من إرث القمع إلى فضاء حرّ.. هل تنجح المفوضية الأوروبية في حماية الحقوق الرقمية بألبانيا؟
من إرث القمع إلى فضاء حرّ.. هل تنجح المفوضية الأوروبية في حماية الحقوق الرقمية بألبانيا؟
في خطوة جديدة تعكس أهمية دمج مبادئ العدالة والحرية الرقمية ضمن مسار الإصلاحات السياسية والاجتماعية، أعلنت المفوضية الأوروبية مؤخرًا عن دعوة لتقديم مقترحات لدعم منظمات المجتمع المدني في ألبانيا.
وتحمل هذه المبادرة في طياتها أكثر من مجرد تمويل، إنها اعتراف بضرورة تقوية الفضاء المدني وحماية الحقوق في مرحلة مفصلية تسعى فيها ألبانيا لتعزيز مسار انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي.
تتجاوز هذه الدعوة الطابع الإداري، لتصبح حلقة جديدة في صراع طويل يخوضه المجتمع المدني الألباني ضد إرث الماضي الاستبدادي، وسط تحديات رقمية وأخلاقية متسارعة، وتطلعات لتكريس ثقافة ديمقراطية تحترم الإنسان وحقوقه.
واجهة للصراع والحرية
شهدت السنوات الأخيرة في ألبانيا ارتفاعًا ملحوظًا في حالات الانتهاكات الرقمية، مثل الهجمات الإلكترونية على وسائل الإعلام المستقلة وتسريبات البيانات الشخصية لمئات الآلاف من المواطنين، ما كشف هشاشة البنية التحتية للأمن السيبراني وضعف الأطر القانونية الخاصة بحماية البيانات.
وفقًا لتقرير حديث نشرته منظمة "مراسلون بلا حدود Reporters Without Borders "، تحتل ألبانيا المرتبة 96 من أصل 180 دولة في مؤشر حرية الصحافة لعام 2024، أما دراسة محلية صادرة عن مركز الأبحاث الألباني ISP فأشارت إلى أن 41% من الصحفيين يشعرون بأنهم لا يستطيعون التعبير بحرية عبر الإنترنت بسبب مخاوف قانونية أو ضغوط سياسية.
إن توجيه جزء من الدعم الأوروبي الجديد نحو تعزيز الحقوق الرقمية يعني بالضرورة مواجهة تحديات حساسة، من بينها ضمان حرية التعبير على الإنترنت، مكافحة خطاب الكراهية، والتصدي لسوء استخدام الذكاء الاصطناعي في مراقبة المواطنين أو تقييد حرية الإعلام.
ذاكرة وطن جريح
في قلب أزمة الديمقراطية الألبانية تكمن العدالة الانتقالية، إذ ما زال شبح الماضي الاستبدادي يلقي بظلاله على المجتمع. فقد كشفت اللجنة الألبانية لتقصي الحقائق أن ما يقرب من 18,000 شخص تعرضوا للسجن السياسي بين عامي 1944 و1991، إضافةً إلى عشرات الآلاف ممن عانوا من التهجير القسري والملاحقات.
رغم تأسيس هيئة ملفات الأمن عام 2015 لفتح أرشيف الشرطة السرية فإن العملية تواجه اتهامات بالانتقائية والبطء، وأكد تقرير للمفوضية الأوروبية في 2024 أن العدالة الانتقالية في ألبانيا لا تزال غير مكتملة، وسط حاجة لتسريع كشف الحقيقة وجبر الضرر وضمان عدم التكرار.
تسعى الدعوة الأوروبية إلى توجيه تمويل خاص لدعم منظمات المجتمع المدني العاملة في مجال العدالة الانتقالية، بهدف توثيق الانتهاكات، تقديم الدعم النفسي والقانوني للضحايا، وتعزيز ثقافة الاعتراف بالماضي كشرط أساسي لمصالحة وطنية حقيقية.
الديمقراطية بين الإصلاح والتحدي
الديمقراطية في ألبانيا لا تزال ديمقراطية ناشئة تواجه تحديات متجذرة، منها ضعف المشاركة الشعبية، وتدني الثقة في المؤسسات العامة، بحسب استطلاع أجراه المعهد الديمقراطي الوطني عام 2024، فإن 64% من المواطنين لا يثقون بالأحزاب السياسية، فيما عبّر 57% عن عدم رضاهم عن أداء البرلمان.
هذا الواقع يعكس أهمية دعم الثقافة الديمقراطية كأولوية للدعوة الأوروبية، عبر مشاريع تستهدف الشباب، تعزيز التربية المدنية، تقوية الإعلام المستقل، وتمكين الفئات المهمشة في الحياة العامة.
تتوزع الدعوة الأوروبية على أولويتين تمويليتين: الدفعة الأولى، بميزانية إجمالية تبلغ 800,000 يورو، تركز على الحقوق الرقمية والفضاء المدني، بما في ذلك دعم حرية التعبير، وحماية البيانات الشخصية، مكافحة المخاطر الرقمية مثل التلاعب بالمعلومات والذكاء الاصطناعي.
الدفعة الثانية، بميزانية إجمالية تبلغ 530,000 يورو، تُعنى بالعدالة الانتقالية والثقافة الديمقراطية، لتعزيز الحوار المجتمعي، الذاكرة التاريخية، وتطوير منظمات المجتمع المدني.
تتراوح قيمة المنح بين 165,000 و400,000 يورو للمشروع الواحد، على أن تمتد فترة التنفيذ من 24 إلى 36 شهرًا، ما يسمح بإطلاق مبادرات نوعية ومستدامة.
صوت المجتمع المدني
تقول ألما كريستي، مديرة منظمة "ProLindje" المتخصصة في العدالة الانتقالية: "التمويل الدولي يمثل شريان حياة لنا، لكن الأهم أن يُترجم إلى نتائج ملموسة: أرشيف مفتوح بالكامل، اعتراف رسمي بضحايا الماضي، وضمانات قانونية لعدم تكرار الانتهاكات".
أما أرتان بوشاتي، الباحث في الحقوق الرقمية، فيحذر من أن "التحولات الرقمية السريعة في ألبانيا تفوق أحيانًا قدرة التشريعات الحالية على الاستجابة، ما يخلق فراغًا قد يُستغل لتقييد الحريات بدلًا من حمايتها".
وتؤكد المفوضية الأوروبية في تقريرها السنوي عن ألبانيا أن منظمات المجتمع المدني تلعب دورًا أساسيًا في الإصلاح الديمقراطي، لكنها تعاني من محدودية التمويل المحلي وضعف البنية القانونية،كما أشارت منظمة العفو الدولية(Amnesty) إلى استمرار حالات الإفلات من العقاب في جرائم الماضي، وغياب إطار شامل لحماية المدافعين عن حقوق الإنسان.
الأمم المتحدة، بدورها، دعت الحكومة الألبانية في تقرير مجلس حقوق الإنسان لعام 2023 إلى ضمان حرية الإنترنت كحق أساسي، وتسريع عملية العدالة الانتقالية عبر ضمان الشفافية والمساءلة.
عبء الماضي وأمل المستقبل
خرجت ألبانيا من أعتى الأنظمة الشمولية في أوروبا عام 1991، بعد نحو 45 عامًا من حكم الحزب الواحد بقيادة أنور خوجة، فُتحت البلاد تدريجيًا أمام العالم، لكن آثار القمع السياسي، والرقابة الصارمة، والانتهاكات الجسيمة بقيت حاضرة في الذاكرة الجمعية.
في العقدين الماضيين، سعت ألبانيا إلى تعزيز مكانتها كدولة أوروبية ديمقراطية، فتبنت إصلاحات في القضاء، وحرية الصحافة، والحوكمة، لكن عملية المصالحة مع الماضي بقيت متعثرة، وسط أزمات اقتصادية وهجرة واسعة للشباب بحثًا عن فرص أفضل.
وتأتي المبادرة الأوروبية كإقرار بأن التحول الديمقراطي لا يُبنى بالقوانين فقط، بل يتطلب أيضًا مجتمعًا مدنيًا قويًا، ذاكرة صادقة، ومساحة رقمية حرة وآمنة.
ويؤكد مراقبون حقوقيون أن دعم الحقوق الرقمية والعدالة الانتقالية والثقافة الديمقراطية في ألبانيا ليس مجرد أولوية تمويلية، بل هو استثمار في إنسانية المجتمع الألباني ومستقبله الأوروبي، حيث لا يُخشى من طرح الأسئلة الصعبة عن الماضي، ولا يُقمع الصوت الناقد في الحاضر، لتبقى الديمقراطية وعدًا حقيقيًا لا مجرد شعار.