من الاغتصاب إلى الأمل.. ناجيات من حرب السودان يكافحن للتعافي
من الاغتصاب إلى الأمل.. ناجيات من حرب السودان يكافحن للتعافي
منذ أن اشتعل فتيل الحرب في السودان في أبريل 2023، أصبحت النساء أكثر من يدفع الثمن، قصص موجعة تتكرر في صمت لفتيات اختُطفن، وأخريات تعرّضن للاغتصاب في ظروف قاسية، وأمهات فقدن أبناءهن ثم وُجه لهن عنف لا يحتمل.
ومع مرور الوقت، بدأ بعض الناجيات يبحثن عن طريق للنجاة، لا فقط من الجحيم الذي مررن به، بل من أثره العميق في أرواحهن، وبعضهن وجدن هذا الطريق في مراكز التأهيل والدعم النفسي، حيث بدأن رحلة شفاء طويلة، لكنها ممكنة، ورغم الألم، فإن هناك من يبدأن من جديد، بخطوات صغيرة، نحو حياة لم تُمحَ فيها آثار الجراح، لكنها لم تعد تتحكم في المصير.
في أحد الأحياء البسيطة بأطراف الخرطوم، كانت "وفاء" (اسم مستعار)، سيدة في الخامسة والأربعين من عمرها، تنسج أيامها بين حب عائلتها وهدوء بيتها المتواضع المصنوع من الطوب اللبن.
لم تكن تطلب من الدنيا أكثر من لحظات دافئة تجمعها بزوجها وطفليها، ذي السبعة والإحدى عشر عاماً، لكن تلك الحياة الهادئة تحولت في ليلة واحدة إلى كابوس، حين انتُزع منها الأمان، وتركت لها الواقعة جرحاً نازفاً تخشى حتى الاقتراب من حكايته.
في 20 يوليو 2023، اقتحم ثلاثة رجال مدججين بالسلاح منزل وفاء، لم يكن هناك وقت للنجاة أو التفكير، اثنان منهم جرّاها إلى داخل البيت، في حين بقي الثالث يحاصر زوجها في الخارج، وبلغة حاقدة، حملوا إليها اتهامات قديمة، ساخطين لأنها "من الخرطوم"، حيث قالوا إن أهلهم في دارفور لاقوا الإهانة.
بدأ الابتزاز سريعاً.. المال، الذهب، ثم الخيار المرير.. "جسدك أو حياة أطفالك"، وتحت تهديد السلاح، وجدت وفاء نفسها مُجبرة على دفع الثمن الأغلى، وانتهكت إنسانيتها بأبشع صورة.
تقول وفاء، بصوت تحاصره الدموع كلما حاولت استعادة تفاصيل تلك الليلة: "لم يكن هناك مفرّ.. اغتصبوني وتركوني مكسورة، كنت أعاني الاكتئاب قبلها، وبعدها أصبحت مجرد ظل لإنسانة".
بعد 4 أيام شاقة، استطاعت الأسرة الهروب إلى ولاية الجزيرة، وهناك وجدت وفاء بعض العناية من منظمة أطباء بلا حدود، التي أجرت لها الفحوصات اللازمة لاكتشاف أي أمراض أو حمل، لكن الأزمة النفسية التي كانت تنخر روحها لم تجد من يمد لها يد الإنقاذ، فالوضع الأمني حال دون تلقي الدعم النفسي، عدّت وفاء نجاتها من حمل محتمل نتيجة الاغتصاب، بمنزلة آخر خيط يتعلق به قلبها المكسور، فهي لا تتخيل أن تنظر إلى طفل ترى فيه وجوه من كسروا كرامتها، وجعلوها تعيش على حافة الانهيار، تقول وفاء بحزن غائر: "لم أعد أشعر بالأمان، كل شيء حولي يبعث على الخوف، لا شيء يهم بعد الآن.. الحياة أصبحت ثقيلة أكثر مما أحتمل".
ألم يعصف بالنساء
وهكذا، تحمل وفاء جراحها بصمت، شاهدة على الألم الذي يعصف بالنساء في ظل النزاعات، حيث يصبح الجسد ساحة أخرى من ساحات الحرب، والصمت ضرورة للبقاء، وحين انتقلت إلى الجزيرة، كانت تحمل في داخلها كل شيء ولم تُفصح عن شيء، لم يكن من حولها يعرفون تفاصيل ما حدث، إلا أن وجودهم -بصمتهم ودفئهم- كان عزاءً خفياً خفف عنها دون أن يشعروا، كان زوجها وحده يعرف الحكاية كاملة، أما الآخرون فكانوا يحيطونها بحب فطري، لا يسألون، ولا يضغطون، فقط يبقون قربها، وهو ما كانت تحتاجه بالضبط.
ورغم المأساة وصعوبة الظروف قررت وفاء أن تبدأ من جديد ،لم تستسلم، بل اختارت أن تشغل روحها بما تستطيع، حضرت جلسات حفظ القرآن، غيرت تفاصيل يومها الصغيرة، أحاطت نفسها بالعائلة قدر الإمكان، ومع كل دعاء وحفظ آية، كانت تستعيد جزءاً من نفسها المكسورة.
"الوجع لم يختفِ، ولن يختفي تماماً"، هكذا تقول وفاء التي تنام ذكرياتها في زوايا بعيدة من قلبها، وتصحو فجأة بلا استئذان، تثقل الساعات والأنفاس، ولكن رغم كل شيء، تَعلمت أن تمسك بيد الصبر، وأن تتشبث بيقين عميق بأن الله هو السند حين تتعب الأرض تحت الأقدام، اليوم، تبدو أقوى. ليست لأنها نسيت، بل لأنها تعلمت كيف تعيش مع الألم دون أن يسرق نورها.
وفي تقرير صدر عن صندوق الأمم المتحدة للسكان في 12 أبريل 2024، تتكشف أرقام صادمة تعكس عمق الأزمة الإنسانية في السودان؛ إذ تشير البيانات إلى أن أكثر من 6.7 مليون شخص باتوا بحاجة ماسة إلى خدمات الحماية والدعم في مواجهة العنف القائم على النوع الاجتماعي، وعلى رأسه العنف الجنسي. التقرير يرصد تصاعدًا مقلقًا في وتيرة حالات الاغتصاب والاعتداءات الجنسية، لا سيما في المناطق التي تشهد تصاعدًا في حدة النزاع، ما يعكس هشاشة أوضاع النساء والفتيات في قلب الحرب.
ووثّق التقرير شهادات مروعة لضحايا تعرضوا للاغتصاب والاختطاف والزواج القسري، خاصة في مناطق النزاع مثل دارفور والخرطوم، مؤكدا أن انهيار النظام الصحي وتفكك آليات الحماية زاد من هشاشة أوضاع النساء والفتيات، ما جعلهن عرضة لانتهاكات جسيمة دون إمكانية الوصول إلى الدعم الطبي أو النفسي أو القانوني.
إعادة البناء النفسي
وفي خضم هذه المأساة، يسعى "مركز أمان" إلى أن يكون مساحة آمنة وأداة لإعادة البناء النفسي والاجتماعي لهؤلاء النساء، فالمركز، الذي تديره الدكتورة لبنى علي محمد، وهي أيضاً رئيسة منظمة "بت مكلي" القومية، يقدّم نموذجاً عملياً للاستجابة للأزمة الإنسانية المتصاعدة، رغم التحديات الكبيرة.
وداخل المركز، تتلقى النساء الناجيات مجموعة متكاملة من الخدمات، تبدأ من الرعاية الصحية والنفسية، مروراً بالدعم القانوني والاجتماعي، ولا تنتهي عند التدريب المهني الذي يمنحهن فرصة لإعادة دمجهن في المجتمع.
الدكتورة لبنى علي محمد، رئيسة منظمة "بت مكلي" القومية ومديرة مركز "أمان" لدعم وتأهيل الناجيات، تقول في حديثها لـ"جسور بوست"، إن المركز استقبل خلال الأشهر الماضية العديد من الحالات الصادمة والقصص المروّعة، من بينها ما وصفته بأنه من "أصعب القصص التي مرت علينا، وهي قصة أربع شقيقات تعرّضن للاغتصاب، ثم توفيت والدتهن وإحدى الأخوات لاحقاً".
وتابعت: "كما تعاملنا مع حالة سبع طالبات اغتُصبن من قبل عشرة رجال، وبعد يومين فقط توفيت اثنتان منهن، ثم انتحرت اثنتان أخريان بعد شهر، وفي غضون 3 أشهر، توفيت اثنتان أخريان نتيجة فشل كلوي حاد، وبقيت ناجية واحدة فقط على قيد الحياة".
وأوضحت الدكتورة لبنى أن المركز لا يكتفي بتقديم الدعم المؤقت، بل يتّبع برنامجاً شاملاً لإعادة التأهيل، يبدأ باستقبال الناجية من ولاية أخرى ونقلها إلى الخرطوم، حيث تقيم لفترة تراوح ما بين شهرين إلى ثلاثة أشهر، حسب حالتها، خلال هذه الفترة، تحصل الناجية على الدعم النفسي والطبي والقانوني.
وأكدت: "نُجري للناجيات جميع الفحوصات الطبية اللازمة، بما في ذلك فحص فيروس نقص المناعة (HIV) والتهاب الكبد الوبائي (C)، ونقيّم وضعها الجسدي والنفسي لمعرفة مدى الضرر الذي تعرضت له نتيجة الاعتداء".
جلسات نفسية للضحايا
ويشمل البرنامج العلاجي بين 11 إلى 15 جلسة نفسية، تستهدف تمكين الناجية من التأقلم مع الصدمة والبدء بعملية الاندماج في المجتمع من جديد، وتُضاف جلسات الدعم الاجتماعي التي تساعد على تقييم التغيرات التي يمكن إدخالها في حياة الناجية، سواء من ناحية العودة إلى الدراسة أو تلقي تدريب مهني.
وأضافت لبنى: "في حال كانت الناجية حبلى، نمنحها خيار الإجهاض خلال الأشهر الثلاثة الأولى، وفق الإمكانات المتاحة. أما إذا تجاوز الحمل هذه المرحلة، فنرعاها حتى الولادة، ثم نُسلّم الطفل إلى دار رعاية ونعمل على توفير كفالة فورية له، تجنباً لإضافة أعباء على الدولة في ظل ظروف الحرب".
ويوفر المركز وحدة قانونية متكاملة، تهتم بفتح البلاغات ومتابعة جميع الإجراءات القانونية، بدءاً من الشكاوى وحتى مراحل التقاضي، وتضم الوحدة محامية مقيمة لمرافقة الناجيات طول فترة إقامتهم.
وتطرقت لبنى إلى الجانب الأكاديمي، قائلة: "إذا كانت الناجية طالبة، سواء في المدرسة أو الجامعة، نعمل على إعادتها إلى التعليم، ونوفّر لها الدعم المطلوب للاستمرار".
وفيما يتعلق بالتمكين الاقتصادي، تنفذ المنظمة منذ أكثر من ثماني سنوات برنامج "العلاج بالعمل"، من خلال مشروع تدريبي يهدف إلى منح الناجيات مهارات عملية تمكّنهن من كسب لقمة العيش، وتشمل التدريبات صناعة الصابون، إعداد المعجنات والمخبوزات، تصميم الإكسسوارات، الكروشيه، السكسك، والخرز، وصناعة الحلي والمجوهرات.
وتضيف: "نمنح الناجيات بعد التخرج مشاريع صغيرة بتمويل من مؤسسة تيكا التركية، بما يمكّنهن من بدء حياة جديدة باستقلالية وكرامة".
وفي ختام حديثها، شدّدت لبنى على أن "عملية التأهيل تمر عبر ستة محاور متكاملة: الدعم الطبي، النفسي، الاجتماعي، الأكاديمي، الاقتصادي، والقانوني. وهدفنا أن تخرج الناجية من المركز وهي مستعدة لحياة آمنة وكريمة".
تسجيل 1138 حالة عنف جنسي
ومن جانبها، قالت مديرة وحدة مكافحة العنف ضدّ المرأة، سُليمة إسحاق، لـ"جسور بوست"، إنه منذ اندلاع الحرب في السودان، تم تسجيل 1138 حالة عنف جنسي ضد الجنسين، عبر الخدمات المقدمة في مختلف أنحاء البلاد.
وأوضحت أن جميع هذه الحالات تلقى نوعاً من الخدمات، حتى وإن كانت بعض هذه الخدمات جزئية وليست كاملة بسبب الظروف المحيطة.
وأشارت إسحاق، إلى أن المتابعة الدقيقة لهذه الحالات كثيراً ما تضعف نتيجة أوضاع النزوح المستمر أو عودة بعض الناجين والناجيات إلى المناطق المحررة، ما يؤثر سلبًا في إمكانية التواصل معهم بعد تلقيهم الخدمات الأولية أو اتخاذ بعض الإجراءات.
وأضافت أن تغير أماكن الإقامة أو الانتقال إلى ولايات أخرى يفاقم من صعوبة المتابعة.
ونبّهت إلى أن بعض المناطق تصبح لاحقاً صعبة الوصول بسبب التدهور الأمني أو ضعف الاتصالات، مؤكدة في الوقت نفسه أن الأرقام المعلنة تعكس عدد الأشخاص الذين حصلوا فعلياً على خدمات الدعم، مؤكدة أن مكافحة العنف الجنسي وجميع أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي لا يمكن أن تتم عبر المؤسسات الحكومية وحدها، بل تتطلب تنسيقاً تاماً مع منظمات المجتمع المدني.
وشددت على أهمية تعاون جميع الأطراف لمعالجة هذه القضايا بما يسهم في تحسين الخدمات المقدمة، وتسهيل وصول النساء إلى العدالة، موضحة أن تعزيز التنسيق بين أجهزة الدولة ومنظمات المجتمع المدني يلعب دوراً محورياً في توعية الناجين والناجيات، وتطوير الخدمات من خلال التدريب المستمر، وتوفير المعدات اللازمة، ونشر التوعية بشكل مستدام.
وأضافت أن أوضاع النساء ما تزال هشّة رغم مرور أكثر من عامين على الحرب، ورغم الجهود التي تبذلها الدولة والأجهزة المختلفة والمنظمات لتحسين الوصول إلى الخدمات ورفع مستوى الوعي.
ودعت إسحاق إلى التعامل مع قضايا العنف الجنسي باعتبارها جرائم قانونية لا وصمات اجتماعية، مؤكدة أن المسؤولية تقع بالكامل على عاتق الجناة، وليس الضحايا.
تحسين الخدمات المقدمة للناجيات
وفي سياق متصل، كشفت إسحاق عن توقيع الحكومة السودانية، في 15 أبريل، إطار تعاون مع الأمم المتحدة عبر مكتب الممثلة الخاصة للأمين العام المعنية بالعنف الجنسي في النزاعات.
وأوضحت أن هذا الإطار يستهدف تحسين الخدمات المقدمة للناجيات بما يتناسب مع احتياجاتهن وإرادتهن، وتعزيز وصولهن إلى العدالة، وإنهاء ظاهرة الإفلات من العقاب، إلى جانب تطوير أداء الأجهزة المعنية لمنع استخدام العنف الجنسي سلاحاُ في النزاعات.
وختمت إسحاق حديثها بالتأكيد على أن الدولة تعمل حالياً على ضمان عدم تكرار مثل هذه السلوكيات مستقبلاً، في خطوة نحو بناء مجتمع مدني عادل يسهل وصول النساء إلى العدالة، ويؤمن بالمساواة بين الجنسين، ويحمي النساء من الهشاشة والانتهاكات.