تقليص الوظائف بالأمم المتحدة.. هل هي محاولة للتضييق على هيئة العدالة الدولية؟
تقليص الوظائف بالأمم المتحدة.. هل هي محاولة للتضييق على هيئة العدالة الدولية؟
في لحظة حاسمة من تاريخها الممتد على مدى ثمانية عقود، تواجه الأمم المتحدة منعطفًا خطيرًا قد يعيد رسم حدود دورها العالمي ويحدد مستقبل حضورها في النظام الدولي المتغير، ففي ظل أزمة مالية غير مسبوقة، أعلنت المنظمة الدولية عزمها تقليص نحو 20% من وظائف الأمانة العامة، ضمن خطة إصلاحية واسعة تهدف إلى خفض الميزانية العادية لعام 2026 بنسبة تتراوح بين 15% و20%.
وجاء هذا الإعلان في مذكرة داخلية اطّلعت عليها وكالة "فرانس برس"، ونُسبت إلى المراقب المالي للأمم المتحدة، تشاندرامولي راماناثان، الذي أشار إلى أن الأمين العام أنطونيو غوتيريش حدد هدفًا طموحًا لخفض الإنفاق، يشمل تقليص عدد الموظفين، لا سيما في الوظائف التي تُعد "زائدة عن الحاجة أو متداخلة أو غير ضرورية".
وتبلغ الميزانية العادية للمنظمة لعام 2025 نحو 3.72 مليار دولار، ويعمل في الأمانة العامة قرابة 35 ألف موظف موزعين على نيويورك، وجنيف، وفيينا، ونيروبي، وإذا نُفّذت خطة التخفيض، فإن أكثر من 6,900 وظيفة ستكون مهددة بدءًا من يناير 2026، مع إعطاء الأولوية لشطب الوظائف الشاغرة ثم التدرج نحو المشغولة.
تعود جذور هذه الإجراءات إلى أزمة تمويل مزمنة تصاعدت خلال عامي 2024 و2025. ففي نهاية يناير 2025، كانت الولايات المتحدة –أكبر مساهم في الميزانية بنسبة 22%– متأخرة عن سداد ما يقرب من 1.5 مليار دولار، أما الصين –ثاني أكبر مساهم بنسبة 20%– فلم تسدد التزاماتها سوى في أواخر ديسمبر 2024، ما شكّل عبئًا هائلًا على السيولة النقدية المتوفرة للأمانة العامة.
وفي مواجهة هذا الاختناق المالي، أطلق غوتيريش خطة "UN80"، تزامنًا مع الذكرى الثمانين لتأسيس المنظمة، وتهدف إلى إعادة هيكلة آليات العمل لجعلها أكثر مرونة وكفاءة، في مواجهة تحديات الحوكمة العالمية المعاصرة، مثل التغير المناخي، الأمن السيبراني، والهجرة القسرية.
لكن هذا التوجه التقشفي يثير تساؤلات حقيقية بشأن مستقبل الوظائف الأساسية للمنظمة، فالأمانة العامة تُعد العمود الفقري التنفيذي للأمم المتحدة، وهي تشرف على عمليات حفظ السلام، مراقبة حقوق الإنسان، التنسيق التنموي، والاستجابة الإنسانية للكوارث، وأي تقليص جذري في عدد موظفيها سيؤدي حتمًا إلى إبطاء الاستجابات، وتأخير إصدار التقارير، وخلل في توزيع الموارد، وتراجع في تنسيق الجهود الدولية.
فعلى سبيل المثال، تُشرف الأمم المتحدة حاليًا على أكثر من 12 بعثة لحفظ السلام تضم 87,000 عنصرًا بين جنود وشرطة وموظفين مدنيين، وتعتمد هذه البعثات على الدعم الإداري واللوجستي من الأمانة العامة، وأي تقليص في هذا الدعم قد ينعكس سلبًا على فعالية تلك البعثات، ويحدّ من قدرتها على احتواء النزاعات، خصوصًا في مالي، وجنوب السودان، وجمهورية الكونغو الديمقراطية.
ضرب لجهود حقوق الإنسان
تُهدد التخفيضات البرامج التنموية، لا سيما في الدول النامية التي تعتمد على المساعدة الفنية والإحصاءات وتحليل السياسات لتحقيق أهداف أجندة 2030، ومن شأن تراجع هذا الدعم أن يؤدي إلى بطء تنفيذ مشاريع الصحة، والتعليم، والأمن الغذائي والطاقة، مما يعمّق التفاوت العالمي.
ولا تقف التحديات عند هذا الحد.. فالمفوضية السامية لحقوق الإنسان تعتمد على الدعم التشغيلي من الأمانة العامة في مهام التوثيق والرصد والتحقيق، وأي إضعاف لهذه الوظائف سيقوض قدرة الأمم المتحدة على محاسبة منتهكي الحقوق، ويمنح بعض الأنظمة فرصة للإفلات من العقاب.
وفي عام 2024، نسّقت المنظمة مساعدات إنسانية عاجلة لأكثر من 168 مليون شخص في 45 دولة. وتدير مكاتب مثل OCHA هذه العمليات، وتعمل بالتنسيق مع مئات المنظمات الشريكة، وأي نقص في الكوادر سيُضعف قدرة الأمم المتحدة على توفير المساعدة في الوقت المناسب، ما يهدد حياة الملايين.
ويُخشى أيضًا من أن تمسّ هذه التخفيضات قطاع تمكين المرأة. فرغم أن هيئة الأمم المتحدة للمرأة لا تعتمد بالكامل على الميزانية العادية، فإن تداخلها الإداري مع الأمانة العامة يجعلها عرضة لتبعات غير مباشرة، مثل تراجع التنسيق والاستجابة.
وتشير بيانات الهيئة إلى أن أكثر من 35% من أنشطتها تُنفذ بالشراكة مع وحدات في الأمانة العامة. وأي تراجع في قدرات تلك الوحدات قد يعوق وصول البرامج إلى ملايين النساء، خصوصًا في الدول الهشة.
أما في المجال التكنولوجي، فتبدو المخاوف أكثر حدة. فمع تنامي تحديات الذكاء الاصطناعي والتهديدات السيبرانية، تحتاج الأمم المتحدة إلى فرق متخصصة لمواكبة هذا التحول. لكن عدد موظفي الأمانة العاملين في هذا المجال لا يتجاوز 500 شخص، وإن خُفض العدد بنسبة 20%، فإن فراغًا معرفيًا سينشأ قد يحدّ من قدرة المنظمة على المساهمة في وضع أطر قانونية دولية تنظم التقنيات الحديثة وتحمي الحقوق الرقمية.
وفي خضم هذه التغيرات، بدأ عدد من الخبراء في العلاقات الدولية بطرح تساؤلات مصيرية: هل ما يحدث مجرد استجابة مؤقتة لضغوط مالية؟ أم أن المنظمة بصدد تحوّل استراتيجي يُعيد تعريف دورها؟ ويرى مراقبون أن التخفيضات قد تكون مقدمة لتحويل الأمم المتحدة إلى كيان رمزي محدود الوظيفة، بدلًا من كونها فاعلًا عالميًا شاملاً.
هذا التوجّه يلقى ترحيبًا من بعض الدول التي طالما طالبت بإصلاح "بيروقراطية الأمم المتحدة"، لكنه يثير قلقًا عميقًا لدى دول الجنوب العالمي التي تخشى أن تنسحب المنظمة من مهامها في العدالة والمساواة والتنمية.
خيارات صعبة وحلول مقترحة
وفي مواجهة هذا التحدي، طُرحت مقترحات للحد من التأثير السلبي للتقليصات، أبرزها فرض غرامات مالية على الدول المتأخرة في تسديد مساهماتها، وتوسيع الشراكات مع القطاع الخاص ومؤسسات التمويل الدولية، واستخدام أدوات رقمية لأتمتة المهام الإدارية، لكنها جميعًا رهينة توافق سياسي لا يبدو سهلًا في ظل الانقسامات الجيوسياسية الراهنة.
ومع اقتراب الذكرى الثمانين لتأسيسها، تقف الأمم المتحدة عند مفترق طرق حاسم. فإما أن تنجح في تجديد بنيتها برسالة إصلاحية تضمن استمرار دورها العالمي، أو أن تنزلق تدريجيًا نحو التهميش، في عالم لا ينتظر المتخلفين عن التطور، فالمطلوب ليس مجرد تقليص النفقات، بل إعادة تعريف الهوية وتجديد الالتزام بالقيم التي تأسست عليها، العدالة، الكرامة، والتضامن الإنساني. فإما أن تبقى ضمير البشرية، أو تتحول إلى هيكل إداري بلا روح.
أزمة تُهدد دور الأمم المتحدة
قال المحلل والباحث السياسي، عامر تمام، إن قرار خفض عدد الوظائف داخل منظومة الأمم المتحدة يعكس أزمة مالية خانقة تواجه المنظمة الأممية بسبب تعثر الدول الكبرى في سداد التزاماتها المالية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة والصين، اللتين تساهمان مجتمعتين بما يقارب 40% من موازنة الأمم المتحدة. وأضاف أن هذا التعثر تسبب في عجز مالي يقدر بمليار ونصف دولار للسنة المالية الجارية، وهو ما يضعف قدرة الأمم المتحدة على القيام بمهامها الأساسية، التي أُنشئت من أجلها عقب الحرب العالمية الثانية، وفي مقدمتها حفظ السلم والأمن الدوليين، وتعزيز الدور الإنساني.
وأشار تمام، في تصريحات لـ"جسور بوست"، إلى أن الإدارة الأمريكية، وتحديدًا في عهد الرئيس دونالد ترامب، تبنت سياسة تنأى عن الالتزام الكامل بالتمويل الدولي، معتبرة أن دعم الأمم المتحدة لم يعد أولوية في أجندتها السياسية، وهو ما يتماشى مع التوجه العام للسياسة الأمريكية الراهنة التي تميل إلى الانسحاب من الالتزامات متعددة الأطراف. ويضيف تمام أن هذا التوجه لا يمثل مجرد خلاف مالي فحسب، بل يحمل أبعادًا سياسية عميقة ترتبط بإعادة تشكيل النظام الدولي، الذي كانت الأمم المتحدة أحد أعمدته منذ نشأته.
ويرى تمام أن هذا التراجع لا يؤثر فقط على الجوانب الإدارية داخل المنظمة من حيث الوظائف وإعادة الهيكلة، بل يُضعف قدرة الأمم المتحدة على القيام بمهامها الحيوية في قطاعات حيوية كالمساعدات الإنسانية، والتدخلات في حالات الطوارئ، ومواجهة الأوبئة، والنهوض بالتنمية المستدامة.
وأضاف أن تقليص عدد الموظفين ودمج الوكالات ونقلهم إلى دول بتكاليف تشغيلية أقل، ما هو إلا محاولة من الأمانة العامة لتعويض النقص والبحث عن بدائل لتقليل النفقات، لكن ذلك قد لا يكون كافيًا في ظل استمرار الأزمة دون حلول جذرية.
وأكد أن هناك مسؤولية أخلاقية وسياسية تقع على عاتق الدول الكبرى، وبخاصة الولايات المتحدة، بصفتها الممول الأول للمنظمة، داعيًا إلى تحمّل تلك الدول مسؤوليتها تجاه المجتمع الدولي، معتبرا أن استمرار الأزمة مرهون ببقاء الإدارة الأمريكية الحالية، مرجحًا أن تتحسن الأمور حال مجيء إدارة أكثر التزامًا بالعلاقات متعددة الأطراف وأكثر عقلانية في إدارتها للملفات الدولية.
وختم حديثه بالتأكيد على أن تقليص دور الأمم المتحدة في هذا التوقيت الحرج إنما هو تقليص لدور النظام الدولي ككل، مشيرًا إلى أن إعادة الثقة في هذه المنظمة العريقة يتطلب إصلاحًا داخليًا شاملاً، ومراجعة دقيقة لآليات التمويل والإنفاق، وتضامنًا دوليًا حقيقيًا لإعادة التوازن لدورها العالمي.
أزمة تمويل مفتعلة
قال أستاذ القانون الدولي، الدكتور مجيد بودن، إن ما تمرّ به منظمة الأمم المتحدة من أزمة مالية ليس حدثاً جديداً في تاريخها، بل تكرار لحلقات سابقة واجهت فيها المنظمة تحديات تمويلية دفعتها إلى تقليص عدد كبير من الوظائف ضمن الأمانة العامة وأجزاء أخرى من هيكلها الإداري.
ويُعزى هذا الوضع، بحسب ما قال بودن، في تصريحات لـ"جسور بوست"، إلى سببين رئيسيين: أولهما تراجع التمويلات القادمة من الدول الأعضاء، وثانيهما الحاجة الموضوعية لترشيد الإنفاق في العديد من المجالات غير الحيوية، خاصة في البنية الإدارية الثقيلة التي تُثقل كاهل المنظمة دون عائد فعلي على مهامها الجوهرية.
وأشار إلى أن الانسحاب الأمريكي من عدد من المنظمات الأممية، خلال فترة إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، مثل منظمة الصحة العالمية ومنظمة التجارة العالمية، وكذلك منظمة اليونسكو، قد شكّل ضربة مالية قاسية، إذ تُعد الولايات المتحدة من أكبر الممولين لنظام الأمم المتحدة، وقد أثّر هذا الانسحاب بشكل مباشر في هيكل التمويل العام للمنظمة، مما دفعها نحو تقليص الميزانيات، وهو ما انعكس بدوره على تقليص الوظائف، وتسريح أعداد من الموظفين في قطاعات مختلفة.
وأكد أن معالجة هذا الوضع لا ينبغي أن تقتصر على خفض النفقات، بل يجب أن تنطلق من إعادة هيكلة عميقة وفق معايير الحوكمة الرشيدة، بحيث تُفرَز المهام الحيوية من الثانوية، فثمة وظائف إدارية متضخمة وغير ضرورية، في حين تُعد مجالات مثل حفظ السلم الدولي، والتغذية، والتعليم، والصحة، والتكنولوجيا، شديدة الأهمية ولا غنى عنها في صميم عمل المنظمة، ويجب أن تُحصّن من التخفيضات العشوائية.
ولفت إلى أن مواجهة التحديات العالمية كصناعة اللقاحات، والأوبئة، والإرهاب، تتطلب تمويلاً موجهاً وشفافاً، وليس إنفاقاً يُهدر في النفقات البيروقراطية والرواتب الباهظة أو المحاضرات غير المجدية. كما نوه إلى أن هناك تقارير دولية تؤكد ضرورة إصلاح النظام الأممي، حيث إن كثيراً من المساعدات لا تصل بشكل مباشر إلى من يحتاجونها، كالشعب الفلسطيني أو أقلية الروهينغا، بل تُهدر في التعقيدات الإدارية، ما يفرغ العمل الإغاثي من محتواه الإنساني.
وأوضح أن هناك محاولات لاستبدال وكالة "الأونروا" في غزة بهيئات ذات أجندات سياسية، كوكالات أميركية إسرائيلية، ما يشكل خطراً على المدنيين ويهدد حياد العمل الإنساني. ومن هنا، يؤكد بودن ضرورة أن تستعيد الأمم المتحدة دورها المحوري، وتعود إلى الالتزام بمبادئها التأسيسية، عبر مراجعات استراتيجية تُعيد ترتيب أولوياتها وتضمن شراء المواد والخدمات بأسعار منافسة، وليس من مزودين يفرضون أثماناً باهظة بلا مبرر.
وختم بودن بأن الأمم المتحدة، إن لم تُصلح سياساتها التمويلية والإنفاقية في القريب، فإن خدماتها الأساسية ستتراجع، ويزداد العجز في قطاعات حساسة كالتلقيح ومواجهة الأوبئة ودعم الاستقرار العالمي لذلك، فإن الحوكمة الرشيدة والشفافية باتت ليست مجرد خيار، بل ضرورة لبقاء المنظمة فاعلة وذات جدوى في عالم مضطرب تتزايد فيه الأزمات والاحتياجات الإنسانية يوماً بعد يوم.