ألمانيا والمناخ.. أزمة تمويل تهدد التحول الأخضر وتضع الأهداف تحت الاختبار
ألمانيا والمناخ.. أزمة تمويل تهدد التحول الأخضر وتضع الأهداف تحت الاختبار
في لحظة فارقة من معركة البشرية ضد تغير المناخ، تواجه ألمانيا -صاحبة رابع أكبر اقتصاد في العالم- تحديًا بالغ الخطورة: عجز متزايد في تمويل إجراءات حماية المناخ، يهدد بتحويل طموحاتها البيئية إلى شعارات بلا سند مالي حقيقي، هذا ما كشفه أحدث تقرير لجهاز المحاسبة الاتحادي الألماني، الذي سلط الضوء على هشاشة صندوق المناخ والتحول، الأداة المركزية في الاستراتيجية الألمانية لتحقيق تحول طاقي عميق وبلوغ هدف الحياد المناخي بحلول عام 2045.
أزمة الصندوق: أرقام لا تكذب
وفق التقرير الموجه للجنة المالية في البرلمان الألماني، تبدو قدرة الصندوق على تمويل مشاريع المناخ مهددة بفعل «الهامش المالي الضيق» وتزايد الالتزامات المسبقة، إذ من المقرر أن تبلغ إيرادات الصندوق في 2025 نحو 36.7 مليار يورو، أقل بكثير مقارنة بالعام السابق، في حين تقابلها التزامات سابقة تستهلك قرابة 25 مليار يورو.
ولا يقف الأمر هنا؛ فالحكومة تخطط أيضًا لإنفاق مليارات إضافية لتعويض مشغلي محطات الفحم وتمويل رسوم تخزين الغاز، ما يعني أن ما يتبقى فعليًا من الأموال لدعم مشاريع جديدة هو جزء صغير جدًا من المبلغ الإجمالي.
غياب الشفافية.. أين تذهب الأموال؟
انتقد التقرير بشدة عدم الوضوح في بيان الأثر البيئي الحقيقي لهذه الاستثمارات؛ إذ بيّن أن تقرير الصندوق لعام 2024 لم يُفصّل حجم التخفيض في انبعاثات غازات الدفيئة سوى في 38 من أصل 190 إجراءً مدعومًا، وهو ما يجعل من الصعب تقييم الكفاءة الحقيقية للتمويل: كم طنًا من الكربون يتم تجنبه مقابل كل يورو يُصرف؟
يقول خبراء الاقتصاد البيئي إن غياب هذه البيانات الدقيقة لا يسمح برسم صورة واضحة حول الأثر المباشر لهذه الأموال على حماية المناخ، ما يهدد بفقدان ثقة الرأي العام ودافعي الضرائب في سياسات التحول الأخضر.
التزامات ضخمة وطموحات عالية
رغم الأزمة التمويلية، تسعى الحكومة الألمانية لتحقيق أهداف طموحة للغاية: توليد 80% من الكهرباء من مصادر متجددة بحلول 2030، والوصول إلى إنتاج كهرباء خالية تمامًا من الانبعاثات بحلول 2035.
ويدعم الصندوق برامج واسعة تشمل: استبدال النوافذ وعزل الواجهات للأسر الخاصة، وتمويل أنظمة تدفئة صديقة للبيئة بدلًا من القديمة، وتحفيز الابتكار في مجال الهيدروجين الأخضر وتوسيع شبكات نقل الطاقة.
لكن السؤال الصعب: هل تكفي هذه الموارد -خاصة في ظل العجز- لتحقيق الأهداف المعلنة؟
أبعاد الأزمة
تكشف الأزمة المالية في تمويل مشروعات حماية المناخ بألمانيا أبعادًا أعمق:
اقتصاديًا: يشير تقرير مركز أبحاث الطاقة الألماني (DIW) إلى أن عدم الاستثمار الكافي اليوم سيضاعف التكلفة الاقتصادية في المستقبل بسبب الأضرار المناخية، ما قد يكلف الاقتصاد الألماني مئات المليارات بحلول 2050.
سياسيًا: يمثل فشل تمويل الصندوق تحديًا لسمعة ألمانيا، التي تعد نفسها قاطرة أوروبية في حماية المناخ، ما قد يؤثر في التزامات الاتحاد الأوروبي ككل.
اجتماعيًا: عجز التمويل قد يؤخر مشاريع دعم الأسر ذات الدخل المحدود، في وقت ترتفع فيه أسعار الطاقة، ما يزيد من العبء على الطبقات المتوسطة والفقيرة.
كيف وصلنا إلى هنا؟
تعود جذور الأزمة إلى استراتيجية «Energiewende» التي أطلقتها ألمانيا مطلع الألفية، وتهدف إلى التخلص التدريجي من الفحم والطاقة النووية، والاعتماد على الرياح والشمس، لكن هذه الاستراتيجية تزامنت مع أزمات متلاحقة: جائحة كورونا، الحرب في أوكرانيا وارتفاع أسعار الطاقة عالميًا، ما زاد الضغوط على الميزانية.
تفاقمت الأزمة حين لجأت الحكومة الألمانية إلى استدانة ضخمة لتمويل الصندوق -100 مليار يورو تُسدَّد عبر 10 دفعات سنوية حتى 2034- وهو ما عدّه خبراء تمويلًا مكلفًا يزيد التزامات الدولة.
التحذير من التباطؤ
بحسب تقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة لعام 2024، فإن دولًا صناعية كبرى -وبينها ألمانيا- لم تعد على المسار الصحيح لتحقيق أهداف اتفاق باريس للمناخ. وأشار التقرير إلى أن فجوة التمويل الأخضر تتسع عالميًا، وأن أي تأخر في ضخ استثمارات جديدة سيجعل الوصول إلى هدف حصر الاحترار العالمي عند 1.5 درجة مئوية شبه مستحيل.
كما دعت هيومن رايتس ووتش الحكومات الأوروبية إلى مراعاة البُعد الحقوقي لأزمة المناخ، إذ يُهدد التباطؤ في التحول الأخضر حقوق ملايين الأشخاص في الصحة والغذاء والسكن، خصوصًا الفئات الهشة.
مشاريع متعثرة وأخرى مهددة
مشروع توسعة مزارع الرياح البحرية في بحر الشمال، الذي يعد من أكبر مشروعات التحول الطاقي، يواجه تأخيرات بسبب نقص التمويل اللازم للبنية التحتية.
برنامج دعم الأسر لاستبدال أنظمة التدفئة ببدائل صديقة للبيئة شهد تقليصًا في المخصصات، ما يعني انتظار عشرات الآلاف من العائلات لمساعدات لن تصل قريبًا.
مبادرة الهيدروجين الأخضر، التي تُعوَّل عليها لتقليل الانبعاثات الصناعية، تواجه تأجيلًا في بعض مراحلها نتيجة غياب التمويل الكافي.
الحلول والبدائل.. ما الذي يمكن فعله؟
يؤكد خبراء أن الحل لا يكمن في التخلي عن الأهداف، بل بإيجاد مصادر تمويل بديلة، وتشجيع الشراكة مع القطاع الخاص عبر حوافز ضريبية، وتسريع إصدار السندات الخضراء وجذب استثمارات أجنبية، وترشيد الإنفاق الحالي وتحسين كفاءة الصندوق ليحقق أكبر تخفيض للانبعاثات مقابل كل يورو.
كما دعا بعض الاقتصاديين لإصلاح النظام الضريبي بما يسمح بتوجيه المزيد من العائدات لتمويل مشاريع المناخ.
مفترق طرق بين الطموح والواقع
ألمانيا تجد نفسها اليوم أمام مفترق طرق إما أن تجد حلولًا مبتكرة لتجاوز الأزمة المالية أو تواجه خطر فقدان ريادتها في مجال حماية المناخ، بما لذلك من تبعات اقتصادية واجتماعية وإنسانية عميقة.
يبقى السؤال مفتوحًا: هل يكفي الالتزام السياسي وحده إذا غابت القدرة المالية؟ أم أن مواجهة تغير المناخ -باعتباره قضية وجودية- تستحق التضحية والتغيير الجذري في أولويات الإنفاق؟
في النهاية، كما يذكّرنا تقرير الأمم المتحدة الأخير: "تكلفة التحرك اليوم أقل بكثير من تكلفة التقاعس غدًا".