غزة تختنق بالجوع والموت

قطاع غزة، ذلك الشريط الصغير من الأرض الذي دمرته بالكامل آلة القتل الإسرائيلية، دخل اليوم مرحلة جديدة من المأساة، وهي مرحلة المجاعة الكاملة.. لم يعد الجوع مجرد عرض من أعراض الحرب التي يشنها جيش نتنياهو، بل صار أداة ممنهجة تستخدمها تل أبيب في صراعها مع الشعب الفلسطيني. إنها سياسة التجويع المقصودة، حيث يُمنع الغذاء والدواء والماء والكهرباء عن نحو مليوني إنسان، أغلبهم من الأطفال والنساء، ليموتوا ببطء تحت أنقاض مدينتهم الجريحة.

بعد أن استُنزفت القوة العسكرية الإسرائيلية في قتل الأبرياء وهدم البنى التحتية وتدمير المستشفيات والمدارس، يبدو أن إسرائيل قررت اللجوء إلى أكثر الأسلحة خبثاً وألماً، سلاح التجويع. هذا السلاح لا يُحدث دوياً، لكنه يُفني الأرواح بصمت. لا يثير الدخان، لكنه يخنق الصدور، ويحول رغيف الخبز وشربة الماء إلى حلم بعيد المنال، ويكفي أن نقرأ تقارير المنظمات الدولية لنفهم حجم الكارثة. فقد أعلنت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (FAO) وبرنامج الأغذية العالمي (WFP) أن غزة تواجه الآن مجاعة فعلية، وأن جميع سكانها يعانون من مستويات حادة من انعدام الأمن الغذائي، في ظل غياب أي استجابة إنسانية حقيقية.

وكلما حاولت المبادرات الإنسانية التقدم بهدنات مؤقتة لإغاثة المنكوبين وإدخال المساعدات، كانت إسرائيل تسرع إلى إفشالها، فهي لا تريد هدنة، ولا سماحًا بدخول المساعدات، لأنها تسعى إلى أمر أبعد من القتل، هي تسعى إلى تفريغ غزة من أهلها، إلى دفعهم قسرًا نحو التهجير. إنها سياسة ممنهجة لإعادة إنتاج النكبة ولكن بشكل أكثر قسوة.

أما العالم، فهو كما عهدناه، يكتفي بـ«القلق العميق»، والإدانات الشكلية، والبيانات الباردة التي لا تمنع دمعًا ولا توقف رصاصة أو قذيفة من طائرة أو من فوهة مدفع اعتاد الإسرائيليون على توجيهه صوب ضحاياه. يشاهد العالم الجريمة تُرتكب يوميًا على الهواء، ويصمت. صمتًا يرقى إلى مستوى التواطؤ. لا قرارات أممية تنفذ، ولا عقوبات تُفرض، ولا ضغوط تُمارس. وكأن هذا الشعب لا يستحق الحياة، وكأن موته لا يعني أحدًا.

ما يحدث اليوم في غزة ليس مجرد صراع، وتجاوز حتى فكرة العملية العسكرية الحربية، إنها مجزرة موثقة، مكتملة الأركان، بأسوأ ما يمكن أن يسجله تاريخ البشرية من وحشية. فحين يصبح الجوع وسيلة للقتل الجماعي، فإننا أمام فصل جديد من الجرائم التي لا تسقط بالتقادم، وستظل شاهدة على انحدار الضمير الإنساني إلى أدنى درجاته.

غزة اليوم لا تطلب شيئًا سوى الحق في الحياة. لا تسأل إلا عن إنسانيتها التي تُذبح أمام عيون الجميع. وفي الوقت الذي تُرفع فيه شعارات حقوق الإنسان، تُحاصر غزة، وتُذبح بلا شفقة، وفي هذا العالم يبدو أن أقسى ما يمكن أن تكونه، هو أن تكون فلسطينيًا يبحث عن الحياة.

نقلاً عن صحيفة المصري اليوم