مع قرب صدوره.. هل يفكك قانون الإيجار القديم شبكة الأمان لـ6 ملايين مصري؟
مع قرب صدوره.. هل يفكك قانون الإيجار القديم شبكة الأمان لـ6 ملايين مصري؟
تكاد لا تخلو أي جلسة عائلية أو نقاش عام في مصر، من الحديث حول قانون الإيجار القديم، ذلك النص القانوني الذي حَكم العلاقة بين المالك والمستأجر لعقود، لكنه بات في قلب عاصفة تشريعية تُهدد بتغيير قواعد اللعبة من جذورها.
ومع إعلان الحكومة مشروع تعديل هذا القانون، وطرحه للنقاش المجتمعي والبرلماني، دخل ملايين المصريين، سواء من الملاك أو المستأجرين، في حالة من الترقب، محملين بقلق وأسئلة وجودية تتعلق بالاستقرار، والسكن، والعدالة الاجتماعية.
تقول الأرقام إن نحو 6 ملايين مواطن يعيشون في وحدات بنظام الإيجار القديم، وفقاً لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، الصادرة في عام 2017.
يتوزع هؤلاء على 1.88 مليون وحدة سكنية، بالإضافة إلى 575 ألف وحدة للأغراض التجارية، وأكثر من 9300 وحدة مخصصة للسكن والعمل معًا، وتوضح البيانات ذاتها أن نحو 36% من هذه الوحدات تدفع أقل من 50 جنيهاً شهرياً، و20% منها تقع في الشريحة ما بين 50 و100 جنيه، في المقابل، نسبة من يدفعون إيجارات تفوق 900 جنيه لا تتعدى 2% فقط.
وتتجلى المعضلة في الفجوة الزمنية والقيمية بين ما كان سائداً حين صدرت قوانين الإيجار في السبعينيات والثمانينيات، وبين ما أصبح واقعًا اقتصاديًا واجتماعيًا في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
فجمدت القوانين القديمة القيمة الإيجارية، ما جعل آلاف الملاك يتقاضون مبالغ رمزية لا تعكس أي عدالة اقتصادية، بل أدت في بعض الأحيان إلى تدهور العقارات وإهمال صيانتها.
لكن من جهة أخرى، كان القانون القديم ضمانًا لاستقرار ملايين الأسر محدودة ومتوسطة الدخل، التي وجدت فيه ملاذاً يحميها من تقلبات السوق العقاري وتضخم أسعار الإيجار الجديدة، ومن هنا يتشكل الصراع بين رؤيتين، الأولى تطالب بتحرير العلاقة الإيجارية وتحقيق ما تصفه بـ"العدالة للملاك"، والثانية تخشى أن يقود هذا التحرير إلى طرد المستأجرين، وتركهم في مواجهة مجهول سكني.
إنهاء عقود الإيجار القديمة
مشروع القانون الجديد، الذي بدأ البرلمان المصري مناقشته أخيراً، يقترح سلسلة من الإجراءات الجذرية، أهمها إنهاء عقود الإيجار القديمة بعد 5 سنوات من بدء العمل بالقانون، ما لم يتم الاتفاق بين الطرفين على إنهاء أبكر. وبحسب المادة (5)، فإن المستأجر أو الورثة عليهم إخلاء الوحدة وتسليمها مع انتهاء المدة، وإلا يحق للمالك اللجوء للقضاء لإصدار أمر بالإخلاء.
ولأن القيمة الإيجارية كانت دومًا محور النزاع، يضع مشروع القانون سقفاً جديداً لبدء الإصلاح، إذ ترفع القيمة الإيجارية للوحدات السكنية إلى 20 ضعف القيمة الحالية، بحد أدنى 1000 جنيه شهرياً في المدن، و500 جنيه في القرى، أما المحال التجارية فيُعاد تقييم إيجارها على أساس 5 أضعاف القيمة الحالية، وتُزاد هذه القيم سنويًا بنسبة 15% لضمان مواكبة معدلات التضخم والتغيرات الاقتصادية.
وتدرك الحكومة بدورها حساسية المسألة، لذا تضمَّن المشروع موادَّ عدة لضبط إيقاع التغيير، وتخفيف أثره عن الفئات الأضعف، فتم اقتراح إعفاء كبار السن وأصحاب المعاشات من الزيادات أو تقديم دعم مالي لهم عبر برامج اجتماعية، كما يشمل المشروع بندًا خاصًا بالوحدات المغلقة لفترات طويلة، بفرض رسوم إضافية لحث المستأجرين على إعادة تشغيلها أو التخلي عنها، ما يعزز المعروض العقاري في السوق.
وشهدت النقاشات البرلمانية بدورها اهتمامًا لافتًا من لجان الإسكان والتشريع، حيث بدأت جلسات الاستماع في 5 مايو 2025، واستمرت حتى منتصف الشهر، وتم تخصيص أيام لسماع آراء الملاك وأخرى للمستأجرين، في محاولة لصياغة توافق مجتمعي يضمن تطبيق القانون بعدالة.
إصلاح وضع قديم
وأكد رئيس لجنة الإسكان، الدكتور محمد عطية الفيومي، في أكثر من مناسبة أن القانون لا يهدف إلى طرد أحد من منزله، وإنما إلى تصحيح وضع اقتصادي وقانوني خاطئ دام عقوداً، مشيراً إلى أن القانون يتضمن تعويضات مقترحة، وتوفير وحدات بديلة للمستأجرين غير القادرين، سواء بالإيجار أو التمليك، على أن تُحدد شروط ذلك من قبل رئاسة الوزراء.
وبينما يرى كثير من الملاك أن القانون الجديد هو خطوة نحو "تحرير العدالة العقارية"، يعده آخرون بداية موجة جديدة من التهجير غير الرسمي، خاصة في ظل الأزمة السكنية وغلاء أسعار العقارات والإيجارات الجديدة.
وتحذر تقارير حقوقية من أن تطبيق القانون دون شبكة أمان اجتماعي قد يؤدي إلى تزايد التشرد وارتفاع عدد الأسر المهددة بفقدان سكنها.
ويتزايد القلق أيضًا بسبب غياب موعد نهائي واضح لتفعيل القانون. ورغم أن التوقعات تشير إلى إقراره خلال الدورة البرلمانية الحالية، التي تنتهي في يوليو 2025، فإن التنفيذ الفعلي قد يبدأ منتصف 2025، وهذا يعني أن عقود الإيجار السكنية ستنتهي بحلول 2028، والوحدات غير السكنية بحلول مارس 2027، وفقًا لما نص عليه قانون رقم 10 لسنة 2022 بشأن الأماكن غير السكنية.
ويرى بعض خبراء الإسكان أن حل المشكلة لا يكون فقط من خلال تحرير العلاقة الإيجارية، بل عبر توفير بدائل حقيقية، وتوسيع قاعدة الإسكان الاجتماعي، وزيادة الاستثمارات في القطاع العقاري منخفض التكلفة، كما يدعون إلى إنشاء صندوق خاص لدعم المستأجرين المتضررين، بتمويل مشترك من الدولة والقطاع الخاص.
ولا تخضع العقود المبرمة بعد عام 1996 لهذا القانون، بل تظل خاضعة لقواعد القانون المدني، ما يجعلها تنتهي بانتهاء مدتها المحددة في العقد، وهي في أغلب الأحيان عقود محددة الأجل مثل الـ59 عامًا، ما يطرح تساؤلات حول مدى تكرار السيناريو نفسه بعد مرور العقود المقبلة.
من جهة أخرى، تحذر جمعيات حقوقية من أن تسارع خطوات الحكومة نحو تمرير القانون دون حوار مجتمعي حقيقي قد يؤدي إلى توتر اجتماعي، ويزيد من الاستقطاب بين فئتين شعبيتين، كل منهما تشعر بأنها ضحية. فالمستأجرون يخشون الطرد، والملاك يشعرون بأنهم أسرى قوانين جمدت ممتلكاتهم.
المفارقة أن بعض المستأجرين القدامى أنفسهم باتوا يؤيدون التعديل، إذ يرون أن من غير العدل أن يدفع أحدهم 20 أو 30 جنيهاً شهرياً، في حين تتجاوز قيمة العقار السوقية ملايين الجنيهات. وهم يؤيدون فكرة الزيادة التدريجية، لكن بشرط وجود حماية اجتماعية واضحة ومكتوبة.
حل جذري مرتقب
وقال الخبير الاقتصادي خالد الشافعي، رئيس مركز العاصمة للدراسات الاقتصادية، إن قضية الإيجار القديم تُمثل واحدة من أبرز القضايا المتراكمة التي طال أمدها في السوق العقاري المصري، وقد آن الأوان للتعامل معها بحسم وعقلانية تضمن العدالة لجميع الأطراف المعنية.
وأوضح الشافعي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن التعديلات المطروحة حاليًا سواء كانت التي أُعلنت رسميًا أو ما يتم تداوله في أروقة مجلس النواب، تصبّ في اتجاه واحد: إنهاء منظومة الإيجار القديم بشكل تدريجي، مؤكدًا أن هذا النموذج الساكن من العلاقة بين المالك والمستأجر لن يستمر إلى ما لا نهاية، سواء خلال عام أو خمسة أو حتى عشرة، وأن الدولة مدعوة اليوم إلى تبني حل جذري وعادل وشامل.
وأضاف أن التسويف أو المعالجات الجزئية لم تعد مجدية، وأن التحدي الحقيقي هو في الوصول إلى صيغة "تراضٍ مجتمعي"، سواء كان هذا التراضي مُعلنًا أو ضمنيًا، بما يراعي حقوق الملاك ولا يترك المستأجرين القدامى عرضة للتشرد أو للضغوط الاجتماعية، مؤكدًا أن الدولة يقع على عاتقها وضع رؤية متكاملة ومعلنة تحدد فيها معايير الدعم والإخلاء التدريجي، وشروط الإحلال، وإعادة توظيف العقارات المغلقة.
وأشار الشافعي، إلى أن تأثير التعديلات -حال إقرارها بشكل واقعي ومدروس- سيكون بالغًا على سوق العقارات، إذ من المتوقع أن تدخل آلاف الوحدات السكنية غير المستغلة إلى حيز التداول، سواء بالتمليك أو الإيجار بنظام جديد، ما يؤدي إلى توسيع حجم المعروض العقاري في السوق، وهو ما سينعكس مباشرة على الأسعار التي وصفها بأنها "مشوهة ومضخمة" بفعل نقص المعروض في بعض المناطق وتجميد عدد كبير من الوحدات السكنية لعقود طويلة دون استخدام فعلي.
وأكد رئيس مركز العاصمة للدراسات، أن هذه الإصلاحات يجب أن تُصاحبها سياسات حماية اجتماعية، ولا سيما للفئات المستأجرة من محدودي الدخل أو كبار السن، الذين يجب أن توفر لهم الحكومة بدائل مدعومة أو مساعدات انتقالية، تجنبًا لأي اضطرابات مجتمعية قد تنشأ عن التغير المفاجئ في أوضاعهم السكنية.
وشدد على ضرورة قيام الدولة بحصر دقيق لأصحاب الوحدات القديمة سواء الملاك أو المستأجرين، ودراسة دخولهم ومواقعهم الاجتماعية، ووضع آليات للدعم الاجتماعي والاقتصادي عند الحاجة، مؤكدًا أن "العدالة لا تكتمل إلا حين لا يتضرر أحد على حساب الآخر".
واختتم بالقول إن الحل لن يكون عبر فرض وجهة نظر طرف على حساب الآخر، بل في الوصول إلى نقطة التقاء عادلة، تتقاطع فيها مصالح الدولة مع العدالة الاجتماعية والاقتصادية، ويستفيد منها المالك عبر استعادة حقه، والمستأجر عبر ضمان كرامته السكنية، والمجتمع عبر تحرير السوق العقاري وضخ آلاف الوحدات المغلقة.
بين فخ الطرد وهمّ الغلاء
من جانبه، قال الدكتور رشاد عبده، رئيس المنتدى المصري للدراسات الاقتصادية، إن مشروع تعديل قانون الإيجار القديم بصيغته الحالية يعكس انحيازًا واضحًا من الحكومة لمصلحة فئة الأغنياء والملاك، على حساب الفقراء والمستأجرين، الذين يشكلون الشريحة الكبرى من المواطنين في مصر، وأكد أن هذا التوجه يتنافى مع مبدأ العدالة الاجتماعية، وينذر بخلق أزمة اجتماعية متفاقمة إذا لم يُعالج بمنهج توافقي متزن.
وأوضح عبده، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن من تقدم بالمشروع هي الحكومة، وهو ما يثير تساؤلات حول اصطفافها الواضح مع فئة محددة من الملاك، دون أن تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية التي يعاني منها عموم المواطنين، ولا سيما في ظل تفشي الغلاء وتضخم الأسعار، الذي بات يُثقل كاهل المواطن البسيط.
وتساءل: “كم عدد الملاك في مصر ممن يمتلكون أكثر من عقار؟ وكم عدد المستأجرين الذين يعيشون في وحدات بالإيجار القديم؟” مشيرًا إلى أن الأغلبية الساحقة من المواطنين هم من المستأجرين، وهو ما يستوجب معادلة أكثر عدلًا، تضمن حقوق الطرفين دون تغليب فئة على أخرى.
وانتقد الخبير الاقتصادي، ما ورد في مشروع القانون بشأن منح مهلة 5 سنوات فقط قبل تحرير العلاقة الإيجارية بشكل كامل، مع تمكين المالك من استرداد وحدته أو رفع القيمة الإيجارية دون ضابط، واصفًا ذلك بأنه تهديد صريح لملايين الأسر المستأجرة، حيث لا يُعقل -حسب قوله- أن يكون البديل الوحيد أمام المستأجر هو "الدفع أو الطرد"،
وشدد على أن إقرار القانون بصيغته الراهنة في البرلمان دون مناقشة مجتمعية حقيقية، ودون الاستماع لكافة الأطراف المعنية، يمثل إخلالًا بالدور التشريعي المفترض أن يكون صوتًا للمجتمع بكل أطيافه. وقال: "البرلمان للأسف يمرر ما تقدمه الحكومة أيًا كان، وهذه هي الكارثة، إذ يُفترض أن يكون البرلمان هو من يحمي البعد الاجتماعي في التشريعات".
ودعا الدكتور عبده إلى صياغة قانون توافقي، لا ينحاز لطرف على حساب آخر، وإنما يُراعي الواقع الاقتصادي القاسي الذي يعيشه المصريون. وطالب بأن تُستبدل الصيغة المقترحة بخطة تدريجية عادلة، يضعها خبراء اقتصاديون وقانونيون مستقلون، ليس لديهم مصالح شخصية أو ارتباطات سياسية، بحيث تُرفع القيمة الإيجارية سنويًا بنسب مقبولة ومعقولة، ويظل سقف الزيادة خاضعًا لمعيار القدرة على الدفع.
وفي ختام تصريحه، ضرب مثالًا واضحًا بشباب الخريجين الذين يبحثون عن فرصة سكن كريم، قائلًا: “كيف نطلب من شاب في مقتبل عمره، تخرج لتوه ويبدأ حياته المهنية براتب محدود، أن يدفع كل دخله الشهري في إيجار شقة؟”، مضيفاً أن الإيجار الجديد أيضًا ليس في متناول كثيرين، ما يعكس أزمة أوسع تحتاج إلى مقاربة عادلة وشاملة لا تكتفي بحلول جزئية أو انحيازات طبقية.
وأكد أن مسؤولية الحكومة والبرلمان الآن هي وضع قانون عادل، يرضي الطرفين، ويحقق التوازن المطلوب، ويراعي الواقع، بدلًا من أن يكون قنبلة موقوتة تهدد الأمن الاجتماعي لملايين المواطنين.