عمل الأطفال.. مأساة متجددة بين مطرقة الفقر وسندان القوانين الغائبة
عمل الأطفال.. مأساة متجددة بين مطرقة الفقر وسندان القوانين الغائبة
رغم مرور أكثر من قرن على إقرار اتفاقيات العمل الدولية الأولى لمكافحة عمل الأطفال، لا يزال هذا الانتهاك الحقوقي مستمرًا بوتيرة مقلقة في مختلف أنحاء العالم، حيث تشير تقديرات منظمة العمل الدولية لعام 2023 إلى وجود أكثر من 160 مليون طفل عامل حول العالم، أي طفل من كل عشرة تقريبًا.
هذه الأرقام تكشف واقعًا مأساويًا تغذيه النزاعات المسلحة والأزمات الاقتصادية والفقر البنيوي، بينما تظل التشريعات المحلية في كثير من الدول عاجزة أو غائبة عن كبح جماح هذه الظاهرة.
بين العوز الاقتصادي والتشريعات الهشة
يؤكد خبراء التنمية أن الفقر هو الجذر العميق لظاهرة عمل الأطفال، حيث تضطر ملايين الأسر في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية إلى الدفع بأطفالها إلى سوق العمل لتأمين الحد الأدنى من الغذاء والدواء والمأوى. ففي المناطق الريفية، يعمل الأطفال في الزراعة وجمع المحاصيل والرعي في ظروف خطرة؛ أما في المدن فيتورطون في أعمال البيع في الشوارع أو الورش أو حتى في أعمال بالغة الخطورة كالبناء والمصانع.
منظمة اليونيسف شددت في تقريرها الأخير على أن أغلبية الأطفال العاملين لا يحصلون على أي نوع من التعليم المنتظم، وهو ما يضاعف دائرة الفقر والتهميش عبر الأجيال، ويشير التقرير إلى أن غياب التعليم غالبًا ليس بسبب كلفة المدرسة فحسب، بل نتيجة عدم وجود مدارس قريبة أو بسبب اضطرار الأطفال لقضاء ساعات طويلة في العمل.
وفي كثير من الحالات، تفتقر القوانين الوطنية إلى تعريف دقيق لعمل الأطفال المحظور، أو تعاني من ضعف في آليات الرقابة والتطبيق. فعلى سبيل المثال، في بعض الدول الإفريقية والآسيوية، تسمح التشريعات بعمل الأطفال في الزراعة أو في الأعمال العائلية دون تحديد ساعات العمل أو نوعيته، ما يفتح الباب واسعًا للاستغلال.
تداعيات إنسانية ونفسية طويلة الأمد
تتجاوز خطورة عمل الأطفال مجرد حرمانهم من مقاعد الدراسة؛ فهو يترك ندوبًا جسدية ونفسية عميقة. وقد وثقت تقارير منظمة العمل الدولية إصابة عشرات الآلاف من الأطفال سنويًا بجروح خطيرة أو أمراض مزمنة نتيجة العمل في بيئات غير آمنة، بما في ذلك التعرض للمواد الكيميائية والآلات الخطرة.
إلى جانب الأضرار الجسدية، يعاني هؤلاء الأطفال غالبًا من اضطرابات القلق والاكتئاب، ويكبرون وهم محرومون من أي إحساس بالأمان الاجتماعي، ما يضعهم أمام مستقبل هش ومجهول. وقد أشارت دراسة حديثة نشرتها منظمة الصحة العالمية إلى ارتفاع معدلات السلوك الانتحاري بين الأطفال العاملين، مقارنةً بأقرانهم غير العاملين.
كما يؤدي عمل الأطفال إلى استمرار حلقة الفقر، إذ يفتقدون المؤهلات التي تؤهلهم للحصول على وظائف أفضل في المستقبل، فيبقون عالقين في مهن منخفضة الدخل. وهذه الحلقة لا تنحصر بالطفل وحده، بل تمتد إلى أسرته ومجتمعه المحلي.
النزاعات والكوارث تدفع المزيد من الأطفال للعمل
أدت النزاعات المسلحة والكوارث الطبيعية وتغير المناخ إلى تفاقم أزمة عمل الأطفال، ففي مناطق النزاعات مثل سوريا واليمن والسودان، دفعت الحرب مئات الآلاف من الأسر إلى اللجوء والنزوح، لتجد نفسها بلا مصدر دخل، ما يجبر الأطفال على العمل لإعالة عائلاتهم.
وفي إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ساهم الجفاف وتراجع الإنتاج الزراعي في زيادة أعداد الأطفال العاملين في أعمال بديلة مثل التعدين أو نقل المياه، وهي أعمال بالغة الخطورة، كما أن الكوارث الطبيعية المتكررة في دول آسيا، مثل الفيضانات في بنغلاديش والزلزال في نيبال، تسببت في فقدان آلاف الأسر مصادر رزقها، ما زاد من اعتمادها على عمل الأطفال.
موقف القانون الدولي والاتفاقيات الأممية
يحظر القانون الدولي عمل الأطفال بشكل صارم، خصوصًا الأشكال الخطرة منه، وتعد اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989 أبرز الوثائق الأممية التي نصّت في مادتها 32 على حماية الطفل من "الاستغلال الاقتصادي ومن أداء أي عمل يُرجَّح أن يكون خطِرًا أو أن يُعَرّض نموّه البدني أو العقلي أو الروحي أو المعنوي أو الاجتماعي للخطر".
كما أصدرت منظمة العمل الدولية اتفاقيتين أساسيتين: الاتفاقية رقم 138 بشأن الحد الأدنى لسن العمل، والاتفاقية رقم 182 بشأن حظر أسوأ أشكال عمل الأطفال، ورغم أن معظم دول العالم صادقت على هذه الاتفاقيات، فإن التنفيذ ظل متباينًا وضعيفًا في دول تعاني من ضعف مؤسسات الدولة أو الفساد أو النزاعات.
المنظمات الحقوقية الدولية، ومنها هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية، شددت مرارًا على أن مجرد وجود القوانين لا يكفي، بل يجب أن يقترن ذلك بآليات تنفيذ فعالة، ومراقبة مستمرة، وتوعية مجتمعية شاملة.
جهود دولية لكنها غير كافية
أطلقت الأمم المتحدة وعدة وكالات دولية برامج خاصة للتصدي لعمل الأطفال، من أبرز هذه الجهود "التحالف 8.7"، وهو شراكة عالمية تهدف لتحقيق الهدف الثامن من أهداف التنمية المستدامة، والذي ينص على القضاء على عمل الأطفال بحلول عام 2025. كذلك تنفذ منظمة العمل الدولية برامج في عشرات الدول لدعم الأسر الفقيرة وتوفير فرص بديلة للأطفال.
لكن هذه الجهود غالبًا ما تصطدم بتحديات كبيرة، منها نقص التمويل، وعدم استقرار الأوضاع السياسية في الدول المستهدفة، وصعوبة الوصول للمجتمعات الأشد فقرًا. ووفقًا لتقرير صدر عام 2023، لا يزال التراجع في أعداد الأطفال العاملين بطيئًا جدًا، مع مخاوف من ارتفاع الأرقام مجددًا بسبب الأزمات الاقتصادية العالمية وتداعيات جائحة كورونا.
الطريق إلى الأمام.. حلول مقترحة
يؤكد خبراء التنمية أن الحل يبدأ من معالجة الجذور الاقتصادية والاجتماعية لعمل الأطفال، من خلال سياسات شاملة لتقليل الفقر، وتوفير التعليم المجاني والجيد، وتعزيز الحماية الاجتماعية للأسر الهشة.
كما يُشددون على ضرورة تطوير تشريعات واضحة تُعرّف بدقة عمل الأطفال المحظور، مع إنشاء آليات رقابية فعالة، وزيادة العقوبات ضد أرباب العمل المخالفين. ويرى البعض أن إشراك المجتمعات المحلية ومنظمات المجتمع المدني في مراقبة هذه الظاهرة يمثل خطوة حاسمة لضمان استدامة الجهود.
في المحصلة، عمل الأطفال ليس خيارًا حرًا تتخذه الأسر أو الأطفال أنفسهم، بل نتيجة حتمية لفقر مدقع ونظم اقتصادية جائرة. ورغم الجهود الأممية والدولية، يبقى المطلوب إرادة سياسية أقوى، وتمويل كافٍ، ورؤية تنموية طويلة المدى تكفل أن يكون مكان الطفل هو المدرسة… لا سوق العمل.
يذكر أن الأمم المتحدة اعتمدت اليوم الدولي لمكافحة عمل الأطفال، الموافق 12 يونيو من كل عام، ليكون مناسبة سنوية بالغة الأهمية تُسلّط الضوء على قضية استغلال ملايين الأطفال في العمل، حرمانهم من طفولتهم، تعليمهم، وصحتهم.
يهدف هذا اليوم إلى توحيد الجهود العالمية وزيادة الوعي بخطورة عمل الأطفال والدعوة إلى اتخاذ إجراءات عاجلة وفعالة للقضاء عليه.