"فورين أفيرز": قرارات ترامب تُدمّر بيئة الابتكار في الولايات المتحدة
"فورين أفيرز": قرارات ترامب تُدمّر بيئة الابتكار في الولايات المتحدة
أضعفت قرارات الإدارة الأمريكية في الفترة الأخيرة مؤسسات الدولة الفيدرالية التي طالما شكّلت أساسًا لقوة الاقتصاد الأمريكي، حيث قلّص الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ميزانيات العديد من الوكالات الفيدرالية المعنية بالبحث والتطوير، ما أدى إلى تقليص الدور الحكومي في دعم الابتكار، الذي يُعدّ العمود الفقري للنمو الاقتصادي الأمريكي منذ الحرب العالمية الثانية.
ووفقا لتقرير نشرته مجلة "فورين أفيرز"، اليوم الأربعاء، هاجمت السياسات الفيدرالية قطاع الهجرة، ما صعّب على الجامعات والشركات استقطاب المواهب العالمية، وفرّ كثير من الباحثين والمهندسين بسبب القوانين المتشددة، ما قلّص من التنوّع الفكري الذي ميّز بيئة الابتكار الأمريكية لعقود.
وفي ظل هذه السياسات، تراجع ثقة المستثمرين، حيث أطلق ترامب تهديدات متكررة بفرض رسوم جمركية وقيود تجارية جديدة، ما دفع العديد من رؤوس الأموال إلى تجميد أنشطتها أو تحويلها إلى وجهات بديلة أكثر استقرارًا.
وفي هذه الأثناء، عزّزت الصين موقعها في القطاعات ذاتها التي تشهد تعطيلًا في الولايات المتحدة، مثل الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة.
تهديد القطاعات الحيوية
تُعدّ البرمجيات والروبوتات والطاقة النظيفة والذكاء الاصطناعي من أبرز القطاعات التي يُعوّل عليها الأمريكيون لضمان الريادة الاقتصادية المستقبلية.
وتعتمد هذه المجالات على استثمارات حكومية طويلة الأمد لا يُمكن للقطاع الخاص وحده أن يتحمّلها، فالمبادرات البحثية التي قادت لتطور الإنترنت وتكنولوجيا الفضاء والحوسبة الفائقة، على سبيل المثال، كانت ثمرة شراكات ممتدة بين الجامعات والحكومة والمعاهد الوطنية.
وتحوّلت هذه الشراكات إلى ركيزة حيوية للنظام الابتكاري الأمريكي، إلا أن السياسات الحالية أضعفتها بشكل ملحوظ، وتراجع التمويل، وتقلّصت الاستثمارات في برامج البحث الجامعي، وازدادت الضغوط على العلماء الأجانب، خصوصًا من الصين، ما حرم الجامعات من أفضل العقول في تخصصات متقدمة.
ويُهدد هذا التوجه بتراجع ترتيب الولايات المتحدة في البحث العلمي عالميًا، ويفتح المجال أمام دول أخرى مثل كندا وأستراليا وهولندا لاستقطاب الطلبة والباحثين الدوليين، تبنّت هذه الدول سياسات داعمة للهجرة العلمية، في حين اختارت الولايات المتحدة أن تسير في الاتجاه المعاكس.
الأسواق العالمية والابتكار
ارتبط تطور الابتكار الأمريكي تاريخيًا بالقدرة على الوصول إلى أسواق كبيرة، فكلما توسعت الأسواق، ازدادت فرص التجريب والإنتاج الواسع، ما يؤدي إلى تقليل التكلفة وتعزيز الجودة، لعبت الولايات المتحدة دورًا رياديًا في هذا المجال، لكن السياسات الحمائية التي فرضتها إدارة ترامب أضرت بقدرة البلاد على الاستفادة من هذه الأسواق.
وأدّت زيادة الرسوم الجمركية واختناق سلاسل التوريد إلى ارتفاع كلفة تقنيات الطاقة الشمسية، رغم أنها كانت تُعدّ الأرخص لتوليد الكهرباء، ورغم مساعي الحكومة لتحفيز الإنتاج المحلي، ظلّت نحو 80% من معدات الطاقة الشمسية في أمريكا تُستورد من الخارج، خصوصًا من الصين، حتى عام 2023.
وتسببت الاضطرابات السياسية في إلغاء أو تأجيل مشاريع طاقة استراتيجية، ففي أبريل، أوقفت إدارة ترامب مشروعًا لطاقة الرياح كانت قد وافقت عليه ولاية نيويورك سابقًا، قبل أن تتراجع عن القرار تحت الضغط السياسي، أثار ذلك قلق المستثمرين، وأضر بمصداقية الحكومة الأمريكية في الوفاء بالتزاماتها.
البيئة السياسية والاقتصادية
أثبت تاريخ الولايات المتحدة أن النجاح في مجال الابتكار لا يتحقق إلا بتكامل الجهود بين الحكومة الفيدرالية والقطاع الخاص والجامعات، واعتمد النظام الأمريكي على دعم طويل الأجل وتمويل سخي ورؤية استراتيجية، أسهمت مجتمعة في إنشاء ما يُعدّ اليوم أقوى نظام ابتكاري في العالم.
وتجاهلت إدارة ترامب هذا الواقع، وأضعفت الثقة في المؤسسات الأمريكية داخليًا وخارجيًا، وساهمت سياسات الهجرة والتمويل والرسوم في تقويض قدرة الولايات المتحدة على الحفاظ على موقعها الريادي، وبدلًا عن تقوية منظومة الابتكار، انشغلت الإدارة بمعارك سياسية وحروب اقتصادية أضرّت بالاقتصاد أكثر مما أفادته.
وأظهرت الصين في المقابل التزامًا طويل المدى بدعم قطاعات التكنولوجيا والطاقة، فاستثمرت بشكل منظم ومدروس، واستفادت من انسحاب الولايات المتحدة لتتقدّم بخطى ثابتة نحو الصدارة في مجالات عدة.
ولا يمكن لواشنطن أن تنجح في عزل الصين عن الاقتصاد العالمي، فالعالم لم يعد خاضعًا لهيمنة قطب واحد، ولم تعد الولايات المتحدة قادرة على فرض سياساتها على بقية الدول كما كانت تفعل سابقًا، بل على العكس، فإن عزل أمريكا لنفسها عن الأسواق والمواهب يُضعف قدرتها التنافسية ويفتح المجال أمام قوى أخرى لتقود الابتكار.
يتطلب الأمر اليوم من صانعي القرار الأمريكيين أن يُعيدوا النظر في السياسات المتبعة، وأن يدركوا أن الحفاظ على الريادة العالمية يبدأ من الداخل: من الجامعات، ومن المختبرات، ومن دعم المواهب والأفكار، فبدون ذلك، سيبقى الابتكار الأمريكي في خطر، وسيتحول تقدّم الصين من تهديد افتراضي إلى واقع ملموس.