"السويداء" بين الصراع والتهميش.. هل يصمد أمن الأقليات في سوريا؟
"السويداء" بين الصراع والتهميش.. هل يصمد أمن الأقليات في سوريا؟
تقف محافظة السويداء، ذات الغالبية الدرزية في جنوب سوريا، منذ شهور أمام مشهد غير مسبوق من الاحتجاجات الشعبية والمطالبات بالإصلاح، فهذه التظاهرات التي اندلعت منتصف عام 2023 ضد السياسات الاقتصادية القاسية وتدهور الخدمات، تحولت سريعًا إلى حراك واسع ضد السلطة المركزية، مطالبةً بمزيد من الحكم الذاتي وصيانة حقوق أبناء الطائفة الدرزية، في بلد مزقته الحرب منذ أكثر من عقد.
خلال الأشهر الماضية، تصاعدت وتيرة الغضب الشعبي في السويداء على خلفية القرارات الحكومية برفع الدعم عن الوقود والمواد الغذائية، لتزيد من معاناة الأهالي في منطقة تئن أصلًا تحت وطأة الفقر والبطالة وغياب الخدمات.
وبحسب تقديرات الأمم المتحدة الصادرة في يونيو 2025، يعيش أكثر من 80% من سكان سوريا تحت خط الفقر، فيما بلغت نسبة البطالة في السويداء نحو 42%، وهو رقم صادم في محافظة ظلت لعقود رمزًا للاستقرار.
الأقليات تحت المجهر
تاريخيًا، كانت سوريا نسيجًا غنيًا من الأقليات الدينية والعرقية، بما في ذلك: العلويون، الدروز، المسيحيون، الأكراد، الآشوريون، التركمان، وغيرهم، ولطالما اعتمد النظام السوري على مقاربة أمنية لحماية هذه الأقليات، وغالبًا ما استخدمها كأوراق تفاوض أو كدعم لنفوذه.
إلا أن سنوات الحرب كشفت هشاشة هذه الحماية، وتركت العديد من الأقليات عرضة للاستهداف من قبل أطراف مختلفة، سواء كانت جهات متطرفة تسعى إلى فرض رؤيتها الأحادية، أو قوى متنازعة تسعى للسيطرة على مناطق نفوذها.
ويعود تاريخ الدروز في سوريا إلى أكثر من ألف عام، وهم أقلية دينية مغلقة ذات تقاليد صارمة وهوية ثقافية خاصة، لعب أبناء السويداء دورًا محوريًا في مقاومة الاستعمار الفرنسي مطلع القرن العشرين تحت قيادة سلطان باشا الأطرش، لكن منذ اندلاع النزاع السوري في 2011 التزمت المحافظة نسبيًا بالحياد، فابتعدت عن خطوط التماس الرئيسية، مكتفيةً بتشكيل مجموعات دفاع محلي لحماية مدنها وقراها.
ورغم أن السويداء ظلت بعيدة عن سيطرة الجماعات المتطرفة، فإن ذلك لم يحصنها من أزمات اقتصادية واجتماعية خانقة، ومع انهيار سعر الليرة السورية ووصوله إلى مستويات غير مسبوقة (تجاوزت 22 ألف ليرة مقابل الدولار في يوليو 2025)، تفاقمت الأوضاع حتى بات تأمين الخبز والوقود معاناة يومية.
انتفاضة من أجل الكرامة
في خضم هذه الأزمات، خرج عشرات الآلاف من أهالي السويداء إلى الشوارع للمطالبة بتأمين سبل العيش، وتحقيق إصلاح سياسي يحفظ حقوق الطائفة الدرزية ضمن إطار وطني جامع، فالهتافات لم تتردد فقط حول تحسين الوضع الاقتصادي، بل حملت أيضًا مطالب صريحة بإصلاح النظام السياسي ومحاسبة المسؤولين.
اللافت في هذه الاحتجاجات هو المشاركة الواسعة للنساء والشباب، فضلًا عن حضور رموز دينية محلية، ما أكسب الحراك زخمًا واستمرارية.
تقول ناديا (36 عامًا)، وهي موظفة حكومية شاركت في المظاهرات: "نحن هنا ندافع عن كرامتنا أقلية وبشراً، لا نريد الانفصال عن سوريا، بل نريد أن تُصان حقوقنا ونعيش بسلام".
واقع ميداني معقد
رغم الطبيعة السلمية للحراك، شهدت محافظة السويداء بين حين وآخر حوادث توتر أمني وصدامات محدودة بين المحتجين ومجموعات الدفاع المحلي، ووسط هذا الواقع الهش، حذرت منظمات حقوقية من احتمال انزلاق الوضع إلى فوضى أكبر.
ووفقًا لتقرير صادر عن "هيومن رايتس ووتش" في يونيو الماضي، فإن استمرار التهميش الاقتصادي والسياسي للأقليات مثل الدروز يهدد بتأجيج النزاعات الطائفية ويفتح الباب أمام استغلال خارجي من قبل أطراف إقليمية تسعى لزعزعة الاستقرار.
وفي تقرير صدر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) في مايو 2025، أشارت البيانات إلى أن نحو 350 ألف شخص في السويداء بحاجة إلى مساعدات إنسانية عاجلة، بينهم أكثر من 50 ألف طفل يعانون من سوء التغذية، كما كشف التقرير أن مستوى الخدمات الصحية تراجع إلى أدنى مستوى منذ 2011، في ظل نقص الأدوية والكادر الطبي وهجرة الأطباء.
وأكدت "لجنة التحقيق الدولية بشأن سوريا" التابعة للأمم المتحدة في تقريرها الأخير أن الحكومة السورية لم تتخذ خطوات كافية لمعالجة مطالب سكان السويداء، بل استمرت في فرض قيود على حرية التعبير والتجمع السلمي.
نماذج من الواقع
بين ثنايا الأرقام والتقارير، تقف قصص إنسانية تختصر عمق المأساة. أحمد، مزارع خمسيني، يقول إن موسمه الزراعي الأخير خسر أكثر من نصف قيمته بسبب شح المحروقات وارتفاع أسعار السماد: "أرضنا كانت تعيلنا، اليوم لا نجد ما نسد به رمقنا".
أما ليلى، معلمة في مدرسة ابتدائية، فتصف حال المدارس: "لا كتب، لا تدفئة، لا رواتب تكفي حتى أجرة النقل.. ومع ذلك نواصل التعليم كي لا يُحرم أطفالنا من الأمل".
وينص الدستور السوري على حماية حقوق الأقليات الدينية والثقافية، لكن الواقع يقول غير ذلك، فقد وثق تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان في أبريل 2025 تعرُّض ناشطين دروز للملاحقة والاعتقال بسبب مشاركتهم في الحراك السلمي، معتبرًا أن استمرار مثل هذه السياسات يهدد وحدة البلاد ويغذي النزعات الانفصالية.
غياب الدور الدولي
رغم التحذيرات الأممية والدولية، لم تُترجم حتى الآن إلى مبادرات ملموسة لحماية دروز السويداء وغيرهم من الأقليات السورية، ويرى محللون أن خوف المجتمع الدولي من تقسيم سوريا أو تقوية النزعات الطائفية يجعله يكتفي بالدعوات اللفظية دون تدخل فعال.
ويرى خبراء أن معالجة الأزمة في السويداء لا يمكن أن تنفصل عن الحل الشامل في سوريا، وأن الطريق يبدأ بإشراك ممثلين حقيقيين عن الأقليات في صياغة القرارات السياسية والاقتصادية، وتطبيق اللامركزية الإدارية بما يضمن توزيعًا عادلًا للموارد.
ويخلص تقرير "مجموعة الأزمات الدولية" الصادر في يوليو الجاري إلى أن دمج مطالب الأقليات في عملية سياسية جامعة تمثل فرصة لتقوية اللحمة الوطنية بدلًا من أن تتحول إلى بؤر للتوتر.
بين ماضٍ حافل بالنضال الوطني وحاضر مثقل بالحرمان، تقف السويداء اليوم رمزًا لصوت الأقلية التي تطالب بحقها في حياة كريمة تحت مظلة الدولة. صوتٌ إنساني ينشد العدالة ويحذر من أن تجاهله لن يؤدي إلا إلى مزيد من الانقسام والألم في بلدٍ أنهكته سنوات الحرب.