بين رماد الحرب وخراب الأرحام.. تشوهات خلقية تفتك بالأجيال القادمة في غزة

بين رماد الحرب وخراب الأرحام.. تشوهات خلقية تفتك بالأجيال القادمة في غزة
قضية تشوهات خلقية للأجنة جراء الأسلحة الحربية

في ظل الحرب المستمرة والقصف المتكرر واستخدام أسلحة يُشتبه في كونها محظورة دولياً، يعيش أهالي قطاع غزة كارثة صحية غير معلنة، حيث يشهد القطاع المحاصر تزايداً مقلقاً في حالات التشوهات الخلقية بين المواليد الجدد، ما يثير تساؤلات حول الأثر البيئي للحرب في الصحة الإنجابية والوراثية للأجيال القادمة.

تُعدّ ظاهرة تشوه الأجنة في قطاع غزة واحدة من أكثر الكوارث الصحية والإنسانية التي تنفجر بصمت داخل الأروقة المغلقة للمشافي التي تفتقر إلى الحد الأدنى من الإمكانات، وأمام أطباء فقدوا أدواتهم كما يفقد المقاتل سلاحه، وليس الأمر مجازاً حين نقول إن النسبة تجاوزت 25% من المواليد، كما أكد مدير الإغاثة الطبية محمد أبو عفش، بل هو واقع يصرخ في وجوه المنظمات الدولية التي تكتفي بالقلق.

في ظل غياب أجهزة الفحص المبكر والتشخيص الجيني، تعيش أكثر من 150 ألف امرأة حامل في القطاع معاناة مركّبة، فهن يتنفسن غازات سامة، ويخضعن لأوضاع صحية ونفسية غير إنسانية، ويعانين من نقص في المناعة بفعل سوء التغذية، وانعدام الرعاية، وانهيار المنظومة الطبية التي أكلها الحصار، ولا يملك الأطباء القدرة على التنبؤ بما سيخرج من الأرحام، والولادة أضحت مقامرة بين حياة وموت، بين شكل الإنسان وملامح الألم.

تجربة العراق ولبنان

ويستحضر هذا السيناريو المروّع تجربة العراق بعد غزو 2003، حين استُخدمت فيه ذخائر اليورانيوم المنضب من قبل القوات الأمريكية والبريطانية. 

في مدينة الفلوجة وحدها، تضاعفت نسبة التشوهات الولادية، حيث سُجلت حالات ولادة لأجنة بلا أطراف، بلا رأس، أو بأدمغة مشوهة.

وفي دراسة نشرتها مجلة "International Journal of Environmental Research and Public Health" عام 2010، كشف باحثون بريطانيون عن أن مستويات التشوهات في الفلوجة تجاوزت تلك المسجلة في هيروشيما بعد القنبلة النووية.

وليس العراق وحده، ففي لبنان عام 2006، خلال العدوان الإسرائيلي، سُجلت مؤشرات بيئية مقلقة لتلوث تربة الجنوب بالمعادن الثقيلة التي تستخدمها إسرائيل في قذائفها، وها هو ذا نفس السيناريو يُعاد في غزة، ولكن هذه المرة، الضحايا بلا قدرة على المغادرة، بلا صوت يصل، ولا أجساد تستطيع حتى الدفن الكريم.

كوارث صحية وصمت دولي

وتشير الإحصاءات المحلية الصادرة عن وزارة الصحة الفلسطينية في غزة خلال عام 2024 إلى زيادة واضحة في معدلات التشوهات، من 10% في السنوات السابقة إلى ما يزيد على 25% في الأشهر الأخيرة فقط. ويعتقد خبراء أن أحد العوامل الرئيسية هو الاستخدام المكثف لأسلحة تحتوي على الفوسفور الأبيض والمعادن الثقيلة كالرصاص والزئبق والكادميوم. وهي مواد سامة تتسلل إلى المياه الجوفية والهواء والتربة، وتُخزن في أجساد الأمهات دون أن تُرصد.

يُقدّر عدد الرضع الذين وُلدوا بتشوهات خلقية منذ أكتوبر 2023 إلى أبريل 2025 بأكثر من 1600 حالة، وفق تقارير غير رسمية أعدّها أطباء ميدانيون يعملون في مستشفيات الشفاء والعودة والإندونيسي، وتشمل التشوهات الرأسية، والقلب، والأطراف، والأعضاء التناسلية. بعض الحالات خرجت للحياة دون جلد يغطي الجسد، وبعضها بلا أعين، وبعضها بأطراف مدمجة أو مفقودة.

في خضم هذه الكارثة الصحية، يبدو الصمت الدولي أكثر فتكاً من أي سلاح، فلا تقارير طبية أممية محدثة تصدر، ولا لجان تقصٍّ تطرق أبواب مستشفيات غزة، والنساء يلدن في الظلام، في غرف بلا أجهزة مراقبة، فيما الأطباء يحدّقون في الأجنة المشوهة بعجز لا يملكون أمامه سوى التوثيق البارد بالأرقام، بينما تحترق أرواحهم وهم يشهدون أطفالاً يولدون بموت مؤجل، أو حياة معلقة بين المجهول والمستحيل.

وفي قلب هذا الصمت، تصرخ غزة بنداء استغاثة علمي قبل أن يكون سياسياً، الحاجة الملحة اليوم لا تقتصر على وقف إطلاق النار أو إدخال المساعدات، بل تمتد إلى ضرورة إرسال فرق بحثية متخصصة، قادرة على جمع وتحليل عينات من الهواء والمياه والتربة، وفحص أنسجة المرضى، وتوثيق الأضرار البيولوجية الناجمة عن المواد المستخدمة في العدوان الإسرائيلي، فالفوسفور الأبيض، الذي تحرمه اتفاقية جنيف في الاستخدام ضد المدنيين، يستخدم بكثافة في غزة، وقد صُوّرت مرات عدة قنابل تنفجر في سماء الأحياء المكتظة بالسكان، وغيوم بيضاء تنزل كما المطر، تذيب الجلد وتحرق الرئة وتخترق المشيمة.

الواقع الطبي اليوم في غزة لا يتيح أدنى شروط التعامل مع هذا النوع من الكوارث البيئية، فقد باتت 68% من منشآت الرعاية الصحية في القطاع خارج الخدمة، بحسب تقرير منظمة الصحة العالمية الصادر في أبريل 2025، والبقية تعمل بطاقة أقل من 30%، والمولدات الكهربائية تكاد تتوقف، والمحاليل الوريدية تُصنّف كسلع نادرة، وكيف يمكن فحص الحوامل وتحليل جينات الأجنة في بيئة تخلو من أجهزة الأشعة فوق الصوتية المتقدمة؟ وكيف يمكن إجراء عمليات إجهاض طبية آمنة لحالات لا يُمكن إنقاذها، في ظل غياب غرف العمليات العقيمة والمعدات الأساسية؟ بل كيف يمكن حتى تغذية الأمهات بشكل صحي، وقد باتت طوابير الخبز أطول من طوابير الموت؟

الصدمة تمتد إلى المستوى النفسي، حيث أصبحت الولادة نفسها فعلاً مفعماً بالرعب، حيث تخشى الأمهات من النظر إلى أطفالهن عند الولادة.. كأنّ البطن أصبحت مصدر لعنة لا نعمة، فهناك أم في حي الشجاعية رفضت إحدى الأمهات تسمية ابنتها لأنها “لا تريد أن تتعلق بها أكثر مما يجب”، فقد وُلدت الطفلة بعين واحدة وعجز كلوي منذ اللحظة الأولى، وتُوفيت بعد 5 أيام من حياتها القصيرة التي لم تعرف إلا الأجهزة والأنين، وهنا السردية الغزّية الجديدة لا تكتفي برثاء الشهداء، بل باتت ترثي من يولدون أحياءً بجراح لا تشفى.

جريمة حرب مكتملة الأركان

على المستوى الحقوقي، فإن ما يحدث في غزة يرقى إلى جريمة حرب مكتملة الأركان، بل وقد يصنف ضمن "الإبادة البيئية" (ecocide) وفقاً لمفاهيم القانون الدولي البيئي. 

استخدام أسلحة تؤدي إلى تغيير جيني في السكان، وتوريث تشوهات بيولوجية، هو انتهاك واضح لاتفاقية الأسلحة الكيميائية، واتفاقية جنيف الرابعة التي تنص على حماية السكان المدنيين من الأذى طويل الأمد، ومع ذلك، لم تُفتح أي تحقيقات جدية حتى الآن، ولم يتم إرسال بعثات خبراء مستقلين، رغم مناشدات المؤسسات الفلسطينية ومذكراتها المرفوعة للأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان.

في تجربة العراق، وفي تقرير لوكالة الأنباء الفرنسية صدر عام 2013، وُثق أن نسبة الأطفال الذين ولدوا بتشوهات خلقية في الفلوجة بلغت 14.7% خلال سنوات الذروة بين 2005 و2010، وكان السبب الأكثر ترجيحاً هو التلوث باليورانيوم المنضب والرصاص الناتج عن التفجيرات العسكرية، وأشارت دراسة صادرة عن جامعة ميتشيغان عام 2011 إلى أن مستويات الرصاص والزئبق في الحبل السري لأجنة الفلوجة كانت أعلى بخمس إلى ست مرات من المعدلات العالمية المألوفة، وهذا يؤكد أن الحروب الحديثة لا تترك فقط الدمار على السطح، بل تُحدث خللاً في بنية الحياة نفسها.

ما يثير القلق أكثر في قطاع غزة أن هذه الكارثة تأتي في سياق حصار خانق منع أي شكل من أشكال الوقاية أو المعالجة، فلا توجد حملات توعية، ولا فحوصات دورية للحوامل، ولا حتى قاعدة بيانات متكاملة لرصد الحالات، وكل هذا يسمح للكارثة بأن تتمدد خلسة، كما تتمدد جذور السم في جسد الأرض. حتى مؤسسات المجتمع المدني، التي كانت تلعب سابقاً دوراً حيوياً في التوثيق والدعم النفسي، باتت مفككة، والعاملون فيها بين قتيل أو نازح أو فاقد للموارد.

المأساة في غزة لا يمكن فصلها عن السياق السياسي الأوسع، حيث تتحرك الجغرافيا كرهينة للقرار العسكري، وتُحاصر البيولوجيا كأداة عقاب جماعي. إذ لا يُستخدم السلاح فقط لتدمير البنى التحتية أو قتل المقاتلين، بل يُوظف ليعيد تشكيل الحياة داخل أجساد المدنيين الأبرياء. وهذه استراتيجية ليست جديدة في تاريخ الاحتلالات، فقد استخدمت إسرائيل ذات التكتيك في جنوب لبنان، حين تسببت قنابلها العنقودية في مئات حالات البتر والتشوه خلال عقدين من الزمن. لكنها اليوم تُمارَس بشكل أشد خطورة في غزة، لأنها لا تستهدف فقط الحاضر، بل تقصف المستقبل.

المجتمع الغزي، الذي يُعد من المجتمعات الفتية، يعيش أزمة جيلية غير مسبوقة. فوفقاً لتقديرات الأمم المتحدة لعام 2023، فإن أكثر من 47% من سكان القطاع هم دون سن الثامنة عشرة، ومع تزايد حالات التشوهات، فإن مستقبل هذا الجيل بات مهدداً على مستويات متعددة: صحياً، نفسياً، تربوياً، واقتصادياً. ما من دولة أو مجتمع يمكنه أن ينهض في ظل جيل يُولد مشوهاً، وتُهدم فيه الأعصاب قبل الأبنية، ويُسلب حقه في النمو الطبيعي حتى قبل أن يفتح عينيه.

من زاوية التحليل الأخلاقي، فإن ما يحدث في غزة يتجاوز تقاطعات السياسة، ويتطلب وقفة ضمير عالمية، فالعالم الذي احتشد للدفاع عن البيئة في مؤتمرات باريس وغلاسكو، صامت أمام أكبر كارثة بيئية صحية تُرتكب أمام عدسات الكاميرات، أين ذهب مبدأ "العدالة المناخية" حين تتحول سماء غزة إلى مختبر موت كيميائي؟ وأين ميثاق الأمم المتحدة حين تصبح أجساد الأجنة حقل تجارب غير معلن؟

المنظمات الدولية، ومن بينها منظمة الصحة العالمية واليونيسيف، لا يمكن أن تظل متفرجة أو مكتفية بالتقارير “القلقة”، حيث يجب تشكيل لجنة تحقيق طبية محايدة، تتعاون مع مراكز بحثية مرموقة مثل جامعة جون هوبكنز أو إمبريال كوليدج، لتحديد طبيعة الأسلحة المستخدمة، وقياس نسبة المواد المسرطنة والمسببة للتشوهات في بيئة غزة، كما يجب إرسال فرق طبّية نسائية لتقديم الدعم النفسي والاجتماعي للحوامل، وتفعيل برامج الكشف المبكر، وتوفير أجهزة تصوير رباعي الأبعاد للجنين، وأدوية الفيتامينات والمقويات التي تكاد تنعدم.

أرحام غزة تحت الحصار البيئي

ليث الشولي، أحد سكان غزة، عبّر لـ"جسور بوست" عن قلقه العميق قائلاً: "ما يحدث لا يمكن وصفه بالحالات الفردية. الطواقم الطبية، رغم محدودية إمكاناتها، بدأت تلاحظ أنماطاً متكررة من العيوب الخلقية والأمراض الغريبة، وهو ما يدق ناقوس الخطر حول تأثير العدوان في الجينات والمناعة والخصوبة".

وأضاف الشولي أن "الفرحة الطبيعية بالحمل تحوّلت إلى قلق دائم، فالنساء الحوامل في غزة لا يعشن تجربة الأمومة كما يجب، بل يعشنها تحت التهديد البيئي والنفسي، يخشين أن يكون الجنين قد تأثر بملوثات الحرب، من غازات سامة أو غذاء ملوّث، أو حتى توتر نفسي مزمن".

انهيار المنظومة الطبية

أوضح الشولي أن الرعاية الصحية للحوامل في غزة تكاد تكون معدومة، نتيجة دمار المرافق الصحية واكتظاظها بالمصابين، قائلاً: "المراكز الطبية إما مدمّرة أو تغرق في حالات الطوارئ، وبعض النساء يلدن في ملاجئ أو منازلهن دون إشراف طبي".

ودعا الشولي المجتمع الدولي إلى تحمّل مسؤوليته، مطالباً بإجراء دراسات ميدانية حول تأثير الأسلحة المستخدمة على الصحة الإنجابية، وتقديم دعم طبي عاجل، وإنشاء وحدات خاصة لمتابعة الحمل والكشف المبكر عن التشوهات، مؤكداً أن "أطفال غزة ليسوا أرقاماً في تقارير إخبارية، بل أرواح بريئة تستحق الحماية والرعاية".

أطفال يولدون تحت رماد الحرب

من جهته، قال المواطن محمد عبد الناصر لـ"جسور بوست" إن "الطفلة ملاك"، التي وُلدت مؤخراً بتشوهات خلقية، تمثل نموذجاً مأساوياً لواقع يتكرّر في غزة، مشيراً إلى أن عدد الحالات المشابهة في تزايد مستمر.

وأكد عبد الناصر أن الأهالي، رغم كل شيء، لا يزالون يتمسكون بالحق في الإنجاب كفعل مقاومة للحرب، قائلاً: "الناس هنا واعون بأن ما يحدث ليس قضاءً، بل نتيجة بيئة ملوثة بفعل الحرب، ونحن نؤمن بالاستمرار رغم الألم".

وأشار إلى غياب الفحوصات الضرورية للحمل في ظل الحصار والدمار، موضحاً أن الخوف بات يلازم الأسر مع كل حمل جديد، وتمنى أن "يُكسر الحصار وتُفتح الممرات الإنسانية لإدخال الأجهزة الطبية والأدوية اللازمة لإنقاذ الأمهات وأطفالهن من مستقبل مهدد".



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية