أربع رجال يملكون نصف ما يملكه 750 مليون إنسان.. احتكار الثروة يُعدم العدالة في إفريقيا
أربع رجال يملكون نصف ما يملكه 750 مليون إنسان.. احتكار الثروة يُعدم العدالة في إفريقيا
في ضوء واقع اجتماعي مأزوم، تتكشف، مرةً أخرى، هوةٌ عميقة تزداد اتساعاً في قلب القارة الإفريقية، هوةٌ لا تفصل بين طبقتين اقتصاديتين فحسب، بل بين عالمين متباعدين في كل شيء: في الفرص، في التعليم، في القدرة على الحياة بكرامة.
وأماطت منظمة "أوكسفام" اللثام عن هذه الفجوة السحيقة في تقريرها الصادر تزامناً مع انطلاق القمة نصف السنوية للاتحاد الإفريقي، كاشفة عن واقع مذهل.. أربعة فقط من أغنى أثرياء القارة يملكون ما يفوق مجتمِعين ما يمتلكه 750 مليون إنسان، أي نصف سكان إفريقيا.
وفي معادلة أرقامها فادحة، ونتائجها اجتماعية خطرة، يطرح هذا التقرير سؤالاً مؤلمًا ومُلحًّا.. كيف لقارة بهذا الغنى الطبيعي والثروات الباطنية، أن تبقى أسيرة فقر مزمن، ولامساواة صارخة، وبنية اقتصادية مفخخة بالامتيازات والاحتكارات؟
نصف السكان على حافة الفقر
تشير أرقام "أوكسفام" إلى أن مجموع ثروة هؤلاء الأربعة -وهم النيجيري أليكو دانغوتي، والجنوب إفريقي يوهان روبرت ومواطنه نيكي أوبنهايمر، والمصري ناصف ساويرس- بلغ 57.4 مليار دولار في عام 2025، وفق تصنيف مجلة "فوربس". هؤلاء الأثرياء راكموا ثرواتهم من الصناعات الثقيلة والموارد الطبيعية والسلع الفاخرة، فيما يقبع نصف سكان القارة على حافة الفقر، محرومين من الكهرباء والماء النظيف والتعليم والرعاية الصحية.
وفي هذا المشهد المرهق بالتناقضات، لا تبدو إفريقيا وكأنها تسير على خطى العدالة الاجتماعية أو التنمية المتوازنة، بل تنجرف على وقع آلة ضخمة تعيد إنتاج ذات الخلل البنيوي يومًا بعد يوم. فالهوّة بين الأقلية الثرية والأغلبية الفقيرة ليست مجرد تفاوت في الأرقام، إنما تعبر عن خلل عميق في بنية العقد الاجتماعي، وفي جوهر العلاقة بين الدولة والمواطن، بين رأس المال والسيادة، وبين الحاضر والمستقبل.
وتعكس البيانات الأخيرة، التي أوردها "تقرير اللامساواة العالمية 2024" الصادر عن "مختبر اللامساواة العالمية" (World Inequality Lab)، هذا الاختلال بأوضح صوره. إذ يُظهر التقرير أن 10% فقط من سكان إفريقيا يستحوذون على ما يزيد عن 54% من إجمالي الدخل القومي، فيما يتقاسم الـ50% الأفقر بالكاد 13% من هذا الدخل. هذه الأرقام تؤكد أن الفجوة لم تعد تتسع فحسب، بل تتوحش، وتُقصي الملايين إلى هوامش الحياة، حيث لا كهرباء، ولا رعاية صحية، ولا تعليم.
وتكمن الخطورة هنا في أن هذا التفاوت لا يُعبَّر عنه فقط في مظاهر الفقر، بل في التهميش السياسي والاجتماعي والثقافي، فوفقًا لبيانات "البنك الدولي" الصادرة في يونيو 2025، فإن أكثر من 490 مليون إفريقي لا يحصلون على الكهرباء بانتظام، بينما يعيش نحو 36% من السكان تحت خط الفقر المدقع، أي أقل من 2.15 دولار يوميًا، وفي الريف، حيث يعيش غالبية السكان، تصبح هذه النسب أكثر مأساوية، وتتحول الحياة اليومية إلى صراع بقاء طويل الأمد.
طفرة عقارية لا تعكس الواقع
في المقابل، يزدهر عدد محدود من المدن الإفريقية بفضل استثمارات ضخمة في قطاعات العقارات، والبنية التحتية، والموانئ، لا يستفيد منها سوى المستثمرون والشركات متعددة الجنسيات، فيما تُركت المناطق الداخلية بدون تنمية أو دعم، فالعاصمة الرواندية كيغالي، ومدينة لاغوس النيجيرية، على سبيل المثال، تشهدان طفرة عقارية لا تعكس واقع المواطن العادي، بل تسهم في تعزيز مفهوم "المدن للصفوة"، حيث تُبنى الأحياء الفاخرة والجادات التجارية التي لا يطأها الفقراء إلا كعمال تنظيف أو سائقين.
ولعل من أبرز مفارقات الواقع الإفريقي أن حجم تدفقات رؤوس الأموال الخارجة من القارة -سواء عبر التهرب الضريبي أو تحويل الأرباح إلى الخارج- يُقدّر بنحو 88.6 مليار دولار سنويًا، بحسب تقرير "الأمم المتحدة للتجارة والتنمية" (UNCTAD) لعام 2024. هذا المبلغ، الذي يساوي تقريبًا الناتج المحلي الإجمالي لبعض الدول الإفريقية، كان كفيلاً -لو أُعيد ضخه في الاقتصاد المحلي- بأن يغطي تكاليف الصحة الأساسية لجميع سكان القارة لعامين كاملين.
وهنا، تبرز أزمة الحوكمة، أو بالأحرى غيابها. فبدون إرادة سياسية تُقوّض سلطة النخب المالية وتُعيد صياغة أولويات التنمية، فإن كل تقارير الإنذار ستظل مجرد صرخات في العراء. ففي دول مثل الكونغو الديمقراطية، حيث يُستخرج نحو 70% من الكوبالت العالمي اللازم لصناعة بطاريات السيارات الكهربائية، لا تزال آلاف العائلات تعيش في بيوت من الصفيح، ويُرسل أطفالها للعمل في المناجم بدلاً من المدارس. ومَن يستفيد؟ شركات غربية كبرى، ونخب محلية تقبض عمولاتها ثم تختفي خلف أسوار قصورها العالية.
وفي ذات السياق، يشير "مؤشر رأس المال البشري" الصادر عن البنك الدولي لعام 2024 إلى أن الطفل المولود في إفريقيا جنوب الصحراء لا يحقق سوى 40% من إنتاجية نظرائه في الدول ذات الدخل المرتفع، بسبب سوء التعليم والرعاية الصحية والتغذية. إنها إدانة صامتة لنموذج تنموي يرى في التعليم رفاهية، وفي الصحة ترفًا، وفي الاستثمار في الإنسان عبئًا غير ضروري.
ولا يمكن فصل هذا الواقع عن جذوره التاريخية، فالإرث الاستعماري الذي أعاد رسم حدود القارة على مقاس مصالح الإمبراطوريات، ما زال يثقل حاضرها. لكن الأخطر أن بعض الحكومات الإفريقية أعادت إنتاج هذا الاستعمار داخليًا، عبر سياسات تُقصي الأرياف وتهمّش المناطق الحدودية، وتُبقي الموارد في يد القلة. وبدلاً من تصحيح هذا المسار، اختارت كثير من الدول الإفريقية الدخول في دوامة الديون -ديون بلغت نحو 1.13 تريليون دولار في 2025 بحسب "صندوق النقد الدولي"- تُستخدم لسد عجز الموازنات لا لبناء مستقبل مستدام.
كل هذا ينعكس على مستوى المشاركة السياسية، حيث يتآكل الإيمان بالديمقراطية، وتفقد الانتخابات معناها في ظل غياب العدالة الاجتماعية. ففي دراسة نشرها "المعهد الإفريقي للحكم" في أبريل 2025، قال أكثر من 64% من الشباب المستجوبين إنهم لا يثقون في قدرة حكوماتهم على تحقيق تغيير حقيقي، ويفضّلون الهجرة كحل فردي، لا المشاركة كحل جماعي.
تزايد الهجرة غير النظامية
وهو ما يُفسر القفز المتزايد في أرقام الهجرة غير النظامية، حيث تشير بيانات "المنظمة الدولية للهجرة" إلى أن أكثر من 180 ألف شاب إفريقي حاولوا عبور البحر المتوسط نحو أوروبا في 2024، مات منهم نحو 4,500 شخص في البحر. هذا الرقم لا يُجسّد فقط مأساة فردية، بل يُشير إلى فشل السياسات، وانسداد الأفق، وغياب أي بدائل ممكنة على أرض الواقع.
وفي خضم هذه المآسي، لا تزال بعض الحكومات تتحدث عن "رؤى تنموية 2030 و2063"، فيما يبدو أشبه بنصوص دعائية أكثر منها استراتيجيات قابلة للتنفيذ. فكيف يمكن الحديث عن "التحول الرقمي"، بينما 70% من المدارس في النيجر أو جنوب السودان تفتقر إلى الكهرباء؟ وكيف يمكن الحديث عن "اقتصادات المعرفة" بينما 30 مليون طفل في غرب إفريقيا لا يستطيعون الوصول إلى التعليم الابتدائي؟
المعادلة واضحة: ما لم يتم تكسير الحلقة المفرغة التي تربط الثروة بالسلطة، والفساد بالاحتكار، والانفتاح الاقتصادي بانغلاق اجتماعي، فإن القارة الإفريقية تسير نحو منعطف خطير. منعطف لا يكفي فيه تقديم المساعدات الدولية، أو تمويل مشاريع مؤقتة، بل يتطلب إعادة هيكلة جذرية لمنظومة الحكم، وتجديدًا جذريًا للسياسات الضريبية والاجتماعية.
أربعة يحتكرون نصف الثروة
قال الدكتور حسن شيخ علي نور، أستاذ الدراسات الأمنية في المعهد العالي للدراسات الأمنية في مقديشو، إن الأرقام الصادمة التي وردت في تقرير منظمة أوكسفام الأخير حول توزيع الثروة في القارة الإفريقية يجب أن تكون جرس إنذار للضمير العالمي، ولصنّاع القرار داخل إفريقيا وخارجها، مشيراً إلى أن احتكار نصف ثروة القارة من قِبل أربعة أفراد فقط يعكس خللاً بنيوياً عميقاً في آليات توزيع الثروة، ويؤشر إلى عمق الأزمة الاجتماعية والسياسية التي تعانيها مجتمعاتنا.
وأوضح الدكتور حسن، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن هذا التركيز المهول للثروة في يد قلة من الأفراد، يقابله حرمان مطلق لملايين الناس من أبسط حقوقهم في التعليم، والصحة، والعيش الكريم، وهو ما يُعد قنبلة اجتماعية موقوتة قد تنفجر في أي لحظة. وأضاف: "إن الفقر ليس مجرد رقم، بل هو شعور بالخذلان، وإقصاء من قطار الحياة، حين يُولد الإنسان في بيئة محرومة، ويعيش في ظل أنظمة سياسية فاسدة، ويُحرم من فرصة الحلم، ويُترك وحيداً في مواجهة مصيره".
وبيّن أن هذا الواقع الاقتصادي غير العادل يغذي الاضطرابات السياسية ويزيد من حدة النزاعات، حيث ترى الطبقات المحرومة أن لا سبيل للحصول على نصيبها من الثروة إلا عبر العنف أو القوة أو التمرد السياسي. وقال: "حين يشعر المواطنون أن المؤسسات لا تمثلهم، وأن المال العام يُنهب، وأن العدالة محجوزة للأثرياء، فإن الانفجار الاجتماعي يصبح نتيجة حتمية لا مفر منها".
وأشار الدكتور حسن إلى غياب العدالة الضريبية كأحد الأسباب المحورية لتوسيع الفجوة الطبقية. فالأثرياء، حسب تعبيره، يتهربون من الضرائب، ويملكون من النفوذ ما يجعلهم فوق القانون، بينما تُستنزف الطبقات الفقيرة في ظل أنظمة ضريبية مجحفة لا تعود عليهم بخدمات حقيقية. وأضاف: "من دون نظام ضريبي عادل وشفاف، لن تستطيع الدول تمويل التعليم أو تحسين قطاع الصحة، بل ستظل الخدمات الاجتماعية في حالة احتضار دائم، ترهق المواطن وتُعمّق إحساسه بالتهميش".
وأرجع الدكتور حسن جذور المشكلة إلى طبيعة النظم الحاكمة في معظم البلدان الإفريقية، حيث تقوم على القهر والمحاباة، وتدار بعقلية الغنيمة لا الدولة. وقال: "في إفريقيا، لا يمكن غالباً التمييز بين المال والسياسة؛ فالطبقة الثرية تشتري النفوذ، والسلطة تمنح الغطاء والحماية لمن يملك المال، وكأننا أمام مسرحية عبثية يتبادل فيها الفاسدون الأدوار على حساب الشعوب".
وأكد أن التغيير المنشود لا يمكن أن يأتي من داخل هذه المنظومة المنغلقة على ذاتها، مشيراً إلى ضعف المجتمع المدني الإفريقي، الذي ما زال في مراحله الأولى، ويفتقر إلى الأدوات والخبرات لمواجهة هذا التحالف الخطير بين رأس المال الفاسد والسلطة المستبدة.
وأضاف: "لا يمكن أن نتوقع من مجتمع مدني مقموع ومفتقر للدعم والحماية أن يقف وحده في وجه طغاة لا يتورعون عن قمع كل صوت يطالب بالإصلاح، حتى لو جاء هذا الصوت ناصحاً بالحسنى".
وختم الدكتور حسن تصريحه بالقول إن مستقبل القارة الإفريقية مرهون بإرادة سياسية حقيقية، وبنهضة شاملة في وعي الشعوب، تحررها من الخوف ومن سطوة الفقر، وتعيد بناء منظومة القيم على أساس من العدالة والمساءلة والشفافية.
تراكم الثروات بيد القلة
اعتبر الخبير الحقوقي السوداني سيبويه يوسف، أن تركز الثروات في يد قلة من الفئات في بعض الدول الإفريقية -كما ورد في أحدث التقارير الحقوقية والتنموية- يعكس خللًا بنيويًا كبيرًا في إدارة الموارد، ويكشف عن أزمة عدالة اجتماعية تهدد الاستقرار العام وتؤسس لحالة من الغبن المجتمعي العميق.
وأوضح يوسف، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن هذا النمط من تركيز الثروات لا يؤدي فقط إلى تآكل البنية الاجتماعية وتفكك التماسك الأهلي، بل يتسبب أيضًا في استنزاف ممنهج للموارد الوطنية، حيث توجه لخدمة مصالح نخبوية محددة دون النظر إلى الاحتياجات الجماعية للشعوب. وأكد أن مظاهر الاحتقان الاجتماعي التي تتفاقم يومًا بعد يوم، ومنها الهجرات غير النظامية نحو أوروبا، تُعدّ واحدة من النتائج المباشرة لغياب العدالة الاجتماعية، وانعدام فرص الحياة الكريمة في الداخل.
وأضاف أن هذه التراكمات تخلق بيئة خصبة للثورات الشعبية والانقلابات السياسية، كما نشهد في العديد من البلدان الإفريقية التي انفجرت فيها الأوضاع نتيجة تفشي الفقر والجهل والمرض، في مقابل ثراء فاحش ونفوذ مطلق لفئات ضيقة تحتكر السلطة والثروة. وأشار إلى أن حتى من يصلون إلى سدة الحكم بعد التغيير، ليسوا دائمًا بمنأى عن غضب الشارع، إذا ما استمرت ذات المنهجية في إدارة الثروة وتوزيع الموارد، دون مراعاة لحقوق الأجيال القادمة أو لمبادئ الحكم الرشيد.
وانتقد الخبير الحقوقي سياسات استغلال الثروات الطبيعية بشكل جائر وغير مستدام، مؤكدًا أن العديد من الأنظمة الحاكمة تنهك الموارد الوطنية لصالح طبقات حاكمة، دون النظر لمتطلبات التنمية طويلة الأمد أو للعدالة بين المواطنين. وشدد على أن غياب العدالة الضريبية يمثل أحد أبرز أوجه هذا الخلل، حيث تُثقل كاهل الفئات المنتجة والمواطن البسيط بالضرائب، دون أن يقابلها أي تحسن ملموس في خدمات التعليم أو الرعاية الصحية أو البنية التحتية، في حين تنعم شركات كبرى، مرتبطة بعلاقات سياسية أو اقتصادية مع السلطة، بإعفاءات ضريبية أو تمييز واضح في المعاملة.
وتابع: "عندما يدفع المواطن ضرائبه ولا يجد مقابلها خدمة، بينما تحظى شركات محظية بإعفاءات أو تخفيضات، تتسع الفجوة بين الدولة والمجتمع، ويتآكل شعور المواطن بالانتماء، ويتولد شعورٌ عارمٌ بالظلم"، وأضاف أن “العديد من الدول الإفريقية تُدار اليوم عبر تحالفات اقتصادية–ثقافية–سياسية ضيقة، تُقصي عامة الشعب من المشاركة في القرار وفي تقاسم الثروة، وهو ما يؤدي إلى اتساع دائرة الفقر، وتعمّق مشاعر الإقصاء، وتنامي شعور المواطنين بأن الدولة باتت ملكًا لأفراد لا لشعوب”.
ودعا يوسف إلى دور أكثر فاعلية للاتحاد الإفريقي ومنظمات المجتمع المدني في كسر هذا النسق، مؤكدًا أن هذه الجهات مطالبة بدعم سياسات الحكم الرشيد، ومحاربة الفساد، وتفعيل آليات الشفافية والمساءلة. وأشاد بمبادرات مثل جائزة "مؤسسة مو إبراهيم للحكم الرشيد" التي تُمنح للرؤساء الأفارقة الذين يُظهرون التزامًا استثنائيًا بالشفافية، وتُقدر قيمتها بخمسة ملايين دولار، واعتبر أن مثل هذه المبادرات يمكن أن تلعب دورًا تحفيزيًا مهمًا في تعزيز المساءلة السياسية وحماية المال العام.
وختم بالقول: "الدول لا تنهض حين تُراكم الثروات في أيدي قلة، بل حين تُوزع الحقوق والفرص بعدالة، وتُدار الموارد بما يضمن كرامة الإنسان. الحكم الرشيد ليس رفاهًا سياسيًا، بل شرطاً لبقاء الدولة وسلامها المجتمعي".