حين يصبح الشارع بيتاً.. أطفال تونس في مواجهة الاستغلال والفقر

حين يصبح الشارع بيتاً.. أطفال تونس في مواجهة الاستغلال والفقر
أطفال الشوارع- أرشيف

في شوارع تونس العاصمة وضواحيها، وعلى الأرصفة وأسفل الجسور، تختفي براءة الأطفال تحت طبقات الغبار والخوف، قصص يرويها الصمت والخوف بدل الكلمات، أطفال في عمر الزهور، دفعتهم قسوة الحياة إلى الشارع، ليصبح مأواهم الوحيد ومسرحًا مفتوحًا أمام الاستغلال والإهمال.

تدقّ منظمات وجمعيات مدنية تونسية ناقوس الخطر مع تصاعد أعداد هؤلاء الأطفال، الذين يقعون فريسة سهلة لشبكات التسول، وعصابات الاتجار بالبشر التي تستغلهم في أنشطة إجرامية وأعمال تسويق مخدرات واستغلال جنسي، وبينما تتفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، تزداد أوضاع هؤلاء الأطفال سوءًا في ظل تراجع واضح لبرامج الحماية الرسمية.

وتُظهر البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة شؤون المرأة والأسرة والطفولة في تونس أن السلطات تلقت 1750 إشعارًا بوجود أطفال في وضعية تشرد خلال عام 2022، في ارتفاع مقارنة بالأعوام السابقة. في عام 2021، بلغ عدد الإشعارات المتعلقة بتعرض الأطفال للإهمال والتشرّد نحو 1600 إشعار، توزعت بين 57.8% من الذكور و42.3% من الإناث.

ويُقدّر عدد أطفال الشوارع في تونس بالآلاف، بينهم مئات يعيشون بشكل كامل في الشارع، دون أي صلة بأسرهم أو مدارسهم، ليجدوا أنفسهم في مواجهة مباشرة مع العنف والجريمة والانتهاكات.

الأسباب العميقة للأزمة

لا يمكن فهم أزمة أطفال الشوارع في تونس بمعزِل عن السياق الاقتصادي والاجتماعي الذي يطحن العائلات الفقيرة، فقد ارتفعت معدلات البطالة والفقر بشكل ملحوظ خلال السنوات العشر الأخيرة، حيث تشير تقارير البنك الدولي إلى أنّ معدل الفقر في تونس بلغ نحو 20% في عام 2023، بينما يعيش ملايين التونسيين على حافة العوز.

ومع تراجع قدرة الأسر على توفير حاجات أبنائها الأساسية، يصبح الشارع خيارًا قاسيًا ومرًّا، لكن في نظر بعض الأسر، هو الملاذ الوحيد حين تضيق بهم السبل.

وتنقسم هذه الظاهرة إلى ثلاثة أصناف:

- أطفال يُستغلّون اقتصاديًا مع بقائهم مرتبطين بأسرهم ومدارسهم.

- أطفال في قطيعة مع المدرسة لكنهم لا يزالون داخل أسر تعيش ظروفًا اجتماعية صعبة.

- الفئة الأشد هشاشة: أطفال يعيشون بالكامل في الشوارع، بينهم أطفال مهاجرون غير مصحوبين بذويهم.

جهود رسمية لم تكتمل

في محاولة للحد من هذه الظاهرة، أطلقت وزارة شؤون المرأة والأسرة والطفولة عام 2023 خطة لإعادة إدماج أطفال الشوارع في مراكز رعاية متخصصة أو ضمن أسر كافلة، بميزانية قدرت بـ1.5 مليون دينار تونسي (نحو 490 ألف دولار أمريكي)، بطاقة استيعابية لنحو 150 طفلًا يوميًا.

لكنّ الخطة سرعان ما واجهت عراقيل كبيرة، حيث توقف مشروع التعهّد النهاري دون تقديم أسباب واضحة، ما ترك الأطفال مجددًا بلا دعم كافٍ.

هذا التراجع الرسمي يعمّق هشاشة هؤلاء الأطفال ويتركهم نهبًا لعصابات الاستغلال، بينما تتحمّل الجمعيات المدنية العبء الأكبر بمحاولاتها المستمرة لسد الثغرات.

تقارير تدق ناقوس الخطر

التقارير الأممية لا تقل قلقًا عن نظيراتها المحلية. فقد حذّرت منظمة اليونيسف في تقارير سابقة من أنّ الأطفال في تونس يواجهون مخاطر متزايدة بسبب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية، داعية السلطات إلى تعزيز أنظمة الحماية والرعاية.

وأشار تقرير للمفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان إلى أنّ ظاهرة أطفال الشوارع في تونس ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتفكك الأسري والعنف المنزلي والفقر، ما يستلزم مقاربة شاملة تراعي هذه الجذور العميقة.

أبعاد إنسانية واجتماعية مقلقة

لا يتوقف أثر الظاهرة عند حدود الأرقام، هؤلاء الأطفال يتعرضون بشكل يومي للعنف الجسدي واللفظي، وسوء التغذية، والانتهاكات الجنسية، بحسب منظمة الدفاع عن حقوق الأطفال، هناك تزايد في حالات الإدمان المبكر بين أطفال الشوارع نتيجة قربهم من بؤر تجارة المخدرات.

إضافة إلى ذلك، يفقد هؤلاء الأطفال فرصهم في التعليم والرعاية الصحية، ما يفاقم دوامة الفقر ويخلق جيلاً جديدًا يواجه خطر الانحراف والجريمة.

الحلول الجزئية غير كافية، والمطلوب هو وضع استراتيجية وطنية تشاركية تشمل الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص، تركز على الإدماج المدرسي وإعادة التأهيل النفسي، وتوفير تكوين مهني للفتيان والفتيات لتمكينهم من دخول سوق العمل، وتوسيع طاقة استيعاب مراكز الرعاية والإيواء، ورفع ميزانية الحماية الاجتماعية المخصصة للأطفال.

شهدت تونس بعد الثورة في 2011 موجة تفاؤل اجتماعي بإمكانية بناء سياسات أكثر عدلاً تجاه الفئات المهمّشة، لكن ومع تعاقب الحكومات تراجعت الميزانيات الاجتماعية تحت ضغط الأزمات الاقتصادية والديون.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية