الجوع كسلاح حرب.. كيف تحولت موارد الكونغو إلى "لعنة" تنتهك حقوق الإنسان؟
الجوع كسلاح حرب.. كيف تحولت موارد الكونغو إلى "لعنة" تنتهك حقوق الإنسان؟
يظل الجوع كأنه شبح داهم لا يفارق مناطق النزاعات المسلحة في أي مكان بالعالم، حيث يتداخل العنف مع الفقر ليشكل مزيجاً قاتلاً يمس ملايين الأرواح.
وفي هذا السياق، تتجلى جمهورية الكونغو الديمقراطية نموذجاً حياً للتأثير المدمر للصراعات المسلحة على الأمن الغذائي والاستقرار الاجتماعي، إذ يعيش فيها أكثر من 28 مليون شخص تحت وطأة الجوع الشديد، وفق أحدث بيانات برنامج الأغذية العالمي، هذه الأرقام تمثل ارتفاعاً بنسبة 10% منذ سبتمبر 2024، وهو أكبر رقم مسجل في تاريخ البلاد.
وتعاني الكونغو، التي تحتل المرتبة الثانية من حيث المساحة في إفريقيا، منذ سنوات، صراعاً مسلحاً مستمراً بين أكثر من 70 ميليشيا مسلحة تتنافس على السيطرة على الموارد الطبيعية الغنية من معادن ثمينة كالذهب، الكولتان، والألماس، إلى مساحات واسعة من الأراضي الزراعية الخصبة.
وتؤثر موجة العنف المستمرة -بشكل مباشر- في الإنتاج الزراعي الذي كان يُعدّ المصدر الأساسي للرزق لأكثر من نصف السكان الأراضي الخصبة تحولت إلى ساحات معارك، وأُجبر المزارعون على الهروب، ما أدى إلى انهيار الإنتاج وارتفاع أسعار السلع الغذائية في بعض المناطق، يتجاوز سعر طن القمح تكلفة محاصيل الفلاحين السنوية، ما يجعل تأمين الغذاء تحدياً يفوق الإمكانات المتاحة.
تعاني عمليات الإغاثة عراقيل كبيرة بسبب استمرار العنف والسيطرة المسلحة على ممرات النقل الحيوية، إضافة إلى ضعف البنية التحتية حسب تقرير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (OCHA) في 2025، تُعد أكثر من 60% من الطرق في المناطق الشرقية غير آمنة لنقل المساعدات، ما يعرقل وصول الغذاء والدواء إلى المناطق الأكثر تضرراً.
وتعكس الأزمة في الكونغو العلاقة بين النزاع المسلح والأمن الغذائي، إذ يؤدي استمرار القتال إلى تعطيل الإنتاج والتوزيع، وزيادة الفقر والبطالة، ما يفاقم دوامة العنف. في المقابل، يضعف الجوع المجتمعات ويقلل قدرتها على مقاومة الأزمات، مخلّفاً حصاراً أشد فتكاً من القنابل.
وتُعد مأساة الكونغو من أكثر الكوارث المعاصرة فتكاً وإمعاناً في الإجرام المنهجي، حيث وصفت منظمة هيومن رايتس ووتش الوضع بأنه “واحد من أسوأ انتهاكات حقوق الإنسان في القرن الحادي والعشرين”، حيث يسقط المدنيون ضحايا مباشرين لحملات القتل والتعذيب والاعتقالات التعسفية والاغتصاب المنظم، في سياق يستخدم العنف ضد المدنيين أداةً حربية ممنهجة.
وفيما تتزامن هذه الانتهاكات مع تفاقم الجوع، تستخدم بعض الميليشيات حرمان السكان من الغذاء كوسيلة حرب استراتيجية، متعمدة بذلك تدمير المجتمعات وإخضاع السكان عبر التجويع، ما يعكس مدى استغلال المعاناة الإنسانية لتحقيق مكاسب سياسية وعسكرية ضيقة.
ولا يمكن النظر إلى أزمة الجوع في الكونغو الديمقراطية على أنها حالة طارئة يمكن تجاوزها بخطوات مؤقتة، بل هي انعكاس لأزمات مزمنة متراكمة تغذيها حرب مفتوحة تستنزف حياة الشعب ومقدراته، فالمشهد في شرق الكونغو هو صورة مروعة لشعب محاصر بين نارين قاتلتين: نار العنف التي تلتهم كل ما هو حي، ونار الجوع التي تحرق أجساد الأبرياء. في هذا التوتر المأساوي، يصبح الطعام سلعة نادرة، والإنسان ضحية دائمة في لعبة عنف قاسية بلا هوادة.
وتثير هذه الأزمة أسئلة أخلاقية وإنسانية عميقة حول قدرة المجتمع الدولي على الحماية الفعالة للضعفاء في زمن تتسارع فيه التحديات المعقدة والمتشابكة. هل ستتجاوز ردود الفعل السياسية والبيانات الإعلامية الباردة؟ هل ستتمكن الجهود الدولية من توحيد صفوفها وقطع دابر العنف، ووضع حد لمعاناة الملايين؟ أم أن مأساة الكونغو ستظل تتسع رقعتها، تاركة خلفها دروباً من الألم والصمت القاتل؟
الجوع كسلاح حرب
قال حسن محمد حاج، المحلل السياسي الدولي ورئيس تحرير موقع "الصومال الآن"، إنّ جمهورية الكونغو الديمقراطية تشهد واحدة من أعنف موجات العنف المسلح في تاريخها الحديث، ما أسفر عن تفاقم كارثي في أزمة الجوع التي تضرب البلاد، حيث يُقدّر عدد المتضررين من الجوع الشديد بأكثر من 28 مليون شخص، وفقاً لبيانات برنامج الأغذية العالمي، وهذا الوضع ينسف أسس الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، ويحوّل قرى كاملة إلى مناطق منكوبة، هجرتها ساكنوها تحت وطأة الجوع والخوف.
وأوضح محمد حاج، في تصريحات لـ"جسور بوست"، العنف المستمر والنزاعات المسلحة الدائرة بين الميليشيات المنتشرة في شرق البلاد، تمثل العامل الرئيسي في انهيار المنظومة الغذائية. فالحقول أُحرقت أو تُركت دون زراعة، والمزارعون هُجّروا قسراً، وشبكات النقل والإمداد تعطّلت بفعل العمليات العسكرية، الأمر الذي أدى إلى انقطاع سلاسل التوريد وتضخم أسعار المواد الأساسية، حتى بات الحصول على وجبة يومية يمثل ترفاً بعيد المنال في العديد من المناطق.
وشدد على أن التأثيرات المأساوية لهذا الوضع تطول بشكل خاص الفئات الضعيفة، وعلى رأسها النساء والأطفال، إذ يعاني الأطفال من نسب مرتفعة من سوء التغذية الحاد، تؤثر مباشرة في نموهم البدني وتطورهم العقلي، في حين تُجبر الأمهات على اتخاذ قرارات قاسية تمس كرامتهن وحياتهن، كتزويج القاصرات أو التخلي عن التعليم والهجرة القسرية بحثاً عن مناطق أكثر أماناً أو فقط رغيف خبز.
وأضاف أن هذه الأزمة لا تتوقف عند حدود الجوع، بل تمتد إلى انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان الأساسية، مثل الحق في الحياة الكريمة، والحق في الغذاء والماء والرعاية الصحية والتعليم. كما تؤدي حالات النزوح الجماعي إلى تفكك الروابط الأسرية والاجتماعية، وتخلق توترات داخلية حول الموارد الشحيحة، ما يعزز مناخاً مستمراً من العنف والاضطراب، يصعب احتواؤه في ظل غياب حل سياسي شامل.
وأشار إلى أن العنف المسلح لا ينشط فقط في مناطق النزاع التقليدية، بل يتمدد على شكل اقتصاد ظل يديره أمراء الحرب، يعتمد على تهريب الموارد الطبيعية، واستغلال الأطفال، وفرض الإتاوات على السكان المحليين، وهو ما يعوق أي جهد تنموي حقيقي، ويضعف قدرة الدولة على فرض سيادتها أو تقديم الخدمات الأساسية لمواطنيها.
ودعا محمد حاج، إلى تحرك جماعي وعاجل من الحكومة الكونغولية والمجتمع الدولي، يبدأ بتأمين المساعدات الغذائية العاجلة للمناطق الأشد تضرراً، وتأمين الطرق الإنسانية التي تعرقلها الميليشيات المسلحة. كما طالب بضرورة العمل على استعادة الأمن من خلال حلول سياسية نابعة من حوار وطني شامل، تشارك فيه كل القوى المؤثرة، ويترافق مع وساطات إقليمية ودولية.
ورأى أن الخطوة الأهم تتمثل في دعم المجتمعات الزراعية المحلية بمشاريع إنتاج غذائي مستدام، ومساعدات تقنية ومالية تُمكّن العائلات من العودة إلى أراضيها وإعادة بناء اقتصادها الذاتي، مع التركيز على النساء واليافعين كمحورين أساسيين في جهود إعادة التأهيل والتنمية.
وختم تصريحه بالتأكيد على أن الجوع في الكونغو الديمقراطية ليس مجرد نتيجة جانبية للحرب، بل هو وجه آخر من وجوهها، يُستخدم كسلاح للسيطرة والإخضاع، ولذلك فإن أي جهد لمعالجة هذه الأزمة يجب أن يتجاوز الحلول الطارئة إلى بناء شراكة دولية شاملة تهدف إلى إنقاذ أرواح الأبرياء وصون كرامتهم، قبل أن تتسع دائرة الجوع لتبتلع جيلاً كاملاً من أبناء هذا البلد الغني بموارده والمحروم من حقوقه الأساسية.
عنف ممنهج وجوع
من جانبها، أكدت الناشطة الحقوقية أسماء رمزي، أن الأزمة الإنسانية في الكونغو ليست مجرد مأساة جوع وحسب، بل هي نتيجة تراكمية لعنف ممنهج وإهمال عالمي طويل الأمد. وأشارت رمزي إلى أن إنقاذ الأرواح يتطلب تحركاً عاجلاً ومتضافراً من كل الأطراف المعنية، حيث لا بد من أن تركز الحلول المطروحة على حماية الإنسان أولاً، مع ضرورة معالجة جذور الصراع عبر عدالة انتقالية وتنمية مستدامة، وإلا ستصبح الكونغو نموذجاً صارخاً لفشل المجتمع الدولي في حماية أبسط حقوق الإنسان.
وقالت رمزي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، إن التأثير السلبي لهذه الأزمة يتمركز بشكل خاص على الأسر والنساء والأطفال، الذين يعانون أوضاعاً مأساوية تستدعي الوقوف أمامها بكل حزم. فالأطفال يعانون سوء تغذية حاداً يؤدي إلى ارتفاع معدلات الوفيات في بيئة إنسانية شديدة القسوة، كما يفقدون فرص التعليم بسبب النزوح المستمر، أما النساء، فإنهن يُجبرن على قطع مسافات طويلة بحثاً عن الغذاء والماء، ما يعرضهن للعنف الجنسي والاختطاف في كثير من الأحيان.
وأوضحت رمزي، أن أبرز الحقوق الإنسانية التي تُنتهك في هذه الأزمة تشمل الحق في الحياة والسلامة الجسدية، والحق في الغذاء الكافي، والحق في السكن الآمن بسبب النزوح القسري وتحول القرى إلى مخيمات لا توفر الحد الأدنى من الأمن والاستقرار. كما أن الحق في الصحة مهدد بشدة جراء انهيار الخدمات الطبية وانتشار الأمراض، وهو ما يجعل الوضع يتجه نحو كارثة إنسانية غير مسبوقة. وأضافت أن حق الأطفال في الحماية والتعليم يتعرض للخطر أيضاً، حيث يؤدي تجنيدهم من قبل الجماعات المسلحة أو حرمانهم من المدارس إلى انقطاع الأمل في مستقبل أفضل.
وترى أن انهيار التكافل الاجتماعي في المجتمعات المتأثرة، وتحولها من التعاون إلى التنافس على الموارد الشحيحة، يؤدي إلى تصاعد العنف المحلي وازدياد معدلات الجريمة، مع تزايد حالات السرقة وانضمام بعض الأفراد إلى الجماعات المسلحة للحصول على ما يضمن لهم البقاء. كما أشارت إلى تغير الأدوار التقليدية في هذه المناطق، حيث تصبح النساء معيلات رئيسيات في غياب الرجال، بسبب الحرب أو الموت، ما يضاعف من أعبائهن في بيئة صعبة ومعقدة.
وأبرزت رمزي، الإجراءات التي يجب أن تتخذها الحكومة الكونغولية بشكل عاجل، ومنها حماية المدنيين عبر نزع سلاح الجماعات المسلحة وتأمين طرق الإمداد الغذائي الحيوية، إضافة إلى إعادة الإعمار من خلال استصلاح الأراضي الزراعية وتوفير البذور والأدوات اللازمة للمزارعين. كما شددت على ضرورة مكافحة الفساد لضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى مستحقيها عبر آليات شفافة وفعالة.
وطالبت رمزي بزيادة المساعدات الإنسانية وتمويل برامج الأغذية العالمية والمنظمات المحلية التي تعمل على الأرض، مع الضغط السياسي لوقف تدفق الأسلحة إلى الجماعات المسلحة ومحاسبة المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان، كما دعت إلى دعم النازحين عبر توفير مخيمات آمنة تشمل خدمات الصحة والمياه النظيفة، وتفعيل آليات اللجوء الدولية مع دعم البلدان المجاورة التي تستقبل اللاجئين. وأكدت رمزي أهمية دعم الحلول طويلة الأمد.
وختمت الناشطة الحقوقية تصريحها بالتأكيد على أن أزمة الكونغو تحث المجتمع الدولي على تحمل مسؤولياته بشكل عاجل وفاعل، فلا يمكن للإنسانية أن تتجاهل مأساة مستمرة تهدد حياة ملايين، ويجب أن تتضافر الجهود لتحقيق سلام دائم وحماية كرامة كل فرد في هذا البلد الذي يعاني من ويلات العنف والفقر بلا هوادة.