شاحنات الموت على دروب الخبز.. عاملات الفلاحة في تونس كفاحٌ يتجاوز الصمت

شاحنات الموت على دروب الخبز.. عاملات الفلاحة في تونس كفاحٌ يتجاوز الصمت

تونس الخضراء، أرضٌ تتجدد فيها الحياة مع كل زرع تُلقيه الأيادي، لكنها تخفي خلف سنابلها الذهبية حكايات نساء عاملات ينسجن من ألم الواقع خيوط الصمود، إنهن بطلات صامتات يواجهن قسوة الطبيعة وجور البشر، في عالم تتشابك فيه المشاكل التنموية، الاقتصادية، والاجتماعية مع العنف المستفحل ضد النساء، لا سيما في الأوساط الريفية. 

الحوادث المتكررة التي يتعرضن لها ليست مجرد أرقام عابرة تُلقى على مسامعنا في نشرات الأخبار، بل هي صرخات مؤلمة لنساء حقيقيات، من لحم ودم، يدفعن ثمن التهميش بكرامتهن المهدرة، وصحتهن المهددة، وحتى براءة طفولة أبنائهن المسلوبة.

مأساة تتكرر فصولها يومياً، بعيداً عن الأضواء، في حقول تتراقص فيها سنابل القمح على أنغام أحلام مؤجلة وآمال مكسورة، كان أحدثها الواقعة التي شهدناها مَطلع يونيو 2025 وراح ضحيتها 15 سيدة “عاملة ريفية”، واهتز لها الرأي العام لم تكن سوى رقماً جديداً يُضاف إلى سجل طويل من المآسي. 

ويشهد على ذلك ما أعلنه المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، حيث تم توثيق 88 حادث نقل عشوائي للعاملات الفلاحيات منذ عام 2015، أسفرت عن 65 وفاة ونحو ألف جريحة. 

هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات، بل هي صدى لصرخات نساء يركبن يومياً "شاحنات الموت" بحثاً عن لقمة العيش، مُعرضات حياتهن للخطر في طرقات تفتقر للأمان، على متن وسائل نقل بدائية لا تليق بآدمية الإنسان، عبارة عن سيارات قديمة ومتهالكة، غالبًا ما تكون مُعدّة لنقل البضائع أو الحيوانات، تُكدس فيها النساء بأعداد تفوق طاقتها الاستيعابية، في رحلة يومية محفوفة بالأخطار نحو المجهول.

تحديات العمل الفلاحي

وسط هذه المعاناة، تقف أسمهان العمري، 42 عاماً وهي سيدة تونسية مكافحة وأم لستة أطفال، شاهدة حية وناطقة على قسوة الحياة الريفية وتحديات العمل الفلاحي. 

تروي أسمهان قصتها بصوت هادئ ومؤثر، يحمل في طياته آلاف الساعات من الكد والتعب، وتتجسد في كلماتها كل ألوان المعاناة التي تعيشها المئات بل الآلاف من النساء مثلها. 

تقول أسمهان: “خدمة الفلاحة هذه، منذ أن وُلدت وأنا أرى نفسي أعمل فيها لساعات”، حقيقة مؤكدة أن عملها هذا لم يكن خياراً شخصياً أو طموحاً مهنياً، بل ضرورة مُلحة فرضتها الظروف المعيشية الصعبة، فـ"ظروف الناس في الريف تجعلنا نحتاج العمل بشدة". 

وتُضيف بصوت يحمل الألم والمعرفة الدقيقة بالواقع: "هل تعلموا لماذا نعمل في الفلاحة؟ لأن ظروف الناس في الريف تجعلنا بحاجة ماسة للعمل، لأننا لا نستطيع توفير مصاريف الدراسة، والملابس، والأكل بالكامل. فنضطر في العطل للخروج والعمل معاً لنستطيع توفير هذه الحاجات".. هذه الكلمات تُلقي الضوء على أن العمل في الفلاحة بالنسبة لهن ليس وظيفة، بل هو صراع يومي من أجل البقاء، ومن أجل توفير أبسط متطلبات الحياة لأبنائهن، من تعليم وكساء وطعام.

تُجسد قصة أسمهان مأساة عائلات بأكملها تسعى للعيش الكريم في ظروف بالغة الصعوبة. لديها ستة أبناء يدرسون، وخلال العطل المدرسية، تتحول أسرتها الصغيرة إلى فريق عمل يكافح من أجل توفير أبسط مقومات الحياة التي يحلم بها أي طفل. 

تقول أسمهان بمرارة وحزم: " لدي ستة أبناء يدرسون، وكل عطلة، ثلاثة أشهر، لا نستمتع بالبحر ولا نخرج للاستجمام، لا شيء. نخرج للعمل في الفلاحة أنا وبناتي الثلاثة الكبيرات، نخرج للعمل في الفلاحة معاً لكي نستطيع عند بدء الدراسة توفير الحقائب والدفاتر والكتب". 

هذا المشهد المؤثر يُبرز كيف تُحرم الطفولة من براءتها، وتُجبر الأيادي الصغيرة على العمل الشاق بدلاً عن اللعب والدراسة. فلكل أسرة حكاية كفاح، ولكن في الريف، تكون حكاية الأم كفاحاً مُضاعفاً، وحكاية الأطفال حلماً مؤجلاً.

الكثير من أطفال العاملات الفلاحيات يُحرمون من أبسط حقوقهم في اللعب والراحة والتعليم الكامل بسبب قسوة الظروف. أسمهان لا تُخفي ألمها وهي تروي كيف اضطرت ابنتها الكبرى، ذات الـ 24 عاماً، إلى ترك دراستها بسبب الظروف القاسية التي لم تسمح لها بإكمال تعليمها: "بالنسبة لابنتي الكبرى، 24 سنة، تركت الدراسة بسبب ظروفنا القاسية، أنا الأم، تركت الدراسة وهي لم تنجح في ثلاث مواد وتوقفت عن الدراسة"، وحتى ابنتها الثانية، ذات الـ 13 عاماً، ترافقها للعمل في الحقول خلال العطل، بينما تذهب ابنتها ذات العشر سنوات أيضاً للعمل، في مشهد يدمي القلب ويُثير التساؤلات حول مستقبل هذه الأجيال. 

آلام جسدية مزمنة

تُعاني أسمهان نفسها من آلام جسدية مزمنة جراء العمل الشاق، حتى إنها سقطت من شجرة أثناء العمل وأُصيبت في ركبتها، تصف معاناتها في الحصول على العلاج بأنه كان على حسابها الخاص، دون أي مساعدة أو دعم: " سقطت أثناء العمل في مزرعة زيتون، سقطت على ركبتي، فأُصبت، لا تتوقع أن العشرين ديناراً التي أتحصل عليها في ذلك اليوم، لم تكفِ حتى لثمن الخبز، ودفعت فوقها المزيد، يعني كأني عملت بلا فائدة". 

وتُؤكد أسمهان بمرارة أنها دفعت كل مصاريف العلاج من مالها الخاص، فلم يتكفل بها صاحب الأرض أو المشغل، ولم يكن لديها أي ضمان اجتماعي أو تغطية صحية" كلها على حسابي، ذهبت للطبيب، وفحصت وتناولت دوائي واحداً تلو الآخر.. قال لي الطبيب إنني لن أرتاح أبداً،  وهذا كله رغماً عني، ومؤلم جداً، ولا أحد يشعر بك" هذه المعاناة تكشف عن قصور كبير في أنظمة الحماية الاجتماعية، وتُسلط الضوء على الهشاشة التي تعيشها هذه الفئة من العاملات، اللواتي يُتركن وحيدات في مواجهة المرض والألم دون أي سند أو دعم.

لا تتوقف معاناة أسمهان عند تجربتها الشخصية، بل تمتد لتشمل مشاهد مؤلمة لحوادث أخرى شهدتها زميلاتها في العمل. تروي أسمهان بأسف وحسرة: "في المستشفى، جاؤوا بنساء سقطن من السقالة، السقالة مكسورة وجاؤوا بهن مصابات ومسلمات لقدرهن، ولم يأتِ أحد ليتفقد السقالة المكسورة التي سقطت عليها عدة نساء وتكسرن".

وتصف حادثة وقعت "الشهر الماضي" حيث تكسرت "صرافة" (قد تعني سقالة أو منصة عمل) بسبب حمولتها الزائدة أو لكونها متهالكة، مما أدى إلى إصابة نساء، إحداهن "تكسرت ركبتها" وأصبحت لا تستطيع العمل بعد ذلك. 

شهادات من الميدان الحقوقي

قصة أسمهان ليست سوى غيض من فيض، فما خفي أعظم وأكثر إيلاماً. إن واقع العاملات الفلاحيات في تونس مُركب ومعقد، تتشابك فيه الأبعاد القانونية والاقتصادية والاجتماعية لتُشكل شبكة من التحديات تُحاصر هذه الفئة المهمشة.

رحمة العيدودي، عضوة جمعية أصوات نساء، تُقدم تحليلاً عميقاً للوضع، حيث تشير إلى أن "الإطار القانوني غير كافٍ على بعض المستويات"، وتُفسر هذا النقص الجوهري بأن القوانين الموجودة، مثل القانون عدد 51 لسنة 2019 الذي ينظم نقل العاملات في القطاع الفلاحي، والذي يعود بجذوره إلى عام 2001، " لا تُطبق" في الواقع العملي. 

ويُعزى هذا الفشل في التطبيق، بحسب العيدودي، إلى كون القانون "ليس مناسباً للواقع، لأنه لا يستشير العاملات في القطاع الفلاحي اللائي يعملن في هذا القانون"، هذه المنهجية الأحادية في صياغة التشريعات، دون إشراك الفاعلين الأساسيين وهم العاملات أنفسهن اللواتي يُعانين من الظروف على أرض الواقع، تؤدي إلى قوانين "لا يتم إشراك الفاعلين لكي يستفيدوا من القانون"، وبالتالي تصبح هذه القوانين "لا تُطبق". 

وتُعد هذه النقطة محورية في فهم أسباب استمرار المشكلة. فـجمعية أصوات النساء الحقوقية لديها قناعة راسخة بأن " النساء العاملات في القطاع الفلاحي هن اليد العاملة الأساسية في المجال"، ورغم هذه الأهمية القصوى لدورهن في الاقتصاد الوطني، فإنه "لا يوجد اعتراف بالمهنة" التي يمارسونها، ما يُفقدهن الكثير من الحقوق والامتيازات المرتبطة بالاعتراف الرسمي بالمهنة.

تُعدد العيدودي الانتهاكات والتحديات الجسيمة التي ترصدها جمعيتها، والتي لا تقتصر على النقل المأساوي الذي يُعد أبرزها، فالنقل غير الآمن، على سبيل المثال، يُشكل "أبرز تحدٍ يهدد أرواح العاملات"، حيث تُنقل النساء العاملات في شاحنات غير مجهزة لنقل البشر، وهي الشاحنات التي تُعرف شعبيًا بـ"شاحنات الموت" بسبب الظروف المروعة التي يتم نقلهن بها. 

تصف العيدودي هذا الواقع الأليم قائلة: "يركبن بثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف دينار.. النقل غير آمن ويركبن في وسط صندوق الشاحنة.. يصل العدد إلى أربعين أو خمسين امرأة يركبن مع بعضهن.. يذهبن لمسافات طويلة ويسقطن منه أو يسقطن من الشاحنات المهترئة.. وليس هناك وسيلة مهيأة لنقل البشر، إنها مهيأة لنقل البضائع والمواشي وليس للناس". 

ورغم وجود قانون صريح "يمنع نقل العاملات" بهذه الطريقة غير الآمنة والمهينة، فإن التنفيذ غائب تماماً، ما يجعلهن عُرضة مُستمرة للخطر على "طرقات غير مُجهزة" لم يتم إصلاحها أو تأهيلها منذ عقود. 

وتُؤكد العيدودي أن جمعيتها "ترصد الحوادث في القاعدة الكبيرة" لكنها لا تملك إحصاءً دقيقاً لعدد الوفيات بشكل شامل، ما يُبرز الحاجة الماسة إلى توثيق شامل ودقيق لهذه الحوادث لوضع حجم الكارثة أمام صانعي القرار.

كما تتحدث العيدودي عن "الاستغلال، سواء من حيث المال" وتصف الأجر الذي تتقاضاه العاملة بأنه غالباً ما يكون أقل بكثير مما يجب أن تحصل عليه قانونًا، فـ" الأجر المنصوص عليه في القانون يتم أخذ قليل منه لأنه ليس هناك رقابة في تطبيق القانون". هذه الفجوة الواسعة بين الأجر المستحق والأجر المدفوع تُفقد العاملات كرامتهن الاقتصادية وتُعمق فقرهن، ما يجعلهن يعشن تحت خط الفقر المدقع. وتزداد هذه المعاناة بغياب شبه كامل للحماية الاجتماعية والصحية، "فالنساء اللاتي يعملن في القطاع الفلاحي لا يملكن تغطية اجتماعية، ولا يملكن تغطية صحية"، ما يجعلهن عرضة للمرض والعجز دون أي سند أو دعم، كما يتضح بجلاء في قصة اسمهان المؤلمة التي اضطرت لبيع خبزها لتسديد تكاليف العلاج.

ولا يتوقف الأمر عند الاستغلال المادي أو التحديات الصحية، فـ"التحرش موجود بناءً على شهادات العاملات" في بيئة العمل الفلاحي، حيث ترفض العيدودي الخوض في تفاصيله الحساسة بشكل علني، لكنها تُسلط الضوء على أن "الفلاحين يرغبون في أن يعملوا النساء، يقولون أحضروا نساءً مهملات، أحضروا نساءً بسيطات.. فتحدث عمليات تحرش وعمليات عنف بسيطة، عموماً عنف مُهين وعنف اقتصادي"، هذا العنف، سواء كان تحرشاً جنسياً أو استغلالاً اقتصادياً أو إساءة لفظية، يُضاف إلى أعباء العاملات، ويُجبرن على الصمت والخضوع لتجنب فقدان مصدر رزقهن الوحيد.

أما عن الظروف الصحية القاسية، فتُشير العيدودي إلى أن العمل لساعات طويلة تحت الشمس الحارقة أو في البرد القارس دون ملابس واقية، يعرض العاملات لأمراض مزمنة وخطِرة مثل أمراض الجهاز التنفسي والجلدية وحتى السرطان على المدى الطويل، ويتعرضن لأخطار لدغات الحشرات والعقارب التي قد تكون قاتلة في ظل غياب الرعاية الصحية العاجلة. 

وتروي قصصًا مؤلمة، مثل وفاة ابنة عاملة فلاحة بسبب لسعة عقرب لعدم توفر المستشفى القريب، وأخرى سقطت من شجرة وتعرضت لمضاعفات صحية خطِرة، في دلالة واضحة على النقص الفادح في الرعاية الصحية والوقاية المهنية في الوسط الريفي.

الوضع يصل إلى حد خطِر حين تُطرد العاملات اللاتي يحاولن “استعادة صوتهن، استعادة كرامتهن.. فبمجرد أن ”تتبنى خطاباً حقوقياً وليس خطاباً استجدائياً" وتُطالب بحقوقها المشروعة، يصبحن "عنصراً مزعجاً" بالنسبة لأصحاب الأراضي، ويُطردن من عملهن، ويفقدن مصدر دخلهن، لم يعد الفلاح يقبلها، يقول لها: لا أريدك أن تنتظمي، سمعت أنك أصبحت صوتاً، أصبحت تطالبين بحقوقك.. لم يعد يعملن معها، هذا الواقع المرير يُجبر العاملات على الاختيار بين الصمت وقبول الظلم والاستغلال، أو المخاطرة بفقدان مصدر دخلهن الوحيد، ما يُعمق من دوامة الفقر والتهميش.

وفي تقييمها للإرادة السياسية، تُشير العيدودي إلى أن المبادرات القانونية مثل المرسوم الجديد للحماية الاجتماعية (المرسوم عدد 4) والمبادرات السابقة مثل "احميني" لا تزال "حبراً على ورق" لغياب الإرادة السياسية الحقيقية لتطبيقها على أرض الواقع، فحتى اليوم، لا نرى في ميزانية قانون المالية أي شيء مخصص للتنفيذ أو إرادة سياسية لتطبيقه.

وتُؤكد العيدودي أن المرأة العاملة في القطاع الفلاحي اليوم هي مجرد "مادة" تُستخدم في الحملات الانتخابية والصور الدعائية أمام الكاميرات والجمهور، ولكن " فعليًا، الواقع اليومي للعاملة الريفية في القطاع الفلاحي لم يُسكت عنه.. وما زال بعيداً عن أن يصبح أولوية" حقيقية في الأجندة الوطنية.

تُكمل السيدة حياة العطار، المكلفة بملف العاملات الفلاحيات بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، الصورة الشاملة بحديثها عن عمق المشكلة، فهي تُؤكد أن الإطار القانوني الموجود "غير كافٍ" وأن المشكلة لا تكمن في "النصوص القانونية من جهة" فقط، بل أيضًا في أن "حتى النصوص تحتاج لمزيد من الحزم والتطبيق"، فمثلاً، المرسوم الجديد للحماية الاجتماعية "يتطلب أوامر تطبيقية لأول مرة.. ويتطلب اتفاقيات موجودة يجب أن تتم.. ويتطلب ذلك قرارات وزارية". 

وتُشير العطار بمرارة إلى أنه "حتى الآن، بعد 8 شهور من إصدار المرسوم، لم يصدر أي نص آخر.. لا يوجد أي شيء حالياً يمكن أن نقول عنه إنه تفاعل أو تحقق"، ما يعني أنه "حبر على ورق وما زال لم يُنفذ".

وتُؤكد العطار أن القضية أبعد من مجرد تشريع، فهي تندرج ضمن "مشكلات هيكلية" مُتجذرة في بنية القطاع الريفي. فالقطاع الفلاحي "غير المُهيكل" هو السبب الجذري لغياب الحماية الاجتماعية، وغياب الحق النقابي، والأجر الهش، والنقل العشوائي وغير الآمن، وعدم توفر شروط الصحة والسلامة المهنية التي تُعد حقوقاً أساسية. 

وتُشدد العطار على أن "العنف موجود بكل أشكاله: العنف المادي، العنف الجنسي، العنف اللفظي"، وأن هناك حالات لـ"نساء وفتيات صغيرات وقاصرات يعملن في القطاع الفلاحي ويتعرضن لوضعيات كهذه"، هذا العنف، كما تُشير، غالباً ما يكون "مسكوتًا عنه" بسبب خوف العاملات من فقدان عملهن، نظرًا لأنهن "لَسْنَ محميات" ولا يملكن بدائل حقيقية. 

وتُوضح: "هي اليوم تعمل في قطاع يتحكم فيه سماسرة.. اليوم قد يأخذك السمسار للعمل وتكسب قوتك، وإن لم يأخذك فلن تعمل، وبالتالي ليس لديك بديل. وهذا هو السبب الذي يجعل غالبية النساء يجدن أنفسهن بلا حماية اجتماعية ولا حماية قانونية كافية، فيضطررن للتعايش مع الوضعيات التي يرينها."

وتُسلط العطار الضوء بشكل خاص على دور السماسرة السلبي والمدمر، مؤكدة أن "الانتهاكات الأساسية التي تتعرض لها العاملات تأتي من غياب الجهة المنظمة.. والشيء الثاني هو وجود السماسرة، لأن القطاع الفلاحي يتحكم فيه سماسرة"، فالسماسرة هم من ينقلون العاملات ويؤمنون لهن العمل، وهم من يتعاملون بشكل مباشر مع الفلاحين ويقومون بتسديد الأجور، وغالبًا ما يقتطعون جزءًا كبيرًا منها"، الفلاح قد يعطي 20 ديناراً للسمسار، والسمسار يعطي العاملة 15 ديناراً، يخصم تلقائياً 5 دنانير تكاليف النقل"، هذا يعني أن العاملة لا تحصل على أجرها كاملاً، ما يزيد من استغلالها ويُعمق فقرها، ويجعلها في حلقة مفرغة من العمل الشاق دون مقابل عادل.

صورة موجعة بالأدلة

تُؤكد البيانات المستقاة من تقارير حقوقية أن أزمة عاملات الفلاحة في تونس ليست مجرد انطباعات فردية أو حكايات تُروى في المجالس، بل هي ظاهرة واسعة النطاق ذات أبعاد إحصائية مقلقة تُشير إلى حجم الكارثة الإنسانية، فحوالي 92% من العاملات الفلاحيات يفتقرن للحماية الاجتماعية، وهي نسبة صادمة تُشير إلى أن الغالبية العظمى من هذه الفئة الحيوية تعمل في ظروف من الهشاشة المطلقة، دون أي شبكة أمان في حال المرض أو الإصابة أو الشيخوخة. هذا يعني أن أي حادث بسيط أو مرض عارض قد يُلقي بأسرة بأكملها في براثن الفقر المدقع والعوز الشديد.

وفيما يتعلق بالأجور، فإن نسبة كبيرة منهن يتقاضين أجوراً يومية تراوح بين 10 و15 ديناراً تونسياً في بعض المناطق، مثل القيروان، وهو أجر هزيل لا يتناسب إطلاقاً مع ساعات العمل الطويلة التي قد تصل إلى 9 ساعات أو أكثر يومياً، والجهد البدني الهائل المبذول في ظل ظروف مناخية قاسية، هذا الأجر لا يوفر لهن حياة كريمة، بل بالكاد يكفي لسد الرمق وتغطية أبسط الاحتياجات الأساسية.

أما الأخطار الصحية فتمتد لتشمل التعرض للمبيدات الحشرية دون وقاية كافية، والعمل لساعات طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة أو في البرد القارس دون ملابس واقية، ما يُعرض العاملات لأمراض مزمنة وخطِرة مثل أمراض الجهاز التنفسي والجلدية وحتى السرطان على المدى الطويل، بالإضافة إلى ذلك، يتعرضن لأخطار لدغات الحشرات والعقارب التي قد تكون قاتلة في ظل غياب الرعاية الصحية العاجلة، كما ذكرت رحمة العيدودي في شهادتها عن وفاة طفلة بسبب لسعة عقرب لعدم توفر المستشفى القريب.

نحو حماية مستدامة

تُجمع الأصوات الحقوقية التي تتحدث باسم عاملات الفلاحة على أن الإرادة السياسية "موجودة" في أروقة صنع القرار، ولكنها تفتقر إلى "التنفيذ" الفعلي و"تحويلها إلى سياسات وقوانين فعالة" على أرض الواقع. فالمقاربة الحالية غالبًا ما تكون "إدارية" أو "تشريعية" فقط، تكتفي بإصدار القوانين والمراسيم دون متابعة أو تفعيل، بينما القضية تتطلب معالجة "هيكلية" و"نظرة شاملة" تربطها بمشاكل التنمية الاقتصادية والاجتماعية المتجذرة، وتُدمج فيها مشكلة العنف المسلط على النساء كجزء لا يتجزأ من الأزمة، وضرورة إشراك جميع الأطراف المعنية، خاصة الخبراء والناس العاملين في الميدان، لضمان أن تكون "المسارات ليست أحادية" ومجرد قرارات تُفرض من الأعلى.

في سبيل ضمان حقوق النساء في القطاع الفلاحي، تُقدم السيدة حياة العطار والسيدة رحمة العيدودي، بالإضافة إلى صوت أسمهان العمري المكلوم، توصيات واضحة ومُلحّة تُشكل خارطة طريق نحو مستقبل أفضل ، حيث تُشدد العطار على أن تحسين الأجر الأدنى الفلاحي المضمون هو الأساس الذي يمكن العاملة من المطالبة بحقوق أخرى مثل النقل الآمن، والضمان الاجتماعي، والصحة، بالإضافة إلى بقية حقوقها الأخرى. فالأجر العادل والكافي ليس مجرد رقم في كشف الحساب، بل هو بوابة الكرامة والتمكين الاقتصادي الذي يسمح للمرأة بأن تعيش حياة كريمة وتوفر لأبنائها الاحتياجات الأساسية. 

وتُضيف العطار بأن الإسراع بإصدار الأوامر الترتيبية للمرسوم عدد 4 لسنة 2024 وتحويله إلى قانون أساسي هو أمر حيوي، إذ يجب أن "يتحول إلى قانون أساسي أكثر شمولية" ويُغطي جميع جوانب حياة العاملات، ويكون قانونًا تُعدى من خلاله السياسات الوطنية الشاملة، وليس مجرد نص قانوني جامد. ويجب أن تتم متابعة تطبيقه على أرض الميدان لضمان ألا يبقى "حبرًا على ورق" في الأدراج الحكومية. 

ولضمان استمرارية الحماية، تُؤكد العطار على ضرورة متابعة مصادر تمويل صندوق الحماية الاجتماعية لضمان "حماية مستدامة" وتجنب العودة إلى مشاكل التمويل والعجز التي قد "تخلق الأزمة من جديد"، ما يضمن للعاملات شبكة أمان حقيقية في مواجهة تقلبات الحياة وأخطار العمل.

أما حل مشكلة النقل العشوائي، فتُعتبره رحمة العيدودي الخطوة الأولى والأكثر إلحاحاً التي لا تحتمل التأجيل، فـ"حل مشكلة النقل هو أول شيء" وإيقاف "شاحنات الموت" التي تحصد الأرواح بشكل متواصل. 

وتُشير العيدودي إلى وجود حلول "بسيطة" و"لا تتطلب ميزانية كبيرة" لتوفير نقل آمن ومُحترم للعاملات، لكنها تحتاج فقط إلى إرادة سياسية قوية وتطبيق فعال، مع ضرورة "إشراك صاحبات الحق" في صياغة هذه الحلول وتنفيذها لضمان فعاليتها وملاءمتها للواقع المعيش.

من جانبها، تُشير حياة العطار إلى أن العاملات بدأن يتكلمن ويعبرن عن معاناتهن بفضل الدعم والتكوين الحقوقي الذي توفره الجمعيات والمنظمات المدنية، ما يمكّنهن من المطالبة بحقوقهن، هذا التفعيل لدور المجتمع المدني وتقديم الدعم القانوني والمعنوي أمر ضروري لكسر جدار الصمت والخوف الذي يواجهنه، وتشجيعهن على المطالبة بحقوقهن دون خوف من الطرد أو الانتقام. 

وتختتم رحمة العيدودي حديثها بأن النظرة إلى المرأة العاملة في القطاع الفلاحي يجب أن تتوقف عن كونها "مادة" تُستخدم في الصور الدعائية أو الحملات الانتخابية، بل يجب أن تُصبح قضيتهن أولوية وطنية حقيقية تُبنى عليها سياسات دولة واستراتيجيات تنموية شاملة "تنشأ من واقع الضيعة" وتُشرك فيهن كصاحبات حق أصيل، وتضمن لهن الكرامة والعدالة التي يستحققنها.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية