الاقتصاد الخفي للقتل الرحيم.. كيف يتم التسويق للموت كخيار "إنساني" لتقليل النفقات؟
الاقتصاد الخفي للقتل الرحيم.. كيف يتم التسويق للموت كخيار "إنساني" لتقليل النفقات؟
في زمن تتعثر فيه أنظمة الرعاية الاجتماعية، وتنهار فيه الهياكل الديموغرافية التقليدية، لم يعد الحديث عن "الحق في الموت" شأناً أخلاقياً أو طبياً فحسب، بل تحوّل تدريجياً إلى نقاش اقتصادي محض، خلف الخطاب الإنساني الذي يروّج للموت بمساعدة كخيار رحيم لمرضى بأمراض عضال أو ذوي معاناة لا تُحتمل، هناك اقتصاد خفي يُعاد تشكيله بهدوء، حيث يصبح الانسحاب من الحياة جزءاً من منطق تقليل النفقات العامة لا أكثر.
في يونيو الماضي، أقرّ مشرّعو بريطانيا مشروع قانون جديد يسمح بالانتحار بمساعدة الغير، لتنضم إنجلترا وويلز إلى قائمة متزايدة من الدول الغربية التي شرّعت الموت بمساعدة طبية، وبينما يتم تسويق هذا التحول التشريعي تحت مظلة "الكرامة والاختيار والرحمة"، تشير تجارب دول مثل كندا وهولندا وبلجيكا إلى أن هذه القوانين، في ممارساتها الواقعية، تحوّلت إلى أدوات لتخفيف العبء المالي عن أنظمة صحية مضغوطة.
فهل نحن بصدد تحوّل من "الرعاية إلى الرحيـل"؟ وهل بات الموت يُعرض كخيار "إنساني" لأنه ببساطة.. الأقل كلفة؟
في كندا، حيث جرى تقنين المساعدة الطبية على الموت (MAiD) منذ عام 2016، توسّع البرنامج بشكل لافت، فبعد أن كان مقتصراً على المرضى المصابين بأمراض عضال لا تطاق، أُزيلت عام 2021 شرط "الوفاة القريبة"، ما فتح الباب أمام فئات أوسع، من بينها أشخاص يعانون من إعاقات، أو اضطرابات نفسية، أو ببساطة من الفقر.
في تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز"، تبرز حالة روجر فولي، رجل في أواخر الأربعينات يعاني من مرض عصبي تنكسي، قال أمام البرلمان الكندي إنه عُرض عليه خيار الانتحار بمساعدة الغير لأنه لم يستطع تحمّل كلفة رعايته اليومية التي تصل إلى 1800 دولار، "لم أطلب الموت"، قال فولي، "بل طلبت دعماً للعيش".
هذه الحالة ليست استثناءً، في 2022 صرّحت جينيفر هاتش، شابة كندية ظهرت في إعلان مؤثر يدعم المساعدة على الموت، بأنها "كانت تفضل البقاء على قيد الحياة" لو توفرت لها الرعاية الطبية اللازمة، لكنها ببساطة لم تجد سبيلاً آخر.
القتل الرحيم ليس بديلاً للعدالة
حذّرت جمعية الطب البريطانية (BMA) مراراً من أن تسويق الموت الرحيم كحق فردي لا يمكن فصله عن الهياكل الاجتماعية والاقتصادية التي تحيط بالفرد، وفي وثيقة موقف رسمية، أكدت الجمعية أن "الاختيار لا يكون حرًا عندما يكون مدفوعاً بالفقر أو العزلة أو غياب الدعم".
وهذا ما أكده أيضًا تقرير اللجنة الأممية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، التي أعربت عن قلقها إزاء إمكانية تحوّل تشريعات القتل الرحيم إلى آلية غير مباشرة للتخلص من الأشخاص ذوي الإعاقة أو الفئات الضعيفة.
أما منظمة حقوق الإنسان البريطانية (BIHR) فذهبت أبعد من ذلك، محذّرة من "تطبيع" المساعدة على الموت كبديل عن الاستثمار في خدمات الصحة العقلية والدعم الاجتماعي.
في بيانها الأخير، وصفت الاتجاه نحو تقنين الانتحار بمساعدة الغير بأنه "تراجع خطير عن التزامات بريطانيا الحقوقية، خاصة في ظل نظام رعاية يئن تحت الضغوط".
الأطباء في مرمى التناقض
جمعية الطب البريطانية غيّرت موقفها من الرفض إلى الحياد، لكنها عبّرت عن قلق حقيقي من أن يتحوّل دور الطبيب من مقدّم للرعاية إلى وسيط للموت، فالغالبية الساحقة من أطباء الرعاية التلطيفية يعارضون التشريع، ويرون فيه كسرًا لعلاقة الثقة مع المريض.
لكن حيادية الجمعية لم تأتِ من فراغ. هناك ضغط اجتماعي، وتشريعي، وحتى إعلامي، يدفع نحو تصوير المساعدة على الموت كجزء من “الخدمات الصحية الحديثة”، بينما الحقيقة أن النظام نفسه بات عاجزًا عن توفير الرعاية التلطيفية المناسبة.
في هولندا، أول دولة شرعت الموت الرحيم منذ عام 2002، توفي أكثر من 9900 شخص بموجبه عام 2023، أي أكثر من 5% من مجموع الوفيات في البلاد، وفق إحصاءات رسمية، لم تكن كل هذه الحالات تتعلق بأمراض عضال.
بعضهم –مثل زورايا تير بيك، البالغة من العمر 29 عامًا– أنهت حياتها لأنها كانت تعاني من القلق والاكتئاب والتوحد.
أما في بلجيكا فقد صرّح مدير أكبر صندوق تأمين صحي في البلاد العام الماضي بأنه "ينبغي تخفيف شروط القتل الرحيم لكبار السن الذين سئموا الحياة"، مشيرًا إلى أن الرعاية طويلة الأمد لم تعد مستدامة اقتصاديًا، لم يكن هذا التصريح فرديًا، بل جزءًا من خطاب متصاعد حول "الحلول الواقعية" في ظل شيخوخة السكان.
منظور اقتصادي بلا قناع
في تحليل استباقي أعدته الحكومة البريطانية لمشروع القانون المطروح، قُدّرت التكاليف الأولية لتطبيق قانون المساعدة على الموت، لكنها بالمقابل أشارت إلى إمكانية توفير "عشرات الملايين من الجنيهات سنويًا" بعد اكتمال البنية التشريعية والتنفيذية.
أما في كندا، فقد قدّرت دراسة نُشرت عام 2017 أن تشريع MAiD يمكن أن يقلّل من نفقات الرعاية الصحية بما يتراوح بين 34 و138 مليون دولار سنويًا.
هذا ما سمّاه أحد مسؤولي وزارة الخزانة البريطانية في تعليق شخصي لصحيفة نيويورك تايمز: "المشكلة الوحيدة هي أن الموت بمساعدة طبية يحظى بشعبية بين الشباب.. وليس بين كبار السن".
الحياد الأخلاقي
قد يبدو أن الخيارات مفتوحة، وأن الموت الرحيم مجرد امتداد لحق الإنسان في تقرير مصيره، لكن عندما تبدأ الدولة، بسلطتها المالية والتشريعية، في توفير هذا الخيار باعتباره جزءًا من نظام الرعاية العامة، يتغيّر ميزان الأخلاق.
تقول السوابق إن الاقتصادات حين تُضطر إلى الاختيار، فإنها تميل إلى الحل الأرخص، وفي ظل أزمة ديموغرافية عالمية تتّسم بانخفاض الخصوبة وارتفاع متوسط الأعمار، فإن اختزال معاناة الإنسان في معادلة كفاءة مالية قد يتحول من استثناء إلى سياسة دائمة.
لم يعد السؤال فقط: "هل نملك الحق في الموت؟"، بل: "هل نختار الموت حقًا؟"، عندما يصبح الانسحاب من الحياة قرارًا مرتبطًا بكلفة الرعاية، لا بالقيمة الإنسانية، تنكسر معادلة الحقوق، وتتحول "الرحمة" إلى أداة اقتصادية ناعمة، تُقدَّم على أنها حنونة، بينما تنفّذ منطق الجباية.
وربما لهذا، تكرر اللجنة الأممية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة نداءها للدول: "لا تخلطوا بين مساعدة الناس على الموت، ومساعدتهم على الحياة.. فالأولى لا تحتاج سوى توقيع وتشريع، أما الثانية فتتطلب استثمارًا وإرادة وعدالة".