المعرفة في قبضة القمع.. كيف تحوّلت المكتبات إلى ساحات مقاومة في إيران؟
المعرفة في قبضة القمع.. كيف تحوّلت المكتبات إلى ساحات مقاومة في إيران؟
في البلدان التي تُحكم بقبضة أيديولوجية صارمة، تغدو الكلمة فعل مقاومة، والكتاب سلاحًا في معركة طويلة ضد محو الذاكرة وتقييد الوعي، وفي إيران، لم تعد الرقابة تقتصر على المنابر الإعلامية أو فضاءات التعبير العام، بل باتت تمتد عميقًا إلى صفحات الكتب، ومحتوى المكتبات، ومناهج التعليم، لتطول كل ما يمكن أن يُعيد تشكيل الوعي الجمعي أو يعيد سرد التاريخ من زوايا غير التي تفرضها السلطة، بحسب ما ذكرت وكالة "JINHA"، السبت.
وتشهد منطقة شرق كردستان، الممتدة على المحافظات ذات الغالبية الكردية مثل مهاباد وبوكان وسقز وبانه، حملة متصاعدة تستهدف المكتبات المستقلة، ودور النشر، وموزعي الكتب، ضمن سياسة ممنهجة تسعى إلى خنق الفضاء الثقافي وتقييد الفكر النقدي.
ويبدو أن الجمهورية الإسلامية لا تكتفي بإخضاع الجغرافيا، بل تسعى كذلك إلى احتلال الذاكرة، ومحو التنوع التاريخي والثقافي الذي يُشكل أساس الهوية الكردية وسرديات المقاومة الشعبية عبر العقود.
محاولات إعادة كتابة التاريخ
شهدت السنوات الأخيرة اتساعًا في سياسات "الهندسة الثقافية" التي تعتمدها السلطات الإيرانية، عبر تدخل مباشر في محتوى الكتب المنشورة، لا سيما تلك التي تتناول تاريخ الحركات التقدمية، أو القضايا البيئية، أو الثقافة الكردية.
وتجاوز هذا التدخل الحذف والتعديل إلى فرض روايات بديلة ومتحيّزة، غالبًا ما تُنتجها مؤسسات تابعة للحرس الثوري، مثل وكالة "فارس" و"سوره مهر"، و"مؤسسة الدراسات السياسية"، التي يُتهم بعضها بنشر كتب تحمل مضامين مشوِّهة لتاريخ الأقليات العرقية والمعارضين السياسيين.
وتُحذر الباحثة في التاريخ، سارا (ث)، من بوكان، من أن الهدف الحقيقي من هذه الحملة الثقافية هو التلاعب بإرث الحركات التحررية والعدالة الاجتماعية في كردستان، وتقديمها بصورة مشوهة للأجيال الشابة داخل إيران، بما يُفرغ هذه الحركات من شرعيتها الأخلاقية والسياسية، ويحرمها من عمقها التاريخي.
وتضيف أن المكتبات المستقلة هي الحصن الأخير للثقافة الحرة، وهي اليوم تواجه خطرًا وجوديًا يتجاوز المصادرة إلى محاولات الإخضاع الكامل.
المكتبات تحت الحصار
في الأسابيع التي تلت الحرب القصيرة بين إيران وإسرائيل، تصاعدت الضغوط الأمنية في شرق كردستان بشكل ملحوظ، حيث باتت المكتبات والموزعون في مرمى أجهزة الأمن، وتلقّى عدد من بائعي الكتب تهديدات وتحذيرات تتعلق ببيع كتب "محظورة" أو غير مرخصة.
وشهد بعضهم مصادرة أجهزتهم الإلكترونية، واستُدعوا للاستجواب أو احتُجزوا لفترات وجيزة، وأُجبروا على توقيع تعهدات بعدم توزيع كتب بعينها، وفق ما تؤكده شيدا أحمد زاده (اسم مستعار)، صاحبة مكتبة في بوكان، التي وصفت هذه الحملة بأنها محاولة لتجفيف منابع التثقيف الشعبي، وإخضاع المكتبات لرقابة أمنية شاملة.
ولا تقف هذه الإجراءات عند حدود المكتبات، بل تطول القرّاء أنفسهم، إذ باتت حيازة بعض الكتب سببًا كافيًا للاعتقال أو الملاحقة.
وتشير نرمين أميري (اسم مستعار)، وهي بائعة كتب من مهاباد، إلى أن قائمة الكتب المحظورة تشمل أعمالًا أكاديمية وبيئية وسياسية، من بينها "إيكولوجيا الحرية" لموراي بوكشين، و"ظل كاليبرد فوق الألمان" لملكة مصطفى سلطاني، وكتب شعرية وروائية من إنتاج كتّاب أكراد تُطبع غالبًا في إقليم كردستان.
صراع من أجل الذاكرة
في قلب هذا المشهد، تتحول المكتبة إلى ما يشبه الخندق الثقافي الأخير، حيث تُخاض معركة غير متكافئة بين سلطة تسعى إلى فرض الصمت، ومجتمع لا يزال يرى في الكلمة وسيلة للنجاة من النسيان. فالكتاب الذي يُهرّب من إقليم كردستان، أو يُطبع سرًا داخل البلاد، ليس مجرد سلعة، بل وثيقة مقاومة، تُثبت أن الذاكرة الجماعية ما زالت قادرة على الصمود، وأن هناك من يصر على قول الحقيقة، مهما كان الثمن.
ولا يخفى أن هذه السياسات، التي تتستر أحيانًا خلف مبررات دينية أو وطنية، إنما تسعى إلى وأد أي سردية بديلة، تحدّ من احتكار السلطة للمعنى، وتفتح المجال لتعدد الروايات، والتعبير عن الهويات المهمشة.
لكنها في ذات الوقت، تكشف عن قلق النظام من أي فعل ثقافي مستقل، وعن إدراكه أن ما لا تستطيع الدبابات سحقه، قد تفعله الكلمة، حين تُحرر الإنسان من الخوف وتُعيد إليه حقه في الحلم.
وفي ظل غياب آليات رقابة دولية فعالة، يبقى الرهان على التضامن الإنساني والحقوقي مع هذه المساحات الثقافية التي تخوض حربًا صامتة، دفاعًا عن حرية الفكر وكرامة الإنسان في وجه آلة القمع.