تحركات شعبية.. هل تفرض المظاهرات العالمية نفسها كورقة ضغط لإنهاء حرب غزة؟
تحركات شعبية.. هل تفرض المظاهرات العالمية نفسها كورقة ضغط لإنهاء حرب غزة؟
انطلقت في قلب العواصم الأوروبية خلال الأيام الماضية مظاهرات حاشدة حملت نداءات شعبية مدوية تطالب بإنهاء الدعم الغربي لإسرائيل، في ظل التصعيد الدموي الذي تشهده غزة منذ أكتوبر 2023.
وشهدت مدريد تظاهرة كبرى الأسبوع الماضي شارك فيها أكثر من 50 ألف شخص، طالبوا الحكومة الإسبانية بقطع العلاقات مع إسرائيل، تنديداً بما وصفوه بـ"الإبادة الجماعية" التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في القطاع.
وأكدت هذه التظاهرات، التي تجاوزت الطابع الاحتجاجي العابر، الدور المحوري الذي يمكن أن تؤديه التعبئة الشعبية في إعادة تشكيل التوجهات السياسية للحكومات الأوروبية.
وجاءت هذه الموجة من التضامن في وقت وصلت فيه حصيلة الضحايا، بحسب وزارة الصحة الفلسطينية، إلى أكثر من 52,810 شهداء فيما تجاوز عدد الجرحى 120,000 مصاب، وسط دمار شبه كامل للبنية التحتية في غزة، وبرزت دعوات التظاهر، بقيادة "شبكة التضامن ضد الاحتلال في فلسطين" (RESCOP)، كحركة منظمة جمعت مئات الجمعيات والمؤسسات الإسبانية تحت شعار موحد: "تحركوا من أجل فلسطين".
وشكلت هذه الحملة ضغطاً واضحاً على حكومة بيدرو سانشيز، خاصة في ظل المطالب الشعبية بإنهاء العلاقات العسكرية والتجارية مع إسرائيل، والتي يعتبرها كثيرون في إسبانيا "تواطؤاً غير أخلاقي مع الاحتلال".
عكست شعارات المتظاهرين الغضب المتزايد من ازدواجية المواقف الغربية، التي تستنكر انتهاكات حقوق الإنسان في بعض الدول بينما تصمت عن جرائم حرب تمارس علناً في الأراضي الفلسطينية، كما طالبت الحشود الحكومة الإسبانية بفرض عقوبات اقتصادية على إسرائيل، ووقف استيراد الأسلحة منها أو تزويدها بمعدات عسكرية تُستخدم في قمع المدنيين.
الفن يندمج مع الاحتجاج
احتضنت التظاهرة بعداً فنياً وثقافياً قوياً، إذ شارك الممثلان الإسبانيان ألبرتو سان خوان وإليزابيث جيلابيرت في إلقاء قصائد ونصوص تعبر عن وحدة الموقف الفني والشعبي ضد العدوان، وشكلت هذه الفقرة الثقافية لحظة مؤثرة وسط الحشود، حيث تلاقى الصوت الإنساني مع الأداء الفني في رسالة واحدة: "العدالة لا تُجزأ، وفلسطين لا تُنسى".
وساهمت هذه المشاركة الرمزية في منح التظاهرة طابعاً إنسانياً شاملاً، يعكس حجم التفاعل مع المأساة بعيداً عن الحسابات السياسية.. كما رسخت القناعة بأن القضية الفلسطينية لم تعد حكراً على الخطابات الدبلوماسية أو مواقف الأحزاب، بل صارت جزءاً من الضمير الجمعي لشعوب أوروبا.
ونقل مشاركون فلسطينيون في التظاهرة رسائل مباشرة من القطاع المحاصر، عبّروا فيها عن مطلب بسيط وعميق: "نريد فقط أن نعيش بسلام". وجاءت هذه الكلمات على لسان أحد الشبان الفلسطينيين الذي تحدث من منصة الاحتجاج، مشدداً على أن الشعب الفلسطيني لا يطلب المستحيل، بل يسعى فقط إلى حياة كريمة دون قتل أو تهجير.
عززت هذه الكلمات البسيطة البعد الإنساني للتظاهرة، وذكّرت العالم بأن ما يحدث في غزة ليس مجرد "صراع" بل مأساة مستمرة تنخر في الجسد الفلسطيني يومياً، في ظل حصار خانق وتواطؤ دولي واضح، خصوصاً من قبل بعض العواصم الأوروبية التي تواصل دعمها العسكري والاقتصادي لإسرائيل رغم حجم الجرائم الموثقة.
مؤشرات شعبية ضاغطة
انتشرت المظاهرات المؤيدة لفلسطين في عدد من المدن الأوروبية الأخرى، إذ شهدت باريس ومرسيليا تظاهرات ضخمة رفعت شعارات تطالب بوقف التعاون العسكري مع إسرائيل، وبتجميد اتفاقات السلاح.
ووفقاً لدراسة أجراها معهد الحقوق الأوروبي، فإن 65% من الأوروبيين يعارضون استمرار التبادل العسكري مع إسرائيل، وهو ما يعكس تصاعدًا في وعي الشعوب الأوروبية بشأن طبيعة الجرائم الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية.
رصدت المؤسسات المعنية بحقوق الإنسان تضاعف عدد المتظاهرين في أوروبا بنسبة 50% مقارنة بالأعوام السابقة، إلى جانب ارتفاع كبير في التفاعل الرقمي مع الحملات التضامنية، حيث سجلت منصات التواصل زيادة بنسبة 30% في الدعوات لمقاطعة الشركات الداعمة للاحتلال.
واستمرت التساؤلات حول ما إذا كانت هذه المظاهرات كافية لإحداث تغيير ملموس في السياسة الأوروبية تجاه إسرائيل. فالتجارب التاريخية تُظهر أن الضغط الشعبي، وإن كان عنيفًا في تأثيره الرمزي، يواجه تحديات كبرى أمام المصالح الاقتصادية والاستراتيجيات السياسية العميقة.
أوضح محللون أن قدرة هذه التحركات على تغيير قرارات الحكومات تبقى مرهونة بمدى استمرارها وتنظيمها، وبالتحالف مع منظمات حقوق الإنسان والفنانين والنقابات، لكنهم لم يستبعدوا إمكانية أن تثمر هذه الجهود، خاصة إذا تواصلت مع الضغوط الدبلوماسية والبرلمانية التي بدأت تظهر في بعض الدول الأوروبية، مثل أيرلندا وبلجيكا، والتي دعت إلى مراجعة العلاقات مع إسرائيل.
وأثارت الصور القادمة من غزة، والتي توثق لحظات دفن الأطفال تحت الأنقاض، وتدمير المستشفيات والمدارس والمساجد، ردود فعل عاطفية وإنسانية واسعة، تجلت في كلمات المتظاهرين الذين دعوا إلى رفع الحصار عن القطاع، وإحالة المسؤولين الإسرائيليين إلى المحكمة الجنائية الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب.
تزامنت هذه الدعوات مع تقارير جديدة من وزارة الصحة الفلسطينية، تشير إلى أن الأوضاع الصحية في غزة وصلت إلى نقطة الانهيار الكامل، في ظل نقص حاد في الأدوية والمستلزمات الطبية، وانهيار معظم المستشفيات بفعل القصف المتكرر، وعزز هذا الواقع الكارثي الشعور بالحاجة إلى تحرك دولي عاجل، لا يكتفي بإدانة لفظية بل يتخذ خطوات عملية لحماية المدنيين وإنهاء المأساة.
التضامن العالمي والتحديات
أشار الدكتور إحسان الخطيب، أستاذ العلوم السياسية بجامعة كنتاكي، إلى أن الرأي العام العالمي بات له تأثير ملحوظ في المحافل الدولية، ومع ذلك، شدد الخطيب على أن هذا التأثير يظل محكومًا في النهاية بمصالح الدول الكبرى، التي تظل العامل الحاسم في اتخاذ القرارات داخل المؤسسات الدولية. حيث أوضح أن العاملين في هذه المؤسسات قد يتأثرون بالرأي العام، إلا أن القوة الحقيقية تكمن في قدرة الدول على التأثير من خلال مصالحها الاستراتيجية.
وركز الخطيب، في تصريحات لـ"جسور بوست"، على مسألة التضامن الرمزي والتأثير العملي، موضحًا أن التضامن الشعبي الذي يظهر في المظاهرات له دور رمزي كبير، إلا أن تأثيره العملي في واقع السياسة الدولية، خاصة في الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة، يبقى محدودًا، فعلى الرغم من أن هناك تضامنًا عالميًا واسعًا مع القضية الفلسطينية، فإن طبيعة النظام السياسي في الولايات المتحدة، والتي تتأثر بشكل كبير باللوبيات السياسية، تحد من قدرة هذا التضامن على تحويل المواقف الشعبية إلى سياسات فعلية.
وأشار إلى أن التحرك العالمي على صعيد المظاهرات والاحتجاجات لم ينجح في إنهاء الاحتلال الإسرائيلي أو وقف ما وصفه بالإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني، ولكن هذا التحرك أسهم بشكل كبير في زيادة الوعي العالمي بالقضية الفلسطينية.
وأضاف أن هذا الوعي انعكس على مستوى التضامن الدولي مع الفلسطينيين، مما جعل إسرائيل تُواجه عزلة متزايدة في المجتمع الدولي، حيث أصبحت متهمة بارتكاب جرائم إبادة جماعية ضد الفلسطينيين. ولفت الخطيب إلى أن هذا التضامن لم يقتصر على الدول الأوروبية والعربية، بل أصبح يطال أيضًا الرأي العام الأمريكي، خاصة بين الشباب الذين بدأوا يظهرون دعمًا متزايدًا للقضية الفلسطينية.
ورغم هذا التغير في الوعي الدولي، أكد الخطيب، على أن التأثير العملي لهذا التضامن الشعبي ما زال محدودًا، مشيرًا إلى أن التغيير الحقيقي في السياسات الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية لن يحدث في المدى القريب.. فحتى وإن أظهر الجيل الجديد في الولايات المتحدة دعمًا أكبر للفلسطينيين، فإن ذلك لا يعني أن سياسات الحكومات الأمريكية ستتغير بشكل فوري.
وأوضح الخطيب أن هذا التغيير، إن حدث، سيكون في المدى المتوسط أو البعيد، حيث لا تزال المصالح الاستراتيجية والاقتصادية تربط الولايات المتحدة بإسرائيل بشكل وثيق، ما يحد من قدرتها على تبني سياسات من شأنها أن تمارس ضغوطًا حقيقية على إسرائيل.
وشدد الدكتور إحسان الخطيب على أن القضية الفلسطينية ستظل تشهد تطورات في المستقبل، إلا أن هذه التطورات لن تكون سريعة. فالتغيير الحقيقي يحتاج إلى مزيد من الدعم الدولي الفعّال من قبل الحكومات، لا سيما في الدول الكبرى. وأوضح أن هذا الدعم لا يجب أن يقتصر على التصريحات الرمزية، بل يجب أن يشمل اتخاذ إجراءات عملية على مستوى السياسات الدولية.
غياب المحاسبة الدولية
من جانبه، قال أستاذ القانون الدولي المقيم في باريس، مجيد بودن، إن التاريخ الطويل للصراعات الدولية، سواء كانت سياسية أو دبلوماسية أو عسكرية، ظل خاضعًا لموازين القوى ومصالح الدول التي تقرر متى وأين وكيف تُستخدم القوة.
في هذا السياق، جاء القانون الدولي كمحاولة لضبط هذا الاستخدام، ووضع أطر قانونية تضبط حدود القوة وآليات ردعها، إلا أن فاعليته ارتبطت دومًا بمدى التزام الدول به واستعدادها لتطبيقه.
وأشار بوزن، في تصريحات لـ"جسور بوست"، إلى أن القانون الدولي يستند في جوهره إلى مبادئ عامة اتفقت عليها البشرية، من العرف الدولي إلى الاتفاقيات المكتوبة، لكنه في النهاية يعتمد على إرادة الدول واحترامها للقواعد التي شاركت في صياغتها. ومع ذلك، فإن ما يحدث اليوم في فلسطين، وخاصة العدوان الإسرائيلي المستمر على الشعب الفلسطيني، ومؤسساته المجتمعية والإنسانية، يضع القانون الدولي في مواجهة أزمة تطبيق حقيقية.
وأوضح أن إسرائيل، تحت حكومة نتنياهو، تتجاهل تمامًا قرارات محكمة العدل الدولية، وتتحدى القواعد الأساسية للقانون الدولي. هذا التمادي، بحسب تعبيره، مرده إلى غياب المحاسبة الفعلية، ما يبعث برسالة مفادها أن هناك حصانة ضمنية تُمنح لمن يرتكب الجرائم متى ما كان يملك الحماية السياسية اللازمة، وهذا الشعور بالحصانة هو الذي يُغذي السياسات العنصرية والمتطرفة التي تنتهجها حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل، والتي لا تتردد في ارتكاب أفعال ترقى إلى مستوى جرائم الحرب.
وأشار إلى أن تخلي المجتمع الدولي عن استخدام سلطته القانونية والأخلاقية في مواجهة هذه الجرائم يُعد هو الآخر نوعًا من الخرق للقانون الدولي، بل ويضع الدول التي تتقاعس عن التحرك أمام مسؤوليات قانونية وأخلاقية. إذ إن عدم محاسبة الجناة لا يعفي الدول الأخرى من المسؤولية، بل يجعلها طرفًا غير مباشر في استمرار هذه الجرائم. وشدد على ضرورة أن تبادر الدول بالتوجه إلى محكمة العدل الدولية لتقديم شكاوى واضحة تُحمّل الأطراف المتقاعسة مسؤولية المشاركة في الإبادة الجماعية بالصمت.
ولفت إلى أن الرأي العام الدولي، والمجتمعات المدنية، باتت تلعب دورًا حاسمًا في تشكيل سياسات الدول، خاصة في الأنظمة الديمقراطية التي تستجيب لضغط الشارع وصناديق الاقتراع. وبيّن أن التظاهرات الضخمة التي شهدتها مدن أوروبية وأمريكية وحتى في دول الجنوب العالمي، تعكس تحولاً أخلاقيًا في نظرة الشعوب للقضية الفلسطينية. لم تعد فلسطين مجرد ملف سياسي، بل أصبحت قضية ضمير، ومقياسًا أخلاقيًا يُحدد موقف الإنسان من العدالة والكرامة.
وأردف أن هذه التظاهرات، التي شاركت فيها شرائح مجتمعية واسعة من طلبة وأكاديميين ونشطاء ومدافعين عن حقوق الإنسان، ليست مجرد تعبير رمزي، بل هي ضغوط حقيقية تُترجم إلى تأثير سياسي على صناع القرار.. فوجود مئات الآلاف في الشوارع، ومظاهر الدعم المتواصلة من الجامعات والنقابات والهيئات الثقافية، هو في حد ذاته تشكيل جديد لميزان القوى الأخلاقي الذي يُجبر الحكومات على إعادة النظر في مواقفها، أو على الأقل، يضعها أمام مساءلة داخلية.
واختتم تصريحه قائلاً، إن الحديث عن أكثر من 53 ألف شهيد فلسطيني لا يجب أن يبقى مجرد رقم، بل يجب أن يُجسد كل واحد منهم كشخصية مستقلة، له ملامحه وحلمه ومشروعه الشخصي الذي تم اغتياله. هذا التذكير الإنساني يجب أن يهز الضمائر، ويقود إلى محاسبة الجناة، وإيجاد حل سياسي عادل يعيد للشعب الفلسطيني كرامته، ويحفظ له مستقبله على أرضه. فقط حين يُنظر إلى