بين السياسة والإنسانية.. جدل حقوقي حول إغلاق أبواب العلاج الأمريكية أمام أطفال غزة
بين السياسة والإنسانية.. جدل حقوقي حول إغلاق أبواب العلاج الأمريكية أمام أطفال غزة
أثار إعلان وزارة الخارجية الأمريكية وقف إصدار تأشيرات الزيارة للفلسطينيين القادمين من قطاع غزة جدلاً واسعاً وانتقادات حادة من منظمات حقوقية وإنسانية دولية، حيث انعكس القرار الذي بررته واشنطن بأنه جزء من "مراجعة شاملة ودقيقة" لإجراءات منح التأشيرات، مباشرة على الأطفال الجرحى الذين كانوا يعتمدون على هذه التأشيرات القصيرة الأجل للوصول إلى الولايات المتحدة لتلقي العلاج الطبي غير المتوفر في القطاع المحاصر.
أثر مباشر على الأطفال الجرحى
منظمات خيرية عاملة في الولايات المتحدة، وفي مقدمتها منظمة "هيل بالستاين"، أعربت عن قلق بالغ إزاء القرار، بحسب ما أوردته “رويترز” الثلاثاء، وأوضحت المنظمة التي تُعنى بنقل الأطفال الفلسطينيين المصابين بجروح بالغة إلى مستشفيات أمريكية، أن وقف التأشيرات يهدد حياة هؤلاء الأطفال ويغلق نافذة الأمل الأخيرة أمامهم، وأكدت أن برامجها إنسانية بحتة، قائمة على التبرعات الفردية، ولا تتضمن أي أموال حكومية.
وأوضحت المنظمة أن الأطفال الذين يتلقون العلاج يعودون مع عائلاتهم إلى ديارهم بعد اكتمال فترة العلاج، ما ينفي الادعاءات التي تحدثت عن إعادة توطين لاجئين فلسطينيين في الولايات المتحدة.
انتقادات حقوقية متصاعدة
مجلس العلاقات الأمريكية الإسلامية (كير) وجمعية "إغاثة أطفال فلسطين" وجماعات حقوقية أخرى، استنكرت القرار باعتباره خطوة تتجاهل البعد الإنساني في ظل أزمة صحية متفاقمة في غزة.
المنظمات شددت على أن وقف وزارة الخارجية منح التأشيرات يفاقم معاناة المدنيين، وخصوصاً الأطفال الذين يواجهون إصابات بالغة جراء القصف المستمر ونقص الأدوية والإمدادات الطبية.
ورأت هذه المنظمات أن القرار يتعارض مع الالتزامات الأخلاقية والإنسانية للولايات المتحدة بموجب القانون الدولي، خصوصاً اتفاقية جنيف الرابعة التي تحمي المدنيين في زمن النزاعات المسلحة، وتفرض واجب تقديم المساعدات الطبية لهم.
خلفيات سياسية مؤثرة
وجاء القرار الأمريكي بعد تصريحات الناشطة اليمينية المتطرفة لورا لومر، الحليفة للرئيس دونالد ترامب، التي زعمت أن فلسطينيين يدخلون الأراضي الأمريكية عبر برنامج التأشيرات القصيرة، وأثارت تصريحات لومر، التي وُصفت بأنها محملة بخطاب معادٍ للاجئين، مخاوف لدى أعضاء في الكونغرس، بينهم وزير الخارجية الحالي ماركو روبيو، الذي تحدث عن "علاقات مع التطرف" من دون أن يقدم أدلة واضحة.
ويقول مراقبون إن القرار يعكس تزايد تأثير الأصوات اليمينية في رسم السياسات الأمريكية المتعلقة بالشرق الأوسط، خصوصاً في ظل استمرار الدعم السياسي والعسكري لإسرائيل، الحليف الإستراتيجي لواشنطن.
أرقام ودلالات
تشير بيانات وزارة الخارجية الأمريكية إلى أن أكثر من 3800 تأشيرة زيارة من فئتي "بي1" و"بي2" قد صدرت منذ بداية عام 2025 لحاملي وثائق سفر فلسطينية، وتشمل هذه التأشيرات نحو 640 صدرت في مايو وحده، بينها نسبة ملحوظة لأغراض العلاج الطبي، إلا أن الوزارة أوضحت أن "عدداً قليلاً" فقط من التأشيرات الإنسانية ما زال يصدر للأشخاص القادمين من غزة في الأسابيع الأخيرة، من دون الكشف عن الرقم الدقيق.
وتبرز هذه الأرقام مفارقة واضحة، إذ إن وقف التأشيرات يُعطّل مساراً كان يُستخدم على نطاق محدود أصلاً لتخفيف معاناة الجرحى الفلسطينيين، ويغلق الباب أمام مبادرات إنسانية لطالما اعتُبرت من صميم الجهود الدولية لدعم المدنيين.
القانون الدولي وواجبات الدول
القانون الدولي الإنساني يضع على عاتق الدول مسؤولية عدم عرقلة وصول المساعدات الإنسانية والطبية للمدنيين خلال النزاعات المسلحة، كما تنص المادة 55 من اتفاقية جنيف الرابعة على ضرورة أن توفر الدول الغذاء والدواء للسكان تحت الاحتلال، أو تسهّل وصولها عبر المنظمات الدولية.
وقف التأشيرات الأمريكية أثار بالتالي تساؤلات حول مدى التزام واشنطن بتعهداتها الدولية، خصوصاً أن القرار يُتخذ في سياق اتهام إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بارتكاب إبادة جماعية في غزة، ومحكمة الجنايات الدولية بارتكاب جرائم حرب.
أصوات من غزة
من داخل القطاع المحاصر، تؤكد العائلات أن وقف التأشيرات يشكل صدمة إضافية فوق المعاناة اليومية، فالكثير من الأطفال الذين أصيبوا بجروح جراء القصف، أو فقدوا أطرافهم، كانوا ينتظرون إجراءات السفر للعلاج في الخارج، ومع انعدام الإمكانيات الطبية في غزة، يصبح الأمل الوحيد هو نقلهم إلى مستشفيات دولية، وهو ما بات الآن شبه مستحيل.
منذ بداية الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة عام 2007، شكّلت مسألة الحصول على تصاريح سفر للعلاج تحدياً كبيراً، وقد أوضحت تقارير منظمة الصحة العالمية أوضحت أن آلاف المرضى، بينهم أطفال، توفوا خلال العقدين الماضيين بسبب تأخر أو رفض منحهم تصاريح للخروج إلى مستشفيات خارجية.
وكانت الولايات المتحدة تُعتبر واحدة من الوجهات القليلة التي تستقبل الحالات الإنسانية الحرجة عبر برامج محدودة النطاق، غالباً بفضل مبادرات مجتمعية وجمعيات خيرية مثل "هيل بالستاين" أو "إغاثة أطفال فلسطين"، ومع وقف هذه التأشيرات، يزداد الضغط على مساعي المنظمات الدولية، فيما يواجه الأطفال الجرحى مخاطر الموت أو العجز الدائم.
صورة الولايات المتحدة
الانتقادات لم تقتصر على المنظمات الحقوقية، بل امتدت لتشمل محللين وسياسيين غربيين رأوا أن القرار يقوض صورة الولايات المتحدة كدولة تدّعي حماية القيم الإنسانية، إذ أن حرمان أطفال جرحى من العلاج الطبي، لأسباب سياسية أو ضغوط جماعات ضغط داخلية، يضعف المصداقية الأمريكية في المحافل الدولية، خصوصاً مع اقتراب مناقشات متجددة حول الوضع في غزة أمام الأمم المتحدة.
أزمة إنسانية أعمق
يتفق المراقبون على أن وقف التأشيرات لا يمثل قراراً إدارياً فحسب، بل يعكس أبعاداً أعمق للأزمة الإنسانية في غزة، حيث يتشابك السياسي بالحقوقي، والإنساني بالعسكري، في الوقت الذي يتحدث فيه المسؤولون الأمريكيون عن "مراجعة أمنية"، تبقى الحقيقة أن عشرات الأطفال يحتاجون يومياً إلى عمليات جراحية متقدمة لا تتوفر في غزة.
قطاع غزة، الذي يقطنه أكثر من 2.3 مليون نسمة، يعيش منذ سنوات في ظروف حصار مشدد فرضته إسرائيل منذ 2007، واشتدت قسوته مع الحرب الأخيرة التي اندلعت عقب هجوم 7 أكتوبر 2023، وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 61 ألف فلسطيني لقوا مصرعهم بخلاف أكثر من 156 ألف جريح منذ بدء العمليات العسكرية، بينهم آلاف الأطفال، فيما يعيش مئات الآلاف على حافة المجاعة، وفي ظل انهيار المنظومة الصحية، باتت مبادرات العلاج الخارجي، سواء في مصر أو الأردن أو الولايات المتحدة، شريان حياة أساسياً للجرحى، وخصوصاً الأطفال. ومع وقف التأشيرات الأمريكية، تُغلق واحدة من أهم هذه النوافذ الإنسانية.