سوق الموت.. كيف غذّت التجارة الإلكترونية منتجات مغشوشة تهدد حياة الملايين؟
سوق الموت.. كيف غذّت التجارة الإلكترونية منتجات مغشوشة تهدد حياة الملايين؟
ازدهرت التجارة الإلكترونية خلال عقدين، لكن جانبها المظلم كشف ثغرات قاتلة: منصات ومواقع غير منظمة تبيع أدوية ومنتجات طبية مزوّرة ومغشوشة أو منزوعة الفعالية، أو ملوَّثة بمواد سامة—مشكلة لا تميّز بين دول متقدمة أو منخفضة الدخل، وتنعكس خطراً مباشراً على الصحة العامة واقتصاد الرعاية الصحية، وتصف منظمة الصحة العالمية الأدوية المزوّرة بأنها منتجات تُزيّف عمداً هويتها أو تركيبها أو مصدرها، وقد تفتقد للمادة الفعالة أو تحتوي ملوثات قاتلة.
الأدوية المغشوشة تظهر بأشكال متعددة منها أقراص أو حقن بها مكوّنات خاطئة أو جرعات غير مطابقة، وشراب معبأ بمواد صناعية سامة كالإيثيلين غليكول أو الديإيثيلين غليكول، أو عبوات أصلية أعيد توزيعها خارج القنوات القانونية.
وسهلت التجارة الإلكترونية وصول هذه المنتجات إلى المستهلك مباشرة، وغالباً بأسعار مغرية وتحت ستار وصفات مزورة أو متاجر تبدو قانونية، وتؤكد تحذيرات منظمة الصحة أن التسوّق من مصادر غير مرخّصة يعرّض المرضى لمخاطر صحية كبيرة وقد يسرّع مقاومة الميكروبات.
حالات شاهدة على الخطر
أحداث السنوات الأخيرة جسّدت الخطر فقد توفي مئات الأطفال بعد تناول شراب سعال ملوَّث في بلدان عدة بين 2022 و2023، ما دفع منظمة الصحة العالمية لإطلاق نداءات عاجلة لتعزيز الرقابة على سلاسل التوريد والمكوّنات الخام.
وانتشرت تحذيرات من دفعات مزيفة من عقاقير شهيرة مثل أدوية السمنة والسكري المستندة إلى السيماغلوتايد، وهو ما أظهر كيف يستهدف السوق الأسود أدوية عالية الطلب والعالي الثمن بحسب منظمة الصحة العالمية.
وتكشف التقارير الدولية أن المشكلة أكبر من أن تُحتوى محلياً، وتقدر الأمم ووكالات رصد أخرى أن أكثر من واحد من كل عشرة أدوية في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل قد يكون دون المستوى أو مزيّفاً، وأن الدول تنفق مليارات الدولارات سنوياً نتيجة هذه المنتجات؛ تقديرات منظمة الصحة تشير إلى خسائر تقارب 30.5 مليار دولار سنوياً بسبب السلع الطبية المزوّرة.
كما أن تقديرات أوسع لاقتصاد السلع المزيّفة تشير إلى مليارات أخرى تُربَح من تجارة غير شرعية تتزايد حضورها عبر الإنترنت.
إنفاذ القانون
جهود إنفاذ القانون لم تكن غائبة، فقد أصدرت عملية دولية كبرى تم تنسيقها مع الإنتربول باسم Operation Pangea نتائج كبيرة مؤخراً، حيث أعلنت ضبط عشرات الملايين من جرعات الأدوية الممنوعة وإيقاف مئات من الأشخاص عبر نحو 90 دولة، وهي نتيجة تعكس شراسة الظاهرة وحجم الشبكات الإجرامية، لكنها أيضاً تكشف أن الضربات الأمنية وحدها لا تمنع إنتاج وتوزيع المزور، وينبه خبراء إلى أن العقوبات على جريمة الأدوية أقل حدة من جرائم المخدرات في كثير من النظم القضائية، ما يسهّل تواصل النشاط الإجرامي.
وتحث المنظمات الصحية الدولية والوطنية على مقاربة شاملة ليس مجرد إنفاذ بل بناء نظم رقابية دولية، شفافية في سلاسل التوريد، وحماية المستهلكين من خلال حملات توعية واضحة، وتحذر منظمات حقوقية من أن عبء الضحايا يقع غالباً على الفئات الضعيفة، كالأطفال، والمسنين، ومرضى مزمنين -الذين يبحثون عن دواء بأسعار معقولة أو بديل متاح عبر الإنترنت- كما تطالب الصناعة الدوائية بحلول تقنية للتحقق من السلسلة، وتشدد على أن الشفافية والقدرة على تتبع المنتج من المصنع إلى المريض أمران أساسيان لاستعادة الثقة.
وتوجد أطر قانونية وأدوات تعاون دولي يمكن توسيعها، وتفرض اتفاقية MEDICRIME للمجلس الأوروبي تجريم التزييف الطبي وتسهيل التعاون القضائي، في حين طوَّرت منظمة الصحة العالمية آليات منظّمة مثل نظام الإنذار الطبي وقاعدة بيانات للمنتجات المبلّغ عنها، لكن التحدّي أن كثيراً من البلدان إما لم تصادق على هذه الاتفاقيات أو تفتقر إلى موارد الرقابة والتجهيزات المخبرية للتمييز بين الأصلية والمزوّرة، ويدعو الخبراء إلى توحيد تعريفات جنائية وتنسيق أقوى بين المنظمات الصحية، الأجهزة القضائية، ومنصات التجارة الإلكترونية.
التجارة الإلكترونية والمنصات الرقمية
المنصات الكبرى تتحمّل مسؤولية واضحة تتمثل في إغلاق الإعلانات غير القانونية، وفرض متطلبات موثوقية للمعلنين، وتمكين المستهلكين من التحقق السهل قبل الشراء، وتشير تقارير حكومية ومنظمات مستقلة إلى أن بعض المواقع الأسهل للوصول تُستخدم لتحويل الأسواق المحلية إلى قنوات لتوزيع الأدوية المغشوشة، وأن تعاون المنصات مع أجهزة الرقابة والشرطة لا يزال متقطعاً، كذلك، ثمة دعوات لآليات التتبع الرقمية (باركودات معتمدة، بلوك تشين) وفرض قواعد صارمة على بيع المستحضرات الطبية عبر الإنترنت.
التصدي لأزمة الأدوية المزورة يتطلّب حزمة من الإجراءات المتزامنة وفق توصيات منظمة الصحة العالمية والإنتربول، منها تقوية نظم الرقابة الوطنية وتوحيد الأطر الجنائية الدولية واعتماد أحكام رادعة مماثلة لتلك الخاصة بالمخدرات وفرض قواعد تنظيمية واشتراطات شفافية على منصات التجارة الإلكترونية، وتنفيذ حملات توعية للمستهلكين حول مخاطر الشراء من مصادر غير موثوقة، ودعم تقنيات التتبّع والتوثيق في سلسلة التوريد الدوائي، وهذه الخطوات لا تقل أهمية عن القبض على المهرّبين، إنها تستهدف تقليل الطلب وقطع الإمداد.
خسائر الأرواح والدمار الصحي والاقتصادي الناتج عن أدوية مزوّرة ليست مجرد أرقام، إنها قصص عائلات فقدت أبناءها، مرضى لم يتلقوا العلاج، ونظم صحية تتهالك، ومكافحة هذه الآفة تتطلب إرادة سياسية دولية، تعاون بين الحكومات والشركات والمنظمات المدنية، ومثابرة على بناء منظومة آمنة تضع صحة الإنسان قبل الربح السريع. إذا لم تُغلَق ثغرات السوق الرقمي الآن، فستنمو تجارة قاتلة تغزو كل بيت على الشبكة وفق منظمة الصحة العالمية.