نهاية دور "بيبفار" في مواجهة الإيدز.. انتكاسة في معركة صحية عالمية
يهدد أرواح ملايين الأفارقة
يتفاقم القلق الدولي بشأن مستقبل ملايين المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) نتيجة التخفيضات الحادة في تمويل برامج مكافحة الفيروس، لاسيما في البلدان ذات الدخل المنخفض.
ووفقاً لما نشرته مجلة "الإيكونوميست" البريطانية، فقد تراجعت المساهمات المالية من الجهات المانحة الرئيسية بشكل مقلق، حيث انخفض تمويل الدول الغنية لمكافحة الإيدز بنسبة 25% خلال العقد الماضي، يهدد هذا التراجع بتقويض التقدم المحرز على مدار عشرين عاماً في احتواء الوباء، ما ينذر بعودة مقلقة لتفشي الفيروس في المناطق الأكثر ضعفاً.
ويعد برنامج خطة الطوارئ للإغاثة من الإيدز (بيبفار)، الذي أطلقته الولايات المتحدة عام 2003، أحد أبرز المبادرات الصحية العالمية في مكافحة فيروس نقص المناعة، وقد أسهم البرنامج، الذي تديره الحكومة الأمريكية، في إنقاذ أكثر من 25 مليون شخص عبر توفير الأدوية المضادة للفيروسات، والخدمات الصحية، والدعم الاجتماعي في أكثر من 50 دولة، معظمها في إفريقيا جنوب الصحراء.
ومع ذلك، فقد أصبح هذا البرنامج الحيوي مؤخراً رهينة للاستقطاب السياسي في الكونغرس الأمريكي، بعد أن رفض الجمهوريون في مجلس النواب تجديد التمويل الكامل له لعام 2023، بذريعة استخدام بعض موارده المحتملة في دعم خدمات الإجهاض في الخارج، رغم أن القانون الأمريكي يحظر ذلك منذ عقود.
وبحسب مجلة "الإيكونوميست"، فإن هذا القرار لم يستند إلى أدلة واضحة، بل عكس توجهاً متصاعداً لدى الجمهوريين المحافظين لربط المساعدات الصحية الخارجية بالقضايا الثقافية والاجتماعية المثيرة للجدل داخل الولايات المتحدة، وقد أدى ذلك إلى وقف التمويل الإضافي الذي كان مقرراً بنحو 6.9 مليار دولار سنوياً، ما ألقى بظلاله الثقيلة على ملايين المرضى الذين يعتمدون على هذا الدعم الحيوي لاستمرار حياتهم.
العمل الصحي والتنموي
وفي تقرير نشرته مجلة "تايم" الأمريكية، وصفت الكاتبة أليس بارك هذا الانسحاب المفاجئ من تمويل برامج مكافحة الإيدز بأنه "كارثة إنسانية صامتة"، محذرة من أن ما يُبنى في عقود من العمل الصحي والتنموي قد يُهدم في شهور قليلة.
وأضافت أن مراكز الرعاية الصحية في بلدان مثل زامبيا وموزمبيق بدأت بالفعل في تقليص خدماتها أو إغلاق أبوابها بسبب توقف الدعم، ما يهدد بزيادة معدلات الوفيات وانتقال العدوى، خصوصاً بين الأطفال والنساء الحوامل.
وتشير تقديرات برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بفيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز (UNAIDS) إلى أن أكثر من 39 مليون شخص حول العالم يعيشون حالياً مع الفيروس، منهم نحو 9.2 ملايين لا يحصلون على العلاج.
وقد أدت التخفيضات الأخيرة في التمويل إلى اتساع هذه الفجوة، لاسيما في الدول التي كانت تعتمد بنسبة كبيرة على دعم "بيبفار" وغيره من برامج المساعدات الدولية.
وترى "الإيكونوميست" أن هذا الانخفاض في التمويل لا يعكس فقط تغيّراً في أولويات الدول المانحة، بل يكشف أيضاً عن إرهاق سياسي متزايد تجاه الالتزامات الصحية العالمية، في ظل تصاعد النزعات القومية والشعبوية، ومع تزايد التحديات العالمية الأخرى، مثل التغير المناخي والنزاعات المسلحة والأزمات الاقتصادية، باتت قضايا الصحة العامة في الدول الفقيرة تحظى باهتمام أقل في سياسات الدول الصناعية الكبرى.
تعهدات بتمويل مؤقت
ورغم ما أعلنه بعض المسؤولين الأمريكيين من تعهدات جزئية بتمويل مؤقت لبرنامج "بيبفار"، ترى صحيفة "واشنطن بوست" أن هذا ليس حلاً مستداماً، بل تأجيل لأزمة كبرى.
وفي مقال تحليلي، تساءلت الصحيفة ما إذا كان البرنامج لا يزال الأداة الأفضل لمكافحة الإيدز في ظل المتغيرات الجديدة، وأشارت إلى أن التقدم العلمي في السنوات الأخيرة، لاسيما في تطوير أدوية جديدة طويلة المفعول وأدوات التشخيص المبكر، يفرض إعادة النظر في نماذج التمويل التقليدية، لكن هذا لا يعني التخلي عن المسؤولية الأخلاقية تجاه الملايين ممن لا يملكون بديلاً آخر.
وتلفت الصحيفة إلى أن الضغط الذي تمارسه جماعات الضغط اليمينية في الكونغرس قد يؤدي إلى إعادة توجيه المساعدات نحو برامج مشروطة أيديولوجياً، وهو ما قد يهدد المبادئ الأساسية للرعاية الصحية الشاملة وحقوق الإنسان.
وتحذر من أن تجزئة الدعم الدولي سيفتح الباب أمام فراغ قد تملؤه جهات غير حكومية ذات أجندات ضيقة، أو حكومات استبدادية تستغل المساعدات لأغراض سياسية.
وفي هذا السياق، دعا الأمين العام للأمم المتحدة، في مناسبات عدة، إلى حماية التمويل الصحي الدولي من التسييس، مطالباً الدول المانحة بالوفاء بالتزاماتها تجاه الفئات الأشد ضعفاً، كما نادت منظمة الصحة العالمية بضرورة زيادة الاستثمارات في النظم الصحية المحلية، وتعزيز الشراكات الدولية القائمة على الشفافية والمساءلة.
وفي المقابل، برزت بعض المبادرات المحلية والإقليمية لمواجهة النقص في التمويل، حيث بدأت دول مثل كينيا ورواندا في تخصيص ميزانيات وطنية كبرى لمكافحة الإيدز، كما أطلقت منظمات مجتمع مدني حملات توعية لجمع التبرعات من القطاع الخاص، ومع ذلك، فإن هذه الجهود لا تكفي لسد الفجوة التمويلية المتزايدة.
التباطؤ في الاستجابة العالمية
ويحذر خبراء الصحة العامة من أن التباطؤ في الاستجابة العالمية قد يؤدي إلى انتكاسة خطيرة في مسار مكافحة الإيدز، وإلى عودة ظهور بؤر وبائية جديدة في مناطق كانت قد شهدت تحسناً ملاحظاً، كما أن تراجع الاهتمام السياسي بهذه القضية يبعث برسالة سلبية إلى المجتمعات المحلية التي ناضلت لعقود من أجل الاعتراف بحقها في الصحة والعلاج.
وفي ضوء هذه التطورات، فإن ما يحدث ليس مجرد أزمة تمويل، بل أزمة قيم، فالتخلي عن دعم المرضى في أفقر مناطق العالم يعكس انحداراً أخلاقياً خطيراً في أولويات المجتمع الدولي، حيث يشدد خبراء حقوق الإنسان على أن ضمان الحق في الصحة يجب أن يظل أولوية إنسانية لا تخضع للمساومة السياسية أو الحسابات الضيقة.
لقد أثبتت تجربة "بيبفار" أن التضامن الدولي يمكن أن يصنع الفارق، وأن الاستثمار في الصحة هو استثمار في الكرامة والعدالة والاستقرار العالمي، لكن هذا الإنجاز التاريخي مهدد اليوم بالتآكل، ما لم تتحرك الدول المانحة سريعاً لإنقاذ ما تبقى، والتأكيد من جديد على أن حياة البشر ليست ورقة في لعبة السياسة.