من الولايات المتحدة إلى أوغندا.. تقويض حقوق مجتمع الميم يُنذر بتراجع الحريات العامة
استخدام القوانين التمييزية لشرعنة التضييق
في قلب أوروبا، أصبح الدفاع عن حقوق المثليات والمثليين ومزدوجي الميل الجنسي والمتحولين جنسيًا (مجتمع الميم) مرادفًا للدفاع عن الديمقراطية نفسها.
حول رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، الذي طالما قدّم نفسه كحامي "القيم التقليدية"، سياسة بلاده إلى مختبر تشريعي لإقصاء مجتمع الميم، فمنذ عام 2021، فرضت حكومته قيودًا صارمة على الاعتراف القانوني بالاختلاف الجنسي، ومنع الأزواج المثليين من التبني، وأقرّت قوانين تحظر "الترويج للمثلية" بين القاصرين.
وفي مارس 2025، تجاوزت هذه السياسات مرحلة التشديد حين أقرّ البرلمان المجري تشريعًا يحظر فعليًا أي تمثيل علني لحقوق مجتمع الميم، بما في ذلك مسيرات الفخر.
لم تقتصر هذه السياسات على الجانب الرمزي أو الثقافي فحسب، بل مهدت الطريق لتقويض أوسع لحقوق الإنسان، فقد مكّنت الحكومة نفسها من استخدام أدوات الرقابة الرقمية، بما فيها الذكاء الاصطناعي والتعرف على الوجه، لتحديد المشاركين في فعاليات مؤيدة لحقوق الميم، كل هذا جرى تحت غطاء حماية "الأخلاق العامة" والدفاع عن "الأسرة التقليدية".
لكن ما يحدث في المجر ليس معزولًا، بل هو جزء من موجة عالمية تتقاطع فيها الشعبوية اليمينية، والاستبداد السياسي، ومعاداة مجتمع الميم.
واشنطن تتخلّى عن القيادة
في الوقت الذي كان فيه المجتمع الدولي يتابع بقلق تصاعد الهجمات على حقوق مجتمع الميم، تخلّت الولايات المتحدة عن دورها التقليدي في الدفاع عن هذه الحقوق على الساحة العالمية، فخلال ولاية دونالد ترامب، لم يتوقف الأمر عند سحب التمويل أو تقليص البرامج المخصصة لدعم مجتمعات الميم حول العالم، بل شملت السياسات التنفيذية قيودًا صارمة على الداخل أيضًا.
أصدر ترامب أوامر تنفيذية تحظر الخدمة العسكرية للمتحولين جنسيًا، وتمنع تمويل المدارس التي تسمح بمشاركة المتحولات جنسيًا في الفرق الرياضية النسائية، وتفرض تعريفًا بيولوجيًا للنوع على أساس الجنس عند الولادة في جميع سياسات وبرامج الوكالات الفيدرالية.
وألغي منصب المبعوث الخاص لحقوق الميم في وزارة الخارجية، ومنعت أعلام قوس قزح من الظهور في السفارات.
والأخطر أن تقارير وزارة الخارجية السنوية عن حقوق الإنسان، والتي طالما وثّقت الانتهاكات بحق مجتمع الميم حول العالم، لم تعد تتضمن هذه القضايا، في ضوء هذا الفراغ، بات بإمكان الأنظمة الاستبدادية التذرّع بغياب الضغوط الغربية للمضي قدمًا في تشريعات قمعية.
مجتمع الميم ككبش فداء
في خطاب معادٍ يذكّر بمرحلة الحرب الباردة، صوّر الرئيس البولندي أندريه دودا مجتمع الميم كتهديد "أكثر تدميرًا من الشيوعية"، مستغلًا ذلك في حملته الانتخابية عام 2020.
وفي روسيا، بدأ استهداف منظمات الميم بقانون "العملاء الأجانب"، قبل أن يمتد القمع إلى صحفيين وناشطي حقوق الإنسان، وفي إندونيسيا، استُخدمت الموجة المناهضة للميم لتبرير توسيع الرقابة والمراقبة.
تشير تقارير إلى أن 275 منظمة مرتبطة بشبكات مسيحية محافظة عبر العالم أنفقت أكثر من مليار دولار خلال خمس سنوات لدعم تشريعات مناهضة لمجتمع الميم، خاصة في أوروبا الشرقية، وتلعب هذه الشبكات دورًا محوريًا في توفير خطاب قانوني، وخطط تشريعية جاهزة، ودعم إعلامي للمشرّعين الذين يتبنّون هذه السياسات.
وفي أوغندا، على سبيل المثال، استُخدم هذا الدعم لتمرير قانون يعتبر المثلية الجنسية المشددة جريمة يُعاقب عليها بالإعدام، وقد لعبت منظمات أمريكية مثل "فاميلي ووتش إنترناشونال" دورًا مباشرًا في تقديم المشورة القانونية والترويج لهذا الخطاب.
وفي دراسة أجراها معهد ويليامز في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، تبين أن الحكومات التي تستخدم خطابًا معاديًا للميم غالبًا ما تتخذ لاحقًا خطوات لقمع وسائل الإعلام المستقلة وتقييد حرية التجمع.
ويعد مجتمع الميم في هذه الحالة، ليس الهدف الوحيد بل المؤشر الأول على انحدار ديمقراطي قادم.
ما يثير القلق ليس فقط استهداف أفراد أو جمعيات، بل محاولة تغيير البنية القانونية التي تحمي الحقوق، في غانا، أقر البرلمان بالإجماع قانونًا يجرم الترويج للمثلية، وفي المقابل، بررت الحكومة القانون بأنه يعكس الإرادة الشعبية، رغم خرقه للمعايير الدولية لحقوق الإنسان.
غياب الدعم الأمريكي وضرره
في ظل تقلص الدعم الحكومي الأمريكي، تجد منظمات المناصرة نفسها في موقف ضعيف، ليس فقط بسبب نقص التمويل، بل نتيجة فقدان الحماية السياسية والرمزية التي كانت توفرها القوة الأمريكية، فحين تنسحب واشنطن من مجلس حقوق الإنسان، أو تتوقف عن توثيق الانتهاكات، فإن ذلك يُفسر على أنه ضوء أخضر للأنظمة القمعية.
لكن الفراغ الذي خلّفه الغياب الأمريكي يفتح في المقابل مساحة جديدة أمام النشطاء المحليين، فلم تعد المطالبة بحقوق الميم مرتبطة باتهامات بـ"الاستعمار الثقافي" كما كان يُروج في بعض الأوساط، بل أضحى بالإمكان تأطير هذه الحقوق ضمن قيم الكرامة الإنسانية والعدالة.
دروس من جنوب إفريقيا وكوستاريكا
تظهر تجارب مثل جنوب إفريقيا، حيث صمدت الحماية الدستورية لحقوق الميم في وجه تحديات سياسية واجتماعية، أن الضمانات القانونية المترسخة في دساتير ديمقراطية تُشكل حصنًا قويًا، كما أن المحكمة الأمريكية لحقوق الإنسان لعبت دورًا مهمًا في دفع دول مثل كوستاريكا نحو إصلاح تشريعي منح حقوق الزواج للأزواج المثليين رغم المعارضة المحلية.
وقدمت المؤسسات الإقليمية، كالبرلمان الأوروبي ومحكمة حقوق الإنسان الأوروبية، نماذج لدور الردع الذي يمكن أن تؤديه في مواجهة التشريعات التمييزية، ففي بولندا، أدى التهديد بقطع تمويل الاتحاد الأوروبي إلى تراجع نحو مئة بلدية عن إعلان نفسها "مناطق خالية من الميم".
ولضمان استمرار المكاسب في هذا المجال، يحتاج النضال الحقوقي إلى بناء تحالفات تمتد خارج حدود الحركات الخاصة بالميم، يجب الربط بين هذه الحقوق وقضايا الديمقراطية، ومحاربة الفساد، والتنمية، والمساواة الجندرية، عندما يصبح الدفاع عن الميم جزءًا من دفاع أشمل عن المجتمع المدني والحريات، تزداد فرص الصمود.
ويجب تطوير آليات تمويل جديدة، تعتمد على الشراكات مع مانحين خاصين وحكومات صديقة، ومع تراجع الدور الأمريكي، على منظمات المناصرة أن تعيد صياغة خطابها، وتُثبت أن حقوق الميم ليست فرضًا غربيًا، بل جزءًا أصيلًا من معركة إنسانية أوسع من أجل الكرامة والعدالة.