مجازر متواصلة وصمت دولي.. إسرائيل تستغل انشغال العالم بإيران لتكثيف قصف غزة

مجازر متواصلة وصمت دولي.. إسرائيل تستغل انشغال العالم بإيران لتكثيف قصف غزة
دمار في غزة - أرشيف

بينما تنشغل عدسات العالم ومراكز قراراته بوميض الحرب بين إسرائيل وإيران، وعلى وقع التحليلات المتسارعة حول اتساع رقعة الاشتباك في الإقليم، تتحرك آلة الحرب الإسرائيلية في غزة بلا توقف، وكأنها في سباق مع الزمن، لتسجيل أكبر قدر من الأذى قبل أن تنقشع غمامة الاهتمام العالمي المؤقت. 

وفي الوقت الذي تستنفر فيه إسرائيل قواتها على الجبهة الشمالية وتستعد لاحتمالات التصعيد مع طهران وحلفائها، لم توقف لوهلة ضرباتها الجوية والمدفعية التي تستهدف ما تبقى من حياة في قطاع غزة.

ومنذ 13 مايو الماضي، تُسجل غزة فصولاً متتالية من التصعيد الدموي، وسط صمت دولي مطبق وانشغال عربي بالملفات الإقليمية الساخنة. لم يشفع للمدنيين الفلسطينيين أنهم كانوا يقفون في طوابير طويلة بانتظار فتات مساعدات، ولم تعفهم الحاجة من استهداف مباشر بالصواريخ الإسرائيلية، كما حدث في مجزرة حي الشيخ ناصر شرق مدينة خان يونس، والتي راح ضحيتها 51 مدنيًا وأصيب أكثر من 200، من بينهم 20 في حالة حرجة، بحسب وزارة الصحة الفلسطينية في غزة.

ليست مجزرة الشيخ ناصر حدثًا استثنائيًا، بل واحدة من حلقات متكررة في مسلسل الموت الممتد من أقصى شمال غزة حتى جنوبها. في الفترة بين 13 مايو و17 يونيو، وثقت وزارة الصحة مقتل ما لا يقل عن 986 مدنيًا، بينهم 197 طفلًا و132 امرأة، في عمليات قصف استهدفت منازل وملاجئ ومدارس ومراكز إيواء ومناطق انتظار مساعدات. 

وفي 13 مايو، استُهدف مستشفى "أوروبا" في خان يونس، وأسفر الهجوم عن 28 شهيدًا و40 جريحًا. في 19 مايو، تعرّض مجمع ناصر لقصف ثانٍ خلّف 136 قتيلاً. يوم 26 مايو، سقط 36 شهيدًا في قصف طال مدرسة "الجرجاوي" وسط تجمع كبير للنازحين، بينهم 18 طفلاً.

مناطق غير صالحة للسكن 

تقرير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) الصادر منتصف يونيو، كشف أن 82% من مساحة قطاع غزة أصبحت غير صالحة للسكن أو مناطق اشتباك نشطة. ووفق بيانات من منظمة "أنقذوا الأطفال"، فإن أكثر من 2,700 طفل دون سن الخامسة يعانون من سوء تغذية حاد، ويواجه 92% من سكان القطاع انعدامًا تامًا للأمن الغذائي.

وفيما تتوالى مشاهد الدمار، لا تخرج أروقة المجتمع الدولي سوى ببيانات "القلق العميق" التي سرعان ما تختفي بين سطور البيانات الدبلوماسية. إسرائيل، رغم ما تعانيه داخليًا من نزوح وخوف جراء التهديد الإيراني، تصرّ على إبقاء غزة في حالة اشتعال دائم، ضمن استراتيجية مزدوجة: رسالة ردع لخصومها، وتأكيد داخلي للسيطرة وسط مشهد سياسي وأمني مرتبك. هذا الإصرار يتجلّى في استمرار القصف، بلا هوادة، وكأن استنزاف القطاع الغارق في الدماء بات هدفًا استراتيجيًا بحد ذاته.

وفي هذا السياق، يُنظر إلى الحرب على غزة كوسيلة لتحويل الأنظار عن جبهات أخرى مشتعلة، ولتوظيف حالة الحرب الإقليمية الدائرة في إخفاء ما يجري من جرائم ممنهجة بحق سكان القطاع. ومع انشغال الصحف العالمية بتطورات المواجهة مع إيران، تمر المجازر اليومية في غزة إلى هوامش التغطية الإعلامية الدولية، إذا ذُكرت.

بين 13 و17 يونيو وحدها، قُتل أكثر من 241 فلسطينيًا وأُصيب 410 بجراح متفاوتة، بينهم 67 طفلًا و41 امرأة، حسب تقارير وزارة الصحة. هذه الأرقام، المتسارعة والموجعة، لا تكشف حجم الكارثة فقط، بل تفضح المنظومة الدولية العاجزة عن وقف دوامة الموت، أو حتى حماية أولئك الذين لا ذنب لهم سوى أنهم على الجانب الخاطئ من الجغرافيا.

ويتجلى عجز المجتمع الدولي في أوضح صوره، حيث لم تتمكن الأمم المتحدة من فرض وقف لإطلاق النار، ولا تأمين ممرات إنسانية آمنة. واكتفت معظم الحكومات الغربية ببيانات تنديد باهتة، فيما تواصل الولايات المتحدة استخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لعرقلة أي قرار يدين إسرائيل، ما يُبقي يدها مطلقة في استهداف المدنيين دون محاسبة.

وتشكل انتهاكات إسرائيل في غزة، وفق نصوص القانون الدولي الإنساني، جرائم حرب. اتفاقية جنيف الرابعة تنص بشكل واضح على حماية المدنيين في زمن النزاعات، وتُجرّم استهداف المنشآت الصحية ومراكز الإيواء. المادة 18 من الاتفاقية تؤكد حق المدنيين في الحصول على المساعدات الإنسانية دون عرقلة، ومع ذلك، لم تُفتح أي تحقيقات جادة حتى الآن، رغم مناشدات منظمات مثل "العفو الدولية" و"هيومن رايتس ووتش".

وفي قلب هذا الخراب، ترتفع صرخة أخلاقية لا يمكن كبتها: إلى متى سيبقى الدم الفلسطيني مادةً ثانوية في نشرات الأخبار؟ إلى متى ستُمنح دولة تصف نفسها بالديمقراطية حصانة دائمة لارتكاب المجازر؟ إسرائيل، وفق سلوكها الحالي، حوّلت غزة إلى حقل تجارب لسلاحها، ومسرحًا لتصفية حساباتها السياسية، ومرآة تُصدّر من خلالها أزماتها الداخلية.

نتنياهو يهرب من أزماته

قال الدكتور أحمد فؤاد أنور، أستاذ العبريّات بجامعة الإسكندرية والخبير المتخصص في ملف الصراع العربي الإسرائيلي، إن استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد قطاع غزة، في الوقت الذي تشهد فيه المنطقة تصعيدًا حادًا مع إيران، يكشف عن إفلاس استراتيجي واضح لدى حكومة الاحتلال، ويؤكد أن أهدافها من العملية في غزة لم تتحقق حتى الآن. 

وأضاف أنور في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن استغلال إسرائيل لانشغال العالم بالتوتر الإيراني لتكثيف عدوانها على غزة، بعيدًا عن عدسات الإعلام واهتمام وكالات الأنباء، هو سلوك ممنهج لتغطية فشل سياسي وعسكري داخلي، ومحاولة لصرف الأنظار عن أزمات متفاقمة تعصف بالداخل الإسرائيلي.

وأشار إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يتبع نهجًا خطيرًا، إذ يسعى إلى توظيف التصعيد الإقليمي كغطاء لمواصلة سياساته العدوانية ضد الفلسطينيين، لا سيما في قطاع غزة، دون الالتفات إلى الانقسام الداخلي المتصاعد أو الضغوط الدولية المتزايدة، موضحا أن نتنياهو يدفع "ثمنًا باهظًا" مقابل طموحه للبقاء في السلطة، وهو طموح يعلو –من وجهة نظره– فوق كل اعتبار إنساني أو أخلاقي أو سياسي، حتى لو كان ذلك على حساب أرواح المدنيين، وتفجير المنطقة برمّتها.

وأكد الدكتور أنور أن هدف نتنياهو من وراء هذه العمليات لم يتغير: السيطرة على مزيد من الأرض، ودفع الفلسطينيين إلى التهجير القسري، وهو نهج يتكرر تاريخيًا، لكنه يكتسب الآن طابعًا أكثر شراسة، في ظل غطاء إقليمي ودولي هش، يسمح بارتكاب الجرائم تحت ذرائع واهية. وأضاف أن ما يحدث في غزة حاليًا هو استمرار لنهج سياسي يعتمد على الإنكار والمراوغة والتصعيد، وليس على الحلول الواقعية أو احترام القانون الدولي.

وأوضح أن إسرائيل، رغم تعرضها لهجوم إيراني واسع النطاق، لم تُوقِف عملياتها ضد غزة، ما يكشف عن اختلال في ترتيب الأولويات الأمنية، ومحاولة للهروب إلى الأمام بدلاً من مواجهة الإخفاقات المتراكمة، وعلى رأسها فشل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية في صد الضربات الإيرانية، وكذلك عجزها عن استعادة الأسرى المحتجزين لدى فصائل المقاومة في غزة.

وختم الدكتور أحمد فؤاد أنور تصريحه بالتأكيد على أن المسؤولية تقع الآن على عاتق المجتمع الدولي الذي لا يمكنه الاستمرار في إدارة الظهر لهذه المأساة، مشيرًا إلى أن الوقت قد حان لاتخاذ موقف أكثر صرامة، ومحاسبة الاحتلال على جرائمه المستمرة، والتي لم تتوقف منذ ما يقرب من عشرين شهرًا.

إسرائيل تستغل التصعيد الإقليمي

قالت الباحثة في الشأن العبري، الدكتورة إيمان بخيت، إنّ استمرار إسرائيل في عدوانها على قطاع غزة، على الرغم من اشتعال جبهة المواجهة المباشرة مع إيران، يكشف بوضوح جوهر العقيدة السياسية والعسكرية التي تتبناها الحكومة الإسرائيلية، والتي لا ترى في الدم الفلسطيني سوى أداة لمراكمة مكاسب استراتيجية، ولا في الانشغال الدولي سوى فرصة سانحة لإكمال مشروعها الاستيطاني والإحلالي الذي يتخذ من التهجير القسري وسيلة ومن الإبادة وسيلة ضغط.

وأوضحت الدكتورة إيمان، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن ما شهده الداخل الإسرائيلي من ضربة إيرانية واسعة غير مسبوقة، والتي وُصفت بأنها الأعنف في تاريخ المواجهة بين الجانبين، لم يثنِ إسرائيل عن مواصلة قصفها المتواصل على قطاع غزة، بل إن وتيرة الضربات على القطاع زادت خلال الفترة ذاتها، وكأن الجيش الإسرائيلي يسابق الزمن ليُراكم المزيد من الخراب والموت في غزة، مستغلاً انشغال المجتمع الدولي بوميض الحرب الإقليمية وتراشق الصواريخ ما بين تل أبيب وطهران.

وترى الباحثة أن هذا التوقيت ليس عشوائيًا، بل محسوبًا بدقة ضمن استراتيجية إسرائيلية أوسع تُدار منذ بدء العدوان على غزة، وتتمثل في مسعى واضح نحو إفراغ القطاع من سكانه وإسقاط القضية الفلسطينية من الوعي الدولي. وأضافت أن إسرائيل لم تُخفِ يومًا نيتها بفرض التهجير القسري على من تبقى من سكان غزة، وأن ما يُمارس اليوم من قصف عشوائي وممنهج، ومنع إدخال المساعدات، واستهداف متعمد لطوابير الإغاثة، يدخل جميعه ضمن هذا الإطار المخطط مسبقًا.

وأكدت بخيت، على أن هذه الحرب الوحشية لم تكن يوماً موجهة ضد فصيل أو تنظيم مسلح فحسب، بل هي حرب إبادة ضد شعب أعزل، يعاني من الجوع والمرض والتشريد، فيما تصر إسرائيل على أن لا مخرج من هذه الدائرة سوى بإجبار السكان على الرحيل من أرضهم، مشيرة إلى أن هذا الهدف، أي التهجير القسري، هو بمثابة الركيزة التي بُنيت عليها مجمل السياسات الإسرائيلية تجاه غزة، ويشكل حجر الزاوية في العقلية السياسية لقيادة الاحتلال، وهو ما يفسر لماذا لم تتوقف إسرائيل لحظة عن عدوانها.

وبيّنت بخيت أن حكومة نتنياهو تواجه أزمة ثقة حادة، ليس فقط من قِبل المجتمع الدولي، بل أيضًا من أهالي المحتجزين الإسرائيليين الذين باتوا يرفعون الصوت بأن الحكومة تخلّت عن أبنائهم، وأنها باتت أسيرة حسابات سياسية وشخصية لا تُعير اهتمامًا لحياة أولئك الأسرى أو لمصيرهم. وفي الوقت نفسه، تستمر إسرائيل في تجاهل المطالبات الدولية المتكررة بوقف إطلاق النار وفتح ممرات إنسانية آمنة. فقد بات من الواضح أن إسرائيل تمضي في طريقها غير آبهة بكل القرارات الأممية والمواقف الحقوقية، وتتعامل معها باعتبارها أصواتًا هامشية لا وزن لها أمام المصلحة السياسية والأمنية لحكومتها.

وذهبت إلى أبعد من ذلك حين ربطت بين إصرار رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو على إطالة أمد الحرب، وبين مصلحته الشخصية في البقاء السياسي وتجنب الملاحقة القضائية، إذ ترى أن نهاية الحرب، بما ستحمله من محاسبة وتقييمات داخلية، قد تكون بمثابة نهاية لمستقبل نتنياهو السياسي، إن لم تكن بوابة لدخوله السجن نتيجة القضايا العديدة التي تنتظره، ولهذا، فإن إطالة أمد الحرب ليست مجرد خيار عسكري أو سياسي، بل وسيلة بقاء شخصي لرئيس وزراء يتشبث بالسلطة وسط بحيرة من الدماء، غير عابئ بما تُخلفه سياساته من دمار في غزة أو من شرخ عميق داخل مجتمعه.

 

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية