أولجا تشريفكو لـ"جسور بوست": الاستجابة الدولية غير مناسبة والاحتياجات باتت أزمة إنسانية مزمنة في غزة (حوار)
أولجا تشريفكو لـ"جسور بوست": الاستجابة الدولية غير مناسبة والاحتياجات باتت أزمة إنسانية مزمنة في غزة (حوار)
في قلب الشرق الأوسط، وعلى شريط ساحلي لا يتعدى بضعة كيلومترات، تتجسد قصة إنسانية لم يشهد لها التاريخ الحديث مثيلاً. غزة، القطاع الصغير ذو الكثافة السكانية الهائلة، بات اليوم عنواناً لأزمة إنسانية عميقة تتكشف فصولها المأساوية أمام مرأى ومسمع العالم.. تداعيات الصراع المستمر، الحصار الطويل، وتوالي الضربات، رسمت واقعاً يومياً مؤلماً لملايين البشر الذين يصارعون من أجل البقاء في ظل ظروف قاسية فاقت كل تصور.
بين أنقاض المنازل المدمرة، وصيحات الأطفال الباحثين عن بصيص أمل، تتجلى الحاجة الماسة لصوت يروي الحقيقة من قلب الحدث، لا يكتفي بنقل الأرقام والإحصائيات الجافة، بل يغوص في عمق المعاناة الإنسانية، ويكشف التحديات الجسيمة التي تواجه العاملين في مجال الإغاثة.
وفي هذا السياق، كان لقاء جسور بوست بـأولجا تشريفكو، المتحدثة باسم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) في غزة.
كشفت تشريفكو، بشهادتها من الخطوط الأمامية، عن المسؤولية التي تحملها على عاتقها لنقل الصورة الحقيقية للوضع على الأرض، وتسليط الضوء على الآثار المدمرة للأزمة على حياة المدنيين، لا سيما الفئات الأكثر ضعفاً. وقدمت محاولة لفهم أعمق لأبعاد الكارثة، واستكشاف التحديات اللوجستية والأمنية والبيروقراطية التي تعيق تدفق المساعدات الحيوية.
وقدمت رؤية شاملة للواقع المعيشي في غزة، والأثر النفسي والاجتماعي لهذه الأزمة على الأطفال والأسر، وكيف يحافظ العاملون في المجال الإنساني على بصيص الأمل والدافع في ظل هذا الدمار الهائل والموارد المحدودة.
فإلى نص الحوار:
من وجهة نظركم على الأرض.. كيف تصفين الوضع الإنساني الحالي في غزة؟
الوضع في غزة اليوم يفوق الوصف، الناس يعيشون تحت القصف والدمار منذ شهور طويلة. عندما أنظر في عيونهم، أرى فقدان الأمل، أرى قلوباً منكسرة تتساءل كيف ستنجو غداً، كثيرون مرهقون تماماً، لا يمكن لأحد أن يتخيل كيف وصلت الأمور إلى هذه الدرجة من السوء، معظم المناطق مُدمّرة تماماً، بما في ذلك البيئة والبنية التحتية وكل شيء يرتبط بالحياة. الناس لا يعرفون كيف سيستمرون، ولا ما ينتظرهم في اليوم التالي. القتال لم يتوقف، وهناك تصعيد مستمر، ويتم حشر السكان في مناطق أصغر فأصغر من غزة، ويفترش كثيرون الشوارع، ويبحث الأطفال والنساء في الأنقاض عن شيء يأكلونه أو ما يمكن استخدامه.
ما أكثر اللحظات ألماً أو التي لا تُنسى منذ بدء التصعيد في أكتوبر 2023؟
هناك لحظات يصعب نسيانها، ومن الصعب حصر الأصعب بينها. مثل أمّ تحتضن أشلاء طفلها، أو طفلين يتجولان وسط الركام بحثاً عن والدهم بعد قصف الحي الذي كانوا يسكنونه، تحدثت مع أناس لن أنساهم أبداً، رأيت أصدقائي وزملائي يتغيرون، يصبحون أكثر حزناً وألماً يوماً بعد يوم، بعضهم لم أعد أتعرف عليهم، لأنهم فقدوا الأمل، لأنهم ببساطة لا يعرفون كيف سيوفرون الطعام لعائلاتهم.
ما هي أبرز العوائق أمام إيصال المساعدات؟ هل المشكلة في الوصول أم الأمن أم البيروقراطية؟
كل هذه العوامل مجتمعة، هناك قيود مفروضة على نوع المساعدات التي يُسمح بدخولها، حتى عندما ننجح بإدخال بعض المساعدات، نُضطر إلى التنقل بين نقاط تفتيش متعددة، وتستغرق بعض المهام أكثر من يومين لإنجازها، وقد تفشل أحياناً، الوضع على الأرض هش، ويصعب التنبؤ به. بعض الإمدادات مثل الوقود والأكسجين لم تدخل منذ أكثر من أربعة أشهر، وهذا أدى إلى إغلاق أقسام حيوية مثل عمليات غسيل الكلى في مستشفى الشفاء. إذا لم يتم إدخال هذه الإمدادات خلال الأيام القادمة، سنشهد انهياراً تاماً في قطاعات إضافية، بما فيها البنى التحتية الأساسية.
كيف أثّرت القيود في قدرة الوكالات الإنسانية على التعامل مع الأزمة؟
القيود الإدارية والتقنية والخاصة بالحركة تضعف استجابتنا يوماً بعد يوم. نحن لا نعاني فقط من نقص المواد، بل أيضًا من التأخير في التنقل، من تراجع الحالة الأمنية، من عدم القدرة على ضمان وصول المعدات والكوادر، بعض المعدات الطبية الأساسية، مثل قطع غيار أنابيب المياه وأجهزة توليد الطاقة، أصبحت نادرة، ونحن مضطرون للعمل في مناطق تعاني من نقص شديد حتى في المضادات الحيوية.
هل تعتقدين أن المجتمع الدولي قدّم ما يكفي مقارنة بحجم الأزمة؟
لا، الاستجابة لم تكن كافية، نحن نناشد المجتمع الدولي باستمرار، وخاصة أولئك الذين لديهم القدرة على اتخاذ القرار، للضغط نحو تطبيق القانون الدولي الإنساني وتيسير العمل الإغاثي، ولكن للأسف، لا تزال الفجوة كبيرة جدًا بين الحاجة والواقع.
ما الفرق بين الاحتياجات الحالية وغيرها في الأيام أو الأسابيع الأولى من النزاع؟
الفرق هائل.. في البداية، كان المتأثرون بالأزمة أقل عدداً، واليوم، نحن نتحدث عن مجتمع كامل، أكثر من مليوني شخص يحتاجون للمساعدة، ولم أعمل في مكان من قبل حيث جميع الناس -كل فرد في المجتمع- بحاجة للمساعدة. وهذا يجعل مهمتنا أكثر صعوبة بكثير.
ما أكثر ما تخشونه حالياً.. هل هي المجاعة؟ الأمراض؟ أم النزوح؟
نخاف كل ذلك، ولكن الخوف الأكبر أن يواصل الوضع الانهيار، أقل من 17% من أراضي غزة صالحة حالياً لسكن المدنيين، والبقية غير آمنة، نخشى من تفشي الأمراض والمجاعة، ونخشى من أن يصبح الوضع الصحي والتعليمي والاجتماعي غير قابل للترميم لسنوات قادمة، خصوصاً مع تضرر الأطفال بشكل مباشر ومستمر.
ما حجم الأثر النفسي في الأطفال والعائلات؟
الأثر النفسي عميق، الأطفال فقدوا أهلهم، أو باتوا يتحملون مسؤوليات كبيرة بسبب فقدان المعيل، بعض الأطفال مسؤولون عن إخوتهم، عن رعاية مرضى، أو حتى عن تدبير الطعام، هذا سيترك أثراً طويل المدى على شخصياتهم، على تعليمهم، وعلى فرصهم في الحياة.
كيف تحافظون على الأمل والدافع وسط هذا الواقع؟
لأننا نعرف أن وجودنا هنا هو دعم حقيقي، نحن نحاول بكل ما نستطيع أن نظل موجودين، لأن الناس يحتاجون لمن يبقى معهم، من يقدّم لهم الدعم. ربما لا نستطيع أن نغيّر كل شيء، ولكن وجودنا هنا يبعث على الأمل. وكما يقولون: الأمل هو آخر ما يموت.
إذا كان بإمكانك توجيه رسالة واحدة عاجلة للعالم.. ماذا ستكون؟
دعونا نعمل، لدينا الخطط، والقدرة، والموارد التي تنتظر على الجانب الآخر من الحدود، نحتاج فقط إلى السماح بدخول هذه المساعدات، ليس فقط الطعام، بل أيضاً الأدوية، الوقود، المياه، ومستلزمات الحياة الأساسية، نحتاج إلى وقف إطلاق النار، إلى توفير الحماية للمدنيين، إلى تسهيل وصول المساعدات دون تأخير، نحن مستعدون للعمل بكفاءة كما فعلنا في استجابات سابقة، ومستعدون لإنقاذ الأرواح ومنع المزيد من الموت والمعاناة.