتل ما لا يقل عن 249 شخصاً، بينهم 60 طفلاً، وإصابة 379 آخرين بجراح، بعضها بالغ الخطورة.

وتواجه المنظمات العاملة في مجال إزالة المخلفات الحربية، وعلى رأسها الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء)، تحديات ضخمة في سبيل تطهير الأرض من هذا الإرث القاتل، بين أبريل 2024 وأبريل 2025، نفذت فرق إزالة المخلفات أكثر من 2300 عملية إزالة، تم خلالها التخلص من 2931 ذخيرة غير منفجرة، بعضها من النوع شديد الانفجار أو المحظور دولياً. 

وقامت هذه الفرق أيضاً بتنفيذ 1185 عملية مسح غير تقني، ساهمت في تحديد 832 منطقة ملوثة بمخلفات الحرب، تتوزع على أنحاء متفرقة من الشمال السوري والجنوب وحتى مناطق البادية، فيما بلغ عدد جلسات التوعية 3694 جلسة حضرها نحو 72,808 مستفيد، من بينهم طلاب مدارس، ومزارعون، وعمال بناء، وسكان عادوا إلى قراهم ومنازلهم.

ورغم كل هذه الجهود، فإن التحدي الأكبر لا يزال في حجم المشكلة مقارنة بالإمكانات المتاحة، حيث تُقدَّر نسبة المناطق التي لم تُفحص بعد أو لا تزال ملوثة بأكثر من 80% من مجمل المناطق التي شهدت معارك أو قصفاً جوياً أو برياً، ما يزيد المأساة عمقاً هو أن عدد العائدين إلى منازلهم ازداد خلال الأشهر الأخيرة، لا سيما في الجنوب السوري، حيث عاد آلاف المدنيين إلى بلدات مثل الحراك، ونوى، وتسيل، ليكتشفوا أن منازلهم ليست مهدمة فحسب، بل محاطة بخطر غير مرئي قد يودي بحياتهم أو حياة أطفالهم.

وتبدو الإجراءات الحكومية في هذا الملف شبه غائبة، إذ لا توجد خطة وطنية شاملة لإزالة الألغام، ولا سياسة واضحة لتعويض الضحايا أو توفير الرعاية الطبية والنفسية لهم. 

ضحايا الألغام في سوريا

بحسب تقرير صادر عن "مركز العدالة لضحايا النزاع المسلح"، فإن أكثر من 91% من ضحايا الألغام في سوريا لم يحصلوا على أي تعويض أو دعم من أي جهة رسمية، ويعتمدون غالباً على منظمات محلية أو دولية لتوفير العلاج أو الأطراف الصناعية أو الدعم النفسي، بينما تعيش بعض الأسر في ظروف إنسانية كارثية بعد أن فقدت معيلها أو تعرض أحد أفرادها لإعاقة دائمة.

ولا يقتصر الخلل على الدولة، بل يمتد إلى المجتمع الدولي الذي لم يوف بالتزاماته تجاه ملف الألغام في سوريا، فبينما تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن إزالة الألغام والمتفجرات من الأراضي السورية تتطلب ما لا يقل عن 100 مليون دولار سنوياً على مدار عقد كامل، فإن المبلغ الذي تم تأمينه لم يتجاوز 20 مليون دولار في السنوات الأخيرة، مما دفع بعض المنظمات الدولية المتخصصة إلى تقليص نشاطها أو الانسحاب من بعض المناطق بسبب نقص التمويل.

ورغم سوداوية المشهد، إلا أن بعض المبادرات المحلية أظهرت أن للمجتمع السوري القدرة على مقاومة الموت ولو بأدوات بسيطة. ففي بعض القرى، بدأ السكان بتنظيم دورات توعية ذاتية، وتحديد المناطق الخطرة بعلامات بدائية، ومنع الأطفال من اللعب في المناطق التي يُشتبه بكونها ملوثة، وقد أظهرت هذه المبادرات أثراً محدوداً لكنه مهم في تقليل عدد الضحايا في بعض المناطق، رغم أنها لا تزال غير كافية في غياب الدعم الرسمي والتقني.

وتبقى الفجوة الأكبر في حماية الأطفال الذين يشكلون الفئة الأكثر عرضة للخطر بسبب طبيعتهم الفضولية وعدم وعيهم بمخاطر الأجسام المشبوهة، وتشير تقارير اليونيسف إلى أن أكثر من 5 ملايين طفل في سوريا يعيشون في مناطق ذات خطر مرتفع بسبب قربها من أماكن قتال سابقة أو مناطق قُصفت مراراً خلال الحرب، مما يجعل من الضروري إدماج التوعية بمخاطر الألغام في المناهج المدرسية، وتكثيف الحملات الإعلامية الموجهة، وإنشاء ملاعب آمنة وبيئات مدرسية خالية من التهديدات.

الحاجة لتدخل دولي

قال محمود جاسم، أحد المواطنين السوريين: “إن الأمان غائب تماماً في سوريا، فلا يوجد مكان آمن في ظل الانتشار الواسع للألغام ومخلفات الحرب، هذه الألغام توجد في معظم المحافظات، بل داخل المناطق السكنية، وفي داخل البيوت والمنازل، كل منطقة كانت تحت سيطرة النظام تركت ورائها الألغام والقنابل، ما يجعل الحياة اليومية تهددها المخاطر المستمرة، حيث تتكرر الحوادث يومياً من إصابات وقتلى بسبب هذه المخلفات، لم يعد لدينا في سوريا مكان آمن من هذا الخطر المستمر”.

وأضاف جاسم، في تصريحات لـ"جسور بوست"، “الإجراءات التي تقوم بها الدولة تعتبر بسيطة جداً ولا تكفي لحجم الكارثة، المسؤولية الكبرى في إزالة الألغام تقع على عاتق المتطوعين، الذين يعملون بأرواحهم، دون أي دعم حقيقي من الدولة، هؤلاء المتطوعون يقومون بتفكيك الألغام على حساب حياتهم الشخصية، في وقت تعجز فيه الدولة عن مواجهة هذه المشكلة الكبيرة بسبب كثرة الألغام المنتشرة في كافة أنحاء البلاد، الوضع في سوريا كارثي، كل يوم لدينا توثيق لحالات قتل وإصابة بسبب الألغام”.

أما عن جهود المنظمات الدولية، فقال: “المنظمات الدولية تقوم بالتوعية فقط، وهذا لا يكفي لحل المشكلة، هناك بعض المنظمات الخارجية التي تبذل جهوداً من خلال نشر المنشورات وتنظيم حملات توعية للمواطنين، بالإضافة إلى عمل فرق الدفاع المدني التي تقدم الإسعافات الأولية وتقوم ببعض الطلعات الوقائية، لكن هذا كله لا يفي بالغرض، فالمشكلة أكبر من أن يتم التعامل معها عبر التوعية فقط، لأن الألغام والمخلفات الحربية تشكل تهديداً كبيراً لكل من يعيش في هذه المناطق”.

وأضاف جاسم: "لقد شهدت العديد من حالات التفجير بسبب الألغام، وهي ألغام ثقيلة يمكن أن تقتل فوراً، مثل الصواريخ العنقودية للأسف، العديد من أفراد عائلتي أصيبوا، وبعضهم لقي حتفه بسبب هذه المخلفات المميتة."

وطالب جاسم بتدخل دولي عاجل لإزالة الألغام والمخلفات الحربية التي تلوث الأرض السورية بشكل كامل وقال: “نحن عاجزون عن التعامل مع هذه الكارثة بأنفسنا نحتاج إلى فرق دولية مختصة تقوم بإزالة الألغام والمخلفات الحربية بشكل كامل نحن نتمنى أن نعيش في أمان من أي خطر يهدد حياتنا وحياة أطفالنا، الأمل الوحيد هو في تدخُّل دولي من أجل أن نعيش في ظروف أكثر أماناً وطمأنينة. نعلم أن هناك فرقاً كبيراً بين حكومة بشار وحكومة الجولان، ولكن على الأقل نأمل أن نتمكن من العودة إلى بلادنا وقُرانا دون أن نعيش تحت تهديد الألغام”.

سبل التعافي من آثار الحرب

قال الدكتور جمال فرويز، استشاري الطب النفسي، إن المناطق التي تشهد صراعات وأعمال عنف متواصلة، خصوصاً تلك التي تقع بالقرب من المناطق السكنية، تُعد بيئة خصبة لخلق شعور دائم بعدم الأمان، وهو ما يؤدي إلى تأثيرات نفسية وصحية خطيرة، وأن هذه البيئة تُسبب اضطرابات متعددة في النوم، وفقدان الشهية، فضلاً عن ظهور بعض الأعراض الجسمانية مثل التعب والآلام التي لا يمكن تفسيرها.

وأوضح فرويز، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن تأثير هذه الأزمات يكون أكثر حدة إذا كانت الأحداث العسكرية تؤثر على أفراد معينين أو عائلات معينة بشكل فردي، في حين أن التأثير الجماعي في المدن أو البلدان التي تواجه النزاع يكون أقل قسوة على النفس، حيث تتشابه التجارب ويكون الشعور بالمشاركة في المعاناة جزءاً من عملية التكيف الجماعي ولكن، يبقى الخطر كبيراً على المدى البعيد، خصوصاً على الأطفال الذين قد لا تظهر عليهم اضطرابات نفسية بشكل فوري، بل تُظهر تلك التأثيرات النفسية بعد انتهاء النزاع بفترة من الزمن، حيث يُصاب الأطفال باضطرابات نفسية عندما يتعرضون لمواقف مشابهة لما مروا به.

وأكد فرويز أنه خلال عمله مع الأمم المتحدة، لاحظ كيف أن الأطفال يبدؤون في إظهار علامات هذه الاضطرابات النفسية عندما يُجبرون على العودة إلى ذكريات الصدمات التي مروا بها نتيجة التعرض لمواقف مشابهة في المستقبل. وأضاف أن اضطرابات النوم، والكوابيس المتكررة، ومشاعر القلق والخوف، من أبرز الأعراض النفسية التي يعاني منها هؤلاء الأطفال بعد انتهاء فترة النزاع.

وفي السياق، أشار فرويز إلى أهمية الدعم النفسي المستمر للمجتمعات المنكوبة، موضحاً أن الدعم المعنوي والنفسي القوي، بالإضافة إلى الأنشطة المجتمعية والتفاعل مع الحياة العامة، يمكن أن يكون له تأثير إيجابي كبير في تخفيف الأعراض النفسية. كما أن توفير الدعم الطبي، بما في ذلك تأمين الأدوية المناسبة، وتوفير الرعاية الصحية للأشخاص الذين تعرضوا لإصابات جسدية مثل بتر الأطراف، سيسهم في تسريع عملية الشفاء النفسي والجسدي.

وشدد على ضرورة توفير أطراف صناعية وصيانتها بشكل مستمر للذين فقدوا أطرافهم بسبب الحرب، حيث أن هذا الأمر يسهم في استعادة جزء من كرامتهم وحركتهم، مما يساعد في التغلب على جزء من الأضرار النفسية الناجمة عن فقدان جزء من الجسم. ورأى أن التواصل الاجتماعي مع الأفراد المتضررين وشعورهم بتضامن المجتمع معهم من شأنه تخفيف حدة الأزمة التي يمرون بها.

ولفت فرويز إلى أهمية توفير الاحتياجات الأساسية للأشخاص، وخصوصاً الأطفال الذين يعانون من آثار الحرب. 

وقال إن توفير الغذاء، والمياه، والمأوى، والملابس، ليس فقط من ضروريات الحياة اليومية، بل هو من عوامل الصحة النفسية التي تسهم في تخفيف الصدمات النفسية. 

وأضاف أن إظهار العاطفة للأطفال، من خلال اللعب معهم، وتقديم الدعم العاطفي، يعزز قدرتهم على التعامل مع الصدمات ويسهم في تعزيز قدرتهم على التكيف مع الواقع الجديد.

وأكد فرويز ضرورة الاهتمام بهذه الجوانب النفسية، وتوفير الدعم الفعال للمجتمعات المتضررة من الحروب والنزاعات، مشيراً إلى أن هذه الجهود لا تهدف فقط إلى التخفيف من المعاناة الفورية، بل تسهم أيضاً في بناء مجتمع أكثر قدرة على التعافي والتطور على المدى الطويل.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية