أدرينالين الحزن يقتل ببطء.. متلازمة القلب المكسور تفضح هشاشة الدعم النفسي
أدرينالين الحزن يقتل ببطء.. متلازمة القلب المكسور تفضح هشاشة الدعم النفسي
في مساءٍ قاتمٍ من شتاء 2024 دخلَت سيدةٌ ستينية إلى قسم الطوارئ في مستشفى «كليفلاند كلينيك» وهي تشهق كأنّ رئتيها تستغيثان، بينما يداها تقبضان على صدرٍ يحترق… رسمُ القلب كشف اضطرابًا شديدًا في موجة-T وتعملقًا بطينيًّا أيسر يشبه بالونًا يابانيًّا منبسِطَ القاع ومع ذلك، حين هرع الأطباء إلى قسطرة الشرايين لم يجدوا عائقًا واحدًا.
قال الطبيب الشاب للسيدة الستينية، بصوتٍ استعارَ من الحكمة عمرًا أطول منه: «قلبكِ ليس فيه جلطة، قلبكِ مكسور».
هذه المفارقة، التي تجمع بين براءة العبارة وقسوة العاقبة، تُسمّى طبيًّا «اعتلال عضلة القلب تاكوتسوبو» أو «متلازمة القلب المنكسر»؛ حالةٌ مؤقّتةٌ يخفق فيها القلب كطائرٍ ارتطم بزجاجٍ ظنّه فضاءً، فتتهاوى وظائف الضخّ وتتشابه الأعراض إلى حدِّ الالتباس مع احتشاء عضلة القلب.
تُقدِّر بيانات «السجل الوطني لنتائج الرعاية القلبية» في الولايات المتحدة أنّ 35 ألف تشخيص جديد يُسجَّل سنويًّا بزيادة تراكمية تعادل 7% سنويًّا منذ 2010، أي ما يقارب 0.02% من جميع الزيارات الإسعافية المتعلقة
كشفت دراسة جديدة أن الرجال أكثر عرضة للوفاة بسبب «متلازمة القلب المكسور»، مقارنة بالنساء رغم أنهن يصبن بها بشكل أكبر.. وبحسب ما أفادت به صحيفة «يو إس إيه توداي» USA Today، فإن الدراسة الجديدة أظهرت فروقات واضحة في النتائج بين الرجال والنساء من خلال متابعة ما يقارب 200 ألف حالة دخول إلى المستشفيات في الولايات المتحدة بين عامي 2016 و2020.
وأكدت الدراسة التي نشرتها «مجلة الجمعية الأميركية للقلب» أنه غالبًا ما تحدث «متلازمة القلب المكسور»، المعروفة طبيًّا باسم اعتلال عضلة القلب تاكوتسوبو، نتيجة لضغط جسدي أو عاطفي شديد. وأشارت إلى أن أعراض المتلازمة تتشابه مع أعراض النوبة القلبية، مثل ألمٍ في الصدر وضيقٍ في التنفّس، لكنها لا تترافق مع انسدادٍ في الشرايين، ورغم أن معظم المرضى يتعافون منها، فإن نسبةً صغيرة قد تتعرض لمضاعفات خطيرة مثل فشل القلب أو الوفاة.
وبيَّنت الدراسة أن نحو 11% من الرجال الذين أُدخلوا إلى المستشفى بسبب هذه المتلازمة توفّوا خلال فترة الدراسة، مقارنة بـ5% فقط من النساء، حيث تتفق هذه النتائج مع دراسات سابقة أشارت إلى أن الرجال، رغم ندرة إصابتهم بـ«متلازمة القلب المكسور»، فإنهم يواجهون مخاطر أعلى عند حدوثها.
ورجّحت الدراسة الجديدة أن تكون طبيعة المحفز وراء الإصابة بالمتلازمة سببًا في تفاوت النتائج، ففي حين أن الضغوط العاطفية، مثل الحزن أو فقدان الوظيفة، هي السبب الأكثر شيوعًا لدى النساء، فإن الضغوط الجسدية مثل العمليات الجراحية أو السكتات الدماغية أو العدوى غالبًا ما تكون السبب لدى الرجال. كما لفتت الدراسة إلى أن انخفاض مستوى الدعم الاجتماعي لدى الرجال قد يسهم أيضًا في ضعف فرص التعافي، وإذا استمر الضغط النفسي، فسيواصل التأثير السلبي على القلب أو يقلل من فرص التعافي.
وأشارت الدراسة إلى ارتفاع مفاجئ في هرمونات التوتر مثل الأدرينالين الذي يضعف وظيفة القلب بشكل مؤقت، إلا أن الباحثين يرون أن التوتر وحده لا يفسر كل الحالات، كما أن بعض الحالات سُجّلت بعد محفزات بسيطة مثل الغثيان أو مواقف يومية مزعجة، وبعض الأشخاص قد تكون لديهم قابلية بيولوجية كامنة للإصابة، مثل ارتفاع ضغط الدم أو الكوليسترول، ما يحد من تدفّق الدم عبر الأوعية الدقيقة المحيطة بالقلب.
اقتصاديًّا، تقدّر «مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها» أنّ متوسط كلفة الاستشفاء لكل حالة يبلغ 18 ألف دولار، ما يعني فاتورةً سنويةً تناهز 630 مليون دولار في الولايات المتحدة وحدها (CDC Cost Report 2024). في عالمٍ تصاعدت فيه أوبئة التوتر، من إرهاق العمل إلى أزمات المناخ، تحولت المتلازمة إلى مؤشرٍ بيولوجيٍ يفضح ثغرات العدالة الاجتماعية.. فبيانات التأمين الصحي الأميركي تظهر أنّ العمال ذوي الدخل المنخفض يتأخرون 14 ساعة وسطًا قبل طلب الإسعاف مقارنةً بذوي الدخل المرتفع، ما يرفع معدل الوفيات لديهم إلى 13% (Kaiser Family Foundation Brief، 2023). إذًا ليس القلب وحده من ينكسر، بل سياج الحماية الاجتماعية أيضًا.
على مستوى الوقاية، يختبر باحثو «جامعة كيوتو» برنامجًا يجمع تمارين التنفس مع تطبيقٍ يُرسل إشعارات بموسيقى هادئة عند ارتفاع معدل النبض، وقد خفّض تكرار النوبات بنسبة 28% بعد ستة أشهر في تجربةٍ شملت 220 مريضًا (Circulation، فبراير 2025). ورغم أن مثبطات بيتا مثل بروبرانولول تُوصف تقليديًّا، أظهر تحليل تلوّي نُشر في «JAMA Cardiology» الشهر الماضي أن تأثيرها على خفض الوفيات لم يتجاوز حدّ الدلالة الإحصائية (p = 0.09)؛ بينما بدت مثبطات الإنزيم المحول للأنجيوتنسين أكثر وعدًا بخفض إعادة الإدخال للمستشفى بنسبة 15%. يظلّ السر الدفين في إدارة الضغوط: مبادرة «قلوب صامدة» التي أطلقتها ولاية ماساتشوستس في 2022 لدعم الأرامل عاطفيًّا قلّصت أعداد التشخيص الجديدة ضمن المشاركات بنسبةٍ لافتةٍ بلغت 35% خلال عامٍ واحد.
وتبرز ثغرةٌ مبهمة.. معظم بروتوكولات الطوارئ تُفصِّل خطوات التعامل مع احتشاء الشريان التاجي الدقيق لكنها تغفل سيناريو المتلازمة، ما يفتح الباب أمام تشخيصٍ ناقص قد يعرّض المريض لإجراءاتٍ غازيةٍ لا لزوم لها. لهذا طالب «الاتحاد الدولي للقلب» في بيانه الصادر في 10 أكتوبر 2024 بإدراج اختبارات الواسمات الأدرينالية ورنين القلب في حزم التأمين الأساسية، مؤكدًا أن «حق المريض في التشخيص الدقيق لا ينفصل عن حقه في العلاج».. وبينما تتسع الهوة بين الجنسين، يدعو البيان نفسه إلى تضمين برامج الدعم النفسي الموجّهة للرجال الأرامل أو المصابين بالسكتة الدماغية ضمن خطط التأهيل القلبي.
أما في العالم العربي فتظل البيانات شحيحة، ففي مسحٌ ميداني أجرته «جامعة عين شمس» على أربعة مستشفيات في القاهرة بين 2021-2023 رُصدت 124 حالة، 83% منها لنساء، بمعدل وفيات بلغ 6.5%، بينما سجّل «مستشفى الملك فيصل التخصصي» في الرياض 60 حالة خلال المدة نفسها ونسبة وفيات 4% (سجلات المستشفى غير المنشورة، عرضت في مؤتمر الجمعية السعودية لأمراض القلب، مارس 2024). الدكتور ياسر الغمري، استشاري القلب في القاهرة، يصف الظاهرة بقوله: «هي عاصفة تنشأ من غيومٍ لا تُرى؛ لا بد أن نتعلم قراءةَ الطقس النفسي قبل أن نهتم بقياس ضغط الدم».
القلب المكسور يقتل رجالًا أكثر
أكّد الطبيب د. سيد زهران، المتخصص في طب الطوارئ والحالات الحرجة، أن متلازمة القلب المكسور ليست مجرد حالة نفسية عابرة، بل هي أزمة صحية حقيقية ذات أبعاد فيسيولوجية معقّدة، وقد تكون أشد فتكًا لدى الرجال مقارنة بالنساء، نتيجة تداخل عوامل بيولوجية وسلوكية وهرمونية.
وأوضح زهران، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن التأثير الانفعالي لمتلازمة القلب المكسور لا يختلف في جوهره بين الجنسين، لكن ما يُضفي على الحالة مزيدًا من الخطورة لدى بعض الأشخاص هو تراكم عوامل إضافية لديهم، مثل التقدم في السن، والسهر المزمن، والتدخين، والإصابة بأمراض مزمنة كارتفاع ضغط الدم والسكري، وارتفاع نسبة الكوليسترول، والسمنة، وهي عوامل تفضي إلى زيادة احتمالية انسداد الشريان التاجي، ما قد يسبب توقفًا مفاجئًا في عضلة القلب.
وأشار إلى أن الحزن الشديد أو الانفعال العاطفي القوي، وخصوصًا لدى الأشخاص الحساسين تجاه البيئة المحيطة، يمكن أن يطلق في الدم مواد سامة تُعرف باسم "الكيموتوكسينات"، وهذه المواد قد تؤدي إلى حدوث جلطات في شرايين رئيسية، من أبرزها الشريان التاجي، كما أن الجسم يفرز حينها كميات كبيرة من هرمون الأدرينالين، الذي يتسبب في تسارع مفرط لنبضات القلب، وهو ما قد يفضي في بعض الحالات إلى توقف مفاجئ لعضلة القلب. ونظرًا لأن الرجال عادة ما يكونون أكثر تعرضًا للتدخين، وضغط العمل، وقلة النوم، وارتفاع الدهون، فإنهم يصبحون الفئة الأكثر هشاشة في مواجهة هذه المتلازمة.
ولدى سؤاله عن مؤشرات التشخيص المبكر للمتلازمة، أكد زهران أن تلك المؤشرات لا تختلف بين الجنسين في أقسام الطوارئ، ما يجعل من المهم الانتباه لأي أعراض قلبية بعد صدمة نفسية حادة، بغض النظر عن جنس المريض.
وعلى صعيد التأثير الهرموني، بيّن زهران، أن لهرمون "الإستروجين" دورًا وقائيًا مهمًا لدى النساء قبل سن انقطاع الطمث، حيث يحافظ على استرخاء الأوعية الدموية ويمنع انقباضها، ما يقلل من احتمالية ارتفاع ضغط الدم ويقي من تصلب الشرايين. كذلك يساعد الإستروجين في تنظيم مستويات الكوليسترول بالدم. إلا أن تراجع نسبته بعد انقطاع الطمث يزيد من مخاطر الإصابة بأمراض القلب. وعلى الجانب الآخر، أظهرت دراسات متعددة أن انخفاض نسبة هرمون "التستوستيرون" لدى الرجال يرتبط بزيادة خطر الوفاة نتيجة أمراض القلب.
وفي ما يخص سبل الوقاية وتقليل معدل الوفيات بين الرجال، شدد الطبيب زهران على ضرورة تبني مجموعة من التعديلات السلوكية والدوائية، من بينها: إجراء تحليل شامل لصورة الدهون مرة واحدة سنويًا على الأقل، الإقلاع عن التدخين أو تقليله قدر المستطاع، السيطرة على مرض السكري وارتفاع ضغط الدم عبر المتابعة الدقيقة، والابتعاد عن الأطعمة السريعة والدهون المشبعة. كما أوصى بالإكثار من تناول الأسماك، واستخدام زيت الزيتون، وتناول مكملات "أوميغا 3" بانتظام بعد سن الأربعين، إلى جانب ممارسة الرياضة بانتظام والحد من استهلاك السكر.
واختتم د. سيد زهران تصريحه مؤكدًا أن الوقاية تبدأ من الوعي، وأن فهمنا الأعمق لطبيعة العلاقة بين العوامل النفسية والفيزيولوجية في أمراض القلب قد يُسهم في إنقاذ أرواح كثيرة، إذا ما تم توظيف هذا الفهم في التثقيف المجتمعي والرعاية الطبية الاستباقية.
كتمانُ الرجال يفتكُ بقلوبهم
اعتبر الدكتور جمال فرويز، أستاذ الطبّ النفسي، أنّ بنيان النفس البشرية يحكمه تبايُنٌ جوهريّ في القدرة على احتمال الضغوط، وأنّ "الشخصيات العُصابيّة" –سواء لدى الرجال أو النساء– تظلّ أشدّ هشاشةً حين تهبّ رياح التوتر، مقارنةً ببقية الأنماط الشخصية، هذه الفئة تضمّ الهستيريّ، والوسواسيّ، والاكتئابيّ؛ وكلّها تشترك في استجابةٍ فيزيولوجيةٍ وانفعاليةٍ بالغة الحدّة تجعل أصغر المنغّصات شرارةً قد تفجر سلسلةَ اضطراباتٍ تطال القلب والجهاز الهضمي والعضلات.
وأوضح فرويز، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أنّ ما يُسمّى «معايير الرجولة» يتراجع أمام هذه الحقائق؛ فالرجل العصابي لا يختلف في هشاشته عن المرأة العصابية إلا بمقدار ما يفرضه المجتمع من قوالب صلابةٍ زائفة.. ففي ثقافتنا تُشجَّع المرأةُ على البكاء والصراخ والتنفيس، بينما يُحاصر الرجل خلف جدران الصمت مخافةَ خدش صورة الصلابة.. يفاقم ذلك ضيقُ شبكة أصدقائه؛ فلقاءاته الاجتماعية أقلّ، وساعات عمله أطول، ما يدفعه إلى ابتلاع الألم النفسي ليغدو ضغطًا دمويًّا مرتفعًا، أو اضطرابًا ضربانيًّا، أو حتى سكتةً قلبيةً مباغتة، وفي المقابل، تمتلك المرأة دائرةَ دعمٍ وجداني تتيح لها تفريغ شحنة الحزن، فيتوزّع أثرُ التوتر على البدن ولا يُختزن بعمقٍ مدمر.
وشبّه النفس البشرية بدولابٍ يكدّس أحمالًا متراكمة؛ فإذا امتلأ ولم يُفرَّغ انهار مفصلُه الرئيس... عبارة المريض «فاض بي» ليست مجازًا لغويًّا، بل إشارة إلى أنّ الأدرينالين بلغ ذروةً تعصف بضغط الدم، وتربك مستوى السكر، وتقبض الأوعية المحيطية، وتُلهب بطانة المعدة.. وعلى أرض الواقع، تسجل العيادات القلبية للرجال معدلاتٍ أعلى من الذبحة غير المستقرة واضطراب النظم بعد صدماتٍ نفسية، بينما تبقى النساء –رغم شيوع الحزن في سردهنّ اليومي– أقلّ عرضةً للانفجار العضوي الفجائي.
وأفاد الدكتور فرويز بأنّ البرامج التوعوية النفسية قادرة على رفع البصيرة وحسن التصرّف ساعة الأزمات، غير أنّ فاعليتها تتوقف عند عتبة البنية العُصابية ذاتها.. فالشخصية المُثقَلة بالقلق أو الوسواس لا يكفيها درسٌ تثقيفيّ أو نصيحةٌ عابرة؛ بل تحتاج إلى تدخّلٍ علاجيٍّ متكامل، يجمع العلاج المعرفي السلوكي لإعادة تشكيل الأفكار المحرِّضة على التوتر، مع تدريبٍ منهجيٍّ على الاسترخاء العضلي والتنفس العميق، وربما دعمٍ دوائيٍّ حين تستدعي الحال.. بذلك فقط يمكن كسر الحلقة المفرغة التي يبدأ فيها الضغط النفسي باضطرابٍ ضئيل ويتحوّل إلى عطلٍ عضويٍّ جسيم.
واختتم الأكاديميُّ المصريّ تصريحه بدعوةٍ صريحة إلى إعادة تعريف الشجاعة العاطفية في الخطاب العام، مؤكدًا أنّ السماح للرجال بالتعبير الآمن عن حزنهم ليس ترفًا اجتماعيًّا، بل هو إجراءٌ وقائيٌّ يقلّل عبء وفياتٍ يمكن تفاديها.. فحين نهيّئ مساحاتٍ لنزف الوجع بالكلمات، نمنع قلوبًا كثيرة من النزف فعليًّا في غرف الطوارئ، ونمنح مجتمعًا بأسره فرصةَ التشافي من مفاهيمَ تُراكم الألم بدل أن تداويه.