العقوبات المزدوجة على فرانشيسكا ألبانيز.. هل تُقيّد يد العدالة الدولية؟

العقوبات المزدوجة على فرانشيسكا ألبانيز.. هل تُقيّد يد العدالة الدولية؟
فرانشيسكا ألبانيز

في خطوة وُصفت بأنها سابقة خطِرة ضد العمل الأممي المستقل، فرضت الولايات المتحدة وإسرائيل عقوبات على فرانشيسكا ألبانيز، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وبررت واشنطن وتل أبيب هذا الإجراء بأن تقارير ألبانيز منحازة وتتبنى خطاب كراهية ضد إسرائيل، فيما ترى أصوات حقوقية أن هذه العقوبات تمثل مساسًا جوهريًا باستقلالية آليات الأمم المتحدة في التحقيق وجمع الحقائق، خاصة في القضايا الشائكة مثل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي.

وشملت العقوبات المفروضة تجميد أصول محتملة، وتقييد السفر، وربما حظر التعاملات مع كيانات مالية أميركية وإسرائيلية، لكن الأهم -وفق خبراء حقوقيين- أن أثرها النفسي والسياسي أوسع بكثير من الأثر المالي، إذ تمثل رسالة ردع غير مباشرة لكل مقرري الأمم المتحدة والمحققين الدوليين الذين يقتربون من قضايا تُثير حفيظة قوى كبرى أو حلفائها.

تقول هيومن رايتس ووتش في بيان صدر مطلع يوليو 2025 "هذه العقوبات تفتح الباب واسعًا أمام تقويض مصداقية آليات التحقيق الأممية، إذا باتت العقوبات الثنائية أداة ضد المقررين الخاصين، فمن سيجرؤ لاحقًا على تقديم استنتاجات لا تروق لدول نافذة؟".

وفي تقرير صدر عن منظمة العفو الدولية الشهر الماضي، رُصد ارتفاع عدد الانتهاكات الموثقة بحق المدافعين عن حقوق الإنسان خلال عام 2024 بنسبة 23% مقارنةً بالعام السابق، من بينها تضييق السفر وتجميد الأصول، لكن ما يحدث مع ألبانيز يمثل بحسب التقرير انتقالًا نوعيًا من استهداف نشطاء المجتمع المدني إلى استهداف مسؤولة أممية بولاية رسمية.

ما الذي قالته ألبانيز؟

تتولى ألبانيز منذ مايو 2022 مهمة مراقبة أوضاع حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفي تقريرها الأخير أمام مجلس حقوق الإنسان في مارس 2025، قالت إن ما يحدث في غزة منذ أكتوبر 2024 قد يرقى إلى إبادة جماعية، مشيرةً إلى أن استهداف المدنيين والبنية التحتية جريمة خطيرة بموجب القانون الدولي، كما انتقدت الصمت الدولي حيال الحصار طويل الأمد على القطاع وسياسة الاستيطان المتسارعة في الضفة الغربية.

لم يأتِ تقرير ألبانيز من فراغ؛ فقد سبقته تحذيرات من لجنة التحقيق المستقلة التابعة للأمم المتحدة، التي قالت في يونيو 2024 إن نمط العمليات العسكرية في غزة يُظهر استخفافًا صارخًا بحياة المدنيين، كما أصدر مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) إحصاءات تفيد بمقتل أكثر من 35 ألف فلسطيني منذ بداية النزاع الأخير، معظمهم من النساء والأطفال.

وتعليقاً على العقوبات قالت ألبانيز إنها تأمل أن تجد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة طريقة لحمايتها من العقوبات التي فرضت عليها.

تأثير العقوبات على الأمم المتحدة

تاريخيًا، يستند عمل المقررين الخاصين إلى مبدأ الاستقلالية وعدم التعرض للضغط السياسي، حيث تنص مدونة قواعد السلوك لمجلس حقوق الإنسان صراحةً على أنه لا يجوز التدخل في أداء المقرر الخاص لولايته، لكن العقوبات الثنائية تثير إشكالًا قانونيًا وسياسيًا، فالأمم المتحدة كهيئة لا تملك صلاحية رفع هذه العقوبات، وفي المقابل، تظل عاجزة عن حماية موظفيها في حال استهدافهم بقرارات وطنية.

يقول الخبير القانوني الدولي د. مايكل لورنس، في تصريحات صحفية: "حتى لو لم تؤدِّ العقوبات إلى منع المقررة من السفر أو التواصل، فهي تشكّل ضغوطًا هائلة تشكك في نزاهتها وتهدد مصداقيتها أمام الرأي العام".

ويرى لورنس، أن استمرار هذا النهج قد يؤدي إلى إفراغ عمل المقررين من جوهره وتحويله إلى دور شكلي بلا تأثير حقيقي.

العقوبات في سياق أوسع

لم تكن ألبانيز أول من يتعرض لهجوم سياسي بسبب عمله الأممي. في 2017، تعرضت المقررة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في إيران، أسماء جهانغير، لحملة اتهامات واسعة من الحكومة الإيرانية، وقبلها، في 2014، اتهمت إسرائيل المقرر ريتشارد فولك بالتحيز ودعت إلى عزله، لكن لم تُفرض عليه عقوبات مباشرة.

الجديد في حالة ألبانيز أن العقوبات جاءت رسمية وبقرارات تنفيذية أمريكية وإسرائيلية، وهو ما يعده كثيرون تصعيدًا خطِرًا قد يفتح الباب أمام دول أخرى لتكرار الأمر متى شعرت بالانزعاج من نتائج تقارير أممية.

ومن الناحية النظرية، تبرر الدول العقوبات بأنها وسيلة للضغط على الأفراد المتهمين بالتحريض أو نشر خطاب الكراهية، لكن واقعًا، ترى غالبية المنظمات الحقوقية أن هذه الآلية تتحول إلى أداة لإسكات النقد وإفراغ آليات المساءلة الدولية.

تقرير لمركز الحقوق الدستورية الأمريكي (CCR) صدر في مايو 2025 يشير إلى أن العقوبات الفردية أثّرت في السنوات الخمس الماضية على قدرة 14 شخصية حقوقية على السفر أو التعامل المصرفي، ما قيّد مشاركتهم في جلسات أممية أو مؤتمرات دولية، وخلص التقرير إلى أن العقوبات الثنائية لا تُستخدم إلا نادرًا لحماية حقوق الإنسان، وغالبًا تُسخّر لأغراض سياسية ضد الأصوات المستقلة.

الردع الصامت

الخطر الحقيقي -وفق باحثين- ليس في إقصاء مقررة بعينها، بل في خلق مناخ خوف صامت يمنع غيرها من تبني مواقف حادة أو توصيف جرائم محتملة بوضوح.

في مقابلة سابقة مع صحيفة "الغارديان"، قالت فرانشيسكا ألبانيز: "إذا تراجعنا عن قول الحقيقة خشية العقوبات، نكون قد خنّا ضمائرنا أولًا، وأضعنا حق الضحايا في العدالة"، لكن حتى ألبانيز اعترفت لاحقًا بأن حجم الضغوط غير مسبوق، ما يشي بمدى فاعلية العقاب السياسي حتى ضد أصحاب المواقف المبدئية.

ونشأت ولاية المقررين الخاصين في السبعينيات والثمانينيات لمراقبة أوضاع حقوق الإنسان في دول أو قضايا محددة، يبلغ عددهم حاليًا أكثر من 50 مقرّرًا وخبيرًا مستقلًا، يعينهم مجلس حقوق الإنسان لولايات مدتها ثلاث سنوات قابلة للتمديد.

وفقًا لبيانات الأمم المتحدة الصادرة في فبراير 2025، تلقى هؤلاء المقرّرون خلال العام الماضي 865 طلب توضيح من حكومات مختلفة، منها 213 طلبًا من إسرائيل، وهو أعلى رقم منذ عام 2010.

إلى أين يتجه الموقف الدولي؟

أعرب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن قلقه العميق من العقوبات ضد ألبانيز، مشددًا على ضرورة حماية استقلالية المقررين الخاصين، وفي بيان مشترك، دعت أكثر من 40 منظمة حقوقية، بينها هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية، الولايات المتحدة وإسرائيل إلى التراجع عن العقوبات لصون مصداقية منظومة حقوق الإنسان الدولية.

وحتى الآن، لم يظهر ما يشير إلى استجابة رسمية لهذا النداء، لكن الأزمة سلطت الضوء مجددًا على هشاشة آليات حقوق الإنسان أمام نفوذ الدول الكبرى.

وتكشف قصة فرانشيسكا ألبانيز عن معضلة كبرى: كيف يمكن للمجتمع الدولي أن يحقق العدالة في قضايا النزاع، في حين يتعرض المحققون أنفسهم للترهيب والعقوبات؟

وفي النهاية، تظل هذه القضية اختبارًا حقيقيًا لإرادة العالم في حماية الاستقلالية والنزاهة؛ ليس فقط لأجل ألبانيز، بل لأجل كل ضحايا الانتهاكات الذين ينتظرون أن ينقل صوتهم إلى الأمم المتحدة بلا خوف أو حسابات سياسية.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية