إلغاء تجميد تسريح موظفين.. انتصار للسلطة أم تهديد لاستقرار الخدمة المدنية الأمريكية؟
إلغاء تجميد تسريح موظفين.. انتصار للسلطة أم تهديد لاستقرار الخدمة المدنية الأمريكية؟
في خطوة أثارت جدلًا واسعًا داخل الأوساط السياسية والقانونية، ألغت المحكمة الأمريكية العليا يوم الثلاثاء قرارًا صادرًا عن محكمة أدنى كان قد قضى بتجميد تنفيذ خطة إدارة الرئيس دونالد ترامب لتقليص عدد الموظفين الفيدراليين عبر تسريحات جماعية تشمل آلاف العاملين في الوكالات الحكومية.
القرار الذي جاء من أعلى سلطة قضائية في البلاد يُنظر إليه باعتباره انتصارًا لنهج ترامب الإداري الساعي إلى تقليص ما يسميه "العمق البيروقراطي للدولة"، لكنه في المقابل أعاد إشعال المخاوف من تداعيات محتملة على استقرار الوظائف العامة وكفاءة مؤسسات الدولة الفيدرالية.
ومنذ وصوله إلى البيت الأبيض في ولايته الأولى عام 2017، طرح الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، رؤية متشددة لتقليص حجم الحكومة الفيدرالية، ضمن ما وصفه بـ"تجفيف المستنقع" في واشنطن، وقد اعتبر ترامب أن الجهاز البيروقراطي الفيدرالي مترهّل، ويعوق سرعة اتخاذ القرار، ويكلف الدولة أعباءً مالية كبيرة، كما يُتهم -حسب فريقه- بإيواء عناصر مقاومة لسياسات الرئيس داخل ما يُعرف بـ"الدولة العميقة".
وتجلّت هذه الرؤية في عدد من الإجراءات أبرزها: تجميد التوظيف الفيدرالي في بداية ولايته الأولى، واقتراح تقليص أو إلغاء عشرات البرامج الحكومية، خصوصًا في مجالات البيئة والتنمية والمساعدات الخارجية، وكذلك السعي لإصلاحات إدارية تشمل تسريح جماعي لموظفين من وكالات فيدرالية، كوزارة التعليم، ووزارة الطاقة، والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID).
وجدّد ترامب التعليمات لوكالات الدولة بإعداد خطط لتقليص عدد الموظفين، في إطار ما يُعرف بـ"جدولة الموظفين في الخدمة المؤقتة"، وهو ما أثار اعتراضات قانونية، استندت إلى أن هذه الخطط تحتاج موافقة الكونغرس.
2.2 مليون موظف
بحسب بيانات مكتب إدارة شؤون الموظفين الفيدراليين (OPM) لعام 2024: يبلغ عدد الموظفين المدنيين في الحكومة الفيدرالية الأمريكية نحو 2.2 مليون موظف، يُضاف إليهم أكثر من 1.4 مليون عسكري (يخضعون لوزارة الدفاع، ولا تشملهم معظم خطط ترامب الحالية).
ويُوزّع الموظفون الفيدراليون على عشرات الوكالات، أهمها: وزارة الأمن الداخلي، وزارة شؤون المحاربين القدامى، وزارة الدفاع، ووكالات مثل NASA وEPA وUSAID.
ويواجه تسريح هذا العدد الكبير من الموظفين عقبات دستورية وقانونية، أبرزها أن تعديل بنية الحكومة يتطلب موافقة الكونغرس، ولا سيما إذا ما نتج عنه آثار مالية أو اجتماعية، لكن المحكمة العليا الأمريكية ألغت مؤخرًا قرارًا قضائيًا مؤقتًا بتجميد خطط ترامب، فاتحة الباب لتسريع تنفيذ تلك الإجراءات في حال توفرت الإرادة السياسية والتنفيذية.
قرار تجميد مؤقت
في منتصف يونيو، أصدرت القاضية الفيدرالية سوزان إيلستون في ولاية كاليفورنيا قرارًا بتجميد تنفيذ خطط التسريح لمدة أسبوعين، مشيرة إلى أن مثل هذه الإجراءات تتطلب مراجعة وموافقة من الكونغرس، لا سيما أنها تمس البنية التشريعية للميزانية الاتحادية وحقوق الموظفين المضمونين بقوانين الخدمة المدنية.
ورأت المحكمة في قرارها المؤقت أن البيت الأبيض لم يثبت أن لديه تفويضًا قانونيًا صريحًا بتنفيذ خفض جماعي للقوة العاملة دون تشاور أو موافقة تشريعية، معتبرة أن الخطوة قد تؤدي إلى "ضرر غير قابل للإصلاح" للموظفين المتضررين.
تعزيز الصلاحيات التنفيذية
لكن المحكمة العليا، ذات الأغلبية المحافظة، نقضت هذا القرار في تصويت سريع دون تعليق مفصّل، ما يسمح لإدارة ترامب بالمضي قدمًا في تنفيذ خطط التسريح خلال الأسابيع المقبلة.
ويرى مراقبون أن هذا النقض يمثل تحولًا مؤسسيًا كبيرًا في ميزان القوى بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، حيث يعزز من قدرة الرئيس على إدارة الجهاز البيروقراطي وفق أجندته السياسية، حتى لو تطلب الأمر تجاوزًا للمسارات التقليدية التي تمر عبر الكونغرس.
وحول هذه القضية قال أستاذ القانون الدستوري في جامعة هارفارد، البروفيسور إدوين بلاك، في تصريحات إعلامية، إن قرار المحكمة "لا يمنح شيكًا على بياض للرئيس، لكنه يشير إلى استعداد المحكمة العليا لإعطاء مساحة أوسع للبيت الأبيض في إدارة الملفات الإدارية والهيكلية".
آلاف الوظائف في مهب الريح
وفقًا للتقديرات الأولية، قد تؤدي هذه الخطط إلى تسريح ما يصل إلى 20 ألف موظف فيدرالي في مراحلها الأولى، مع إمكانية توسع الإجراء ليشمل عشرات الوكالات.
وأعربت نقابات الموظفين الفيدراليين، مثل الاتحاد الأمريكي للموظفين الحكوميين (AFGE)، عن قلق بالغ من القرار، محذرة من أنه "يفتح الباب أمام تسييس الخدمة المدنية، ويحول المؤسسات المهنية إلى أدوات حزبية تفتقر إلى الحياد".
بدورها، نددت منظمات المجتمع المدني ومراكز الفكر الليبرالية، بما وصفته بـ"تدمير متعمّد للدولة العميقة" تحت غطاء الإصلاح الإداري، مشيرة إلى أن هذا المسار "يضعف قدرة الحكومة على الاستجابة الفعالة للكوارث، ويهدد بإفراغ المؤسسات من الخبرات التراكمية".
استعداد لمعركة تشريعية
ردود الفعل السياسية جاءت منقسمة بشدة، حيث رحب الجمهوريون بالقرار باعتباره "تحريرًا للجهاز الحكومي من البيروقراطية العميقة"، في حين وصف الديمقراطيون ما يجري بأنه "انقلاب إداري على قيم الاستقرار والشفافية".
وقد تعهد أعضاء بارزون في الكونغرس، من الحزب الديمقراطي، بالتحرك لتشريع قوانين تقيد صلاحيات الرئيس في ملف التوظيف الفيدرالي، في حين يُتوقع أن يكون ملف الخدمة المدنية أحد المحاور الرئيسية في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
ويثير قرار المحكمة العليا تساؤلات عميقة حول مستقبل العلاقة بين الرئاسة والبيروقراطية الأمريكية، وعن طبيعة الوظيفة العامة في دولة ديمقراطية يفترض أن مؤسساتها تعمل بمعزل عن التقلبات السياسية.
فهل يمثل هذا القرار نقطة تحول نحو مركزة السلطة التنفيذية، أم مجرد حلقة في صراع طويل بين نزعة الإدارة والسيطرة وبين متطلبات الحوكمة الرشيدة؟
الأسابيع المقبلة ستكشف ما إذا كانت الدولة الأمريكية تسير نحو إعادة هيكلة جذرية أو نحو أزمة مؤسساتية حقيقية.