سيف ذو حدين.. مواقع التواصل الاجتماعي بين فضح الجرائم وحماية الضحايا

سيف ذو حدين.. مواقع التواصل الاجتماعي بين فضح الجرائم وحماية الضحايا
مواقع التواصل الاجتماعي

 

في عالم سريع الإيقاع تتقاطع فيه التقنية مع الإنسان، باتت مواقع التواصل الاجتماعي مساحةً مركزية لكشف الجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان، لكن هذه المساحة ليست بلا ثمن، فقد أظهرت قضية الممرضة الفرنسية المتهمة بالاعتداء الجنسي على رُضّع، والتي فُضحت عبر مقاطع فيديو صادمة على منصة "تيك توك"، هشاشة الحدود الفاصلة بين الحق في معرفة الحقيقة وضرورة حماية خصوصية الضحايا وصون كرامتهم.

هذه القضية التي هزّت الرأي العام الفرنسي في مطلع عام 2025، وأعادت إلى الواجهة نقاشًا أخلاقيًا معقدًا.. إلى أي مدى يمكن لمواقع التواصل الاجتماعي أن تلعب دورًا في فضح الجرائم وحماية الضحايا؟ وهل يتحول هذا الدور أحيانًا إلى خطر إضافي على العدالة وحقوق الإنسان ذاتها؟

قضية هزت الضمير الجمعي

تعود تفاصيل القضية إلى ديسمبر 2024 ويناير 2025، حيث جرى تداول مقاطع فيديو عبر تيك توك تُظهر تعرض رُضّع لانتهاكات جنسية داخل وحدة العناية المركزة لحديثي الولادة بمستشفى مونتروي شمال باريس، الممرضة البالغة من العمر 26 عامًا وُجهت إليها لاحقًا تهمة الاعتداء الجنسي على قاصرين والتقاط مشاهد إباحية ونشرها، في حين وُجهت تهمة التواطؤ لرجل يبلغ من العمر 28 عامًا كان على علاقة بها.

مع انتشار الفيديوهات، والتي تجاوز أحدها 1.4 مليون مشاهدة، اشتعل غضب واسع داخل فرنسا، خاصة بعد قرار القضاء الاكتفاء بوضع المتهمين تحت المراقبة القضائية بدلًا من حبسهما احتياطيًا حتى استكمال التحقيقات، الجمعيات الحقوقية والأوساط الطبية عبّرت عن صدمتها من وقوع مثل هذه الأفعال داخل مرفق يفترض أن يكون من أكثر الأماكن أمانًا للرضع والأطفال.

عين الحقيقة أم فخ الانتهاك؟

تكشف هذه القضية وجهين متناقضين لدور مواقع التواصل الاجتماعي في مجال حقوق الإنسان: الوجه الأول كأداة لكشف الحقيقة، فالمنظمات الحقوقية مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية طالما عدت وسائل التواصل أداة ثورية لنقل أصوات الضحايا إلى العالم، خصوصًا في أماكن النزاعات أو تحت أنظمة قمعية، إذ تمكنت مقاطع الفيديو المنشورة في عدة حالات من تحريك الرأي العام العالمي ودفع السلطات للتحقيق.

الوجه الثاني يتمثل في كونها أداة محتملة لانتهاك الحقوق، والخطورة تكمن في أن هذه الفيديوهات نفسها قد تضر بالضحايا، خاصة الأطفال والقاصرين، وتحوّل معاناتهم إلى محتوى استهلاكي سريع الانتشار، فقد حذر تقرير حديث صدر في 2024 عن اللجنة الدولية للصليب الأحمر من تسليع الألم الإنساني عبر منصات التواصل، مطالبًا بمدونات سلوك دولية للحد من نشر مشاهد صادمة تمس كرامة الضحايا.

أرقام وإحصاءات ترسم ملامح الأزمة

بحسب تقرير أصدرته منظمة هيومان ديجنيتي ترست في 2023:

أكثر من 32% من مقاطع الفيديو المنتشرة حول انتهاكات حقوق الإنسان تتضمن مشاهد قد تُعد مسيئة لضحايا العنف الجنسي.

نحو 19% من هذه الفيديوهات جرى استخدامها لاحقًا في حملات تضليل أو خطاب كراهية، بدلًا من دعم الضحايا.

وفي فرنسا، أظهر مسح أجراه المجلس الأعلى للإعلام الرقمي عام 2024 أن: نحو 61% من المستخدمين يرون أن مواقع التواصل تلعب دورًا مهمًا في كشف الانتهاكات، في حين يرى 44% منهم أيضًا أنها تُستخدم لتشويه الحقائق أو التشهير وبث الكراهية.

حين صنع الهاتف الثورة

من المهم تذكر أن دور وسائل الإعلام في كشف الانتهاكات ليس وليد اللحظة، في تسعينيات القرن الماضي، وثّقت تقارير مصورة مجازر رواندا والبوسنة وأسهمت في تحريك ضمير العالم، ثم جاء الربيع العربي ليُظهر القوة الاستثنائية للهواتف المحمولة وشبكات التواصل في نقل الحقيقة من الشارع إلى الشاشة.

لكن في العقد الأخير، تزايدت المخاوف بشأن الاستغلال الخاطئ: من فيديوهات التعذيب في السجون الليبية التي جرى تسريبها لأغراض ابتزاز سياسي، إلى مقاطع نشرها متطرفون لاستقطاب المؤيدين.

تساؤلات أخلاقية في قلب الأزمة

القضية الفرنسية الأخيرة فجّرت أسئلة لا تقل خطورة عن الجريمة نفسها منها من يتحمل مسؤولية حماية خصوصية الضحايا، خصوصًا الأطفال؟ وهل تكفي الرقابة الذاتية من المستخدمين، أم أن هناك حاجة إلى إطار قانوني أشمل؟ وكيف نوازن بين الحق في المعرفة وبين واجب احترام كرامة الضحايا وعدم إعادة إيذائهم معنويًا؟

هذه الأسئلة تجد صدى في تقرير للأمم المتحدة لعام 2023 الذي دعا إلى تطوير سياسات وطنية توازن بين حرية التعبير والمسؤولية الاجتماعية، محذرًا من أن التوثيق الرقمي العشوائي قد يضر أحيانًا أكثر مما ينفع.

دعوات لإصلاح السياسات والممارسات

بعد انتشار فيديوهات قضية الممرضة، طالبت جمعيات حقوق الطفل في فرنسا بتشديد إجراءات التحقق النفسي والأخلاقي للعاملين في أقسام حديثي الولادة، في حين دعا خبراء الإعلام الرقمي إلى:

اعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي لرصد وحذف المحتوى الذي يمس كرامة الضحايا.

إنشاء منصات موثوقة لتوثيق الانتهاكات دون تعريض الضحايا لمزيد من الأذى.

إعداد برامج تدريب للمواطنين والصحفيين حول أخلاقيات التوثيق والنشر.

في نهاية المطاف، تظل القضية الأهم إنسانية بامتياز، فالضحايا ليسوا مجرد صور أو أرقام في موجات الترند، بل أرواح تحتاج إلى عدالة لا تكتفي بكشف الجريمة، بل تضمن عدم مضاعفة الألم.

كما يقول الخبير الفرنسي في الإعلام الرقمي جان بيير دوبوا: "لا يكفي أن نكشف الحقيقة، بل يجب أن نكشفها بطريقة تحمي الإنسان قبل كل شيء".

قضية الممرضة الفرنسية تكشف مرة أخرى هشاشة الخط الرفيع بين فضح الجريمة وانتهاك حقوق الضحية. مواقع التواصل الاجتماعي تظل أداة قوية لا غنى عنها في كشف الانتهاكات، لكن إذا غاب الوعي الأخلاقي، قد تتحول هذه الأداة نفسها إلى وسيلة لإعادة إنتاج الألم.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية