43 عاماً خلف القضبان.. الططري يخرج حيّاً من مقبرة الأحياء باحثاً عن العدالة

43 عاماً خلف القضبان.. الططري يخرج حيّاً من مقبرة الأحياء باحثاً عن العدالة
سوريون يرفعون علم بلادهم

 

 

لم يحلم حتى في أكثر أحلام يقظته تفاؤلًا أن ينهار نظام الأسد، ويخرج من زنزانته حيًّا، رغيد الططري، الذي كان طيارًا شابًا في سلاح الجو السوري، خرج أخيرًا من السجن بعد 43 عامًا من الاعتقال، ليحمل لقب أطول سجين سياسي في تاريخ سوريا وربما الشرق الأوسط.

لكن هذا الرجل الذي دخل السجن شابًا وخرج منه كهلاً، لا يحمل في قلبه سوى مطلب واحد: العدالة، لا الانتقام، وفق فرانس برس.

اعتُقل شابًا.. وخرج كهلاً

كان الططري في السادسة والعشرين من عمره حين اعتقل عام 1981، على خلفية اتهامات بالتخابر مع جهات أجنبية، وهي تهم وصفها بالمفبركة، ومحاكمة ميدانية قضت بسجنه مدى الحياة.

منذ لحظة اعتقاله، دخل دوامة التنقل بين أسوأ السجون السورية، من صيدنايا إلى تدمر، ومن ثم السويداء وطرطوس، لم يرَ الحرية إلا بعد أن فرّ بشار الأسد إلى موسكو في ديسمبر 2024، تاركًا خلفه نظامًا مهترئًا وعشرات آلاف الضحايا خلف القضبان.

رأيت الموت تحت التعذيب

يجلس اليوم الططري في شقته الصغيرة بدمشق، يقلّب صورًا له بزي الطيار، قبل أن يخطفه الاعتقال السياسي لعقود.

يقول بصوت هادئ: "رأيت الموت أكثر من مرة تحت التعذيب.. لكنني لا أبحث عن الانتقام، نريد عدالة حقيقية في سوريا، لا أن يُسجن أحد ظلمًا كما سُجنت أنا".

ويضيف: "نريد محاسبة الجناة، لا تكرار دائرة الظلم، لا نريد لسجون اليوم أن تصبح تدمرًا جديدًا لأي طرف كان".

الموت أهون من الانهيار

يصف الططري سنواته في سجن تدمر بأنها الأسوأ، فيقول: "لم يكن سجنًا، كان معتقلاً خارجًا عن كل القوانين. يمكن لحارس أن يقتلك لمجرد أنه استاء من نظرتك. كل ما قيل عن التعذيب هناك هو قليل".

ويضيف: "كنا نتمنى الموت أحيانًا، لكن الأصعب كان أن ترى زميلك ينهار ويقول ما يخالف مبادئه تحت الضغط... تلك كانت الخسارة الحقيقية".

من معتقل سياسي إلى شاهد على التاريخ

خلال سنواته خلف القضبان، تغيّر وجه العالم، وسقطت جدران، وانهارت دول، لكنه لم يعلم بانهيار جدار برلين إلا عام 1993، من سجين آخر أدخل مستشفى السجن.

وفي إحدى محطات سجنه بسجن السويداء، دفع الططري مبلغًا ماليًا ليُنقل إلى هناك، وتمكن من إدخال هاتف جوال أخفاه في حفرة داخل الزنزانة، "كان الجوال هو نافذتي إلى الحياة، إلى ابني، إلى خبر صغير يمنحني أملاً".

لكن حين كُشف أمره، نُقل إلى سجن طرطوس، حيث بقي حتى سقوط النظام وفتح الأبواب أخيرًا.

لقاء متأخر وفراق دون وداع

يوم اعتقل الططري، كانت زوجته حاملًا. مرّت سنوات طويلة وهو في عداد المفقودين. لم تعلم عائلته أنه حيّ إلا بعد 17 عامًا، حين دفعت رشى للحصول على إثبات بوجوده.

في عام 1997، التقى بابنه للمرة الأولى، كان الشاب في السادسة عشرة، واللقاء من خلف القضبان وبحضور الأمن، يقول الططري: "كنت خائفًا من اللقاء، بعد 15 دقيقة فقط، أنهيت الزيارة، لم أستطع تحمّل ألم المسافة".

توفيت زوجته قبل خروجه، وابنه غادر البلاد مع بداية الثورة، بعد تلقيه تهديدات.

رسم.. وهروب داخلي

خلال سنوات سجنه، لجأ الططري إلى الرسم، كانت تلك طريقته للهروب النفسي من قسوة الجدران.

يقول: "كنت أخرج من السجن بتفكيري، بأحلام يقظة صنعتها بنفسي" مضيفا "حتى في أكثر أحلامي جرأة، لم أتخيل أن ينهار النظام فجأة، بهذه السرعة".

رغيد الططري يُعتبر شاهدًا حيًا على تاريخ من القمع السياسي في سوريا، وقد سلّطت قضيته الضوء مجددًا على ممارسات النظام السوري في ملف الاعتقال التعسفي والتعذيب والاختفاء القسري، وتُقدّر منظمات حقوقية أن أكثر من مليوني سوري مرّوا بتجربة الاعتقال منذ حكم عائلة الأسد، في ظل انعدام الشفافية والمحاسبة، وسط مطالب متزايدة بتحقيق العدالة الانتقالية.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية