ارتفاع معدلات اعتقال القاصرين الفلسطينيين.. لماذا يفلت منتهكو حقوق الأطفال من العقاب؟
ارتفاع معدلات اعتقال القاصرين الفلسطينيين.. لماذا يفلت منتهكو حقوق الأطفال من العقاب؟
تصف شهادات حقوقية محلية ودولية واقع احتجاز الأطفال الفلسطينيين في السجون ومواقع الاحتجاز الإسرائيلية بأنه يتراوح بين التجريد من أبسط الحقوق والكسر المنهجي لكرامتهم الإنسانية، فمنذ سنوات، يحاكم مئات الأطفال سنوياً أمام منظومة القضاء العسكري في الضفة الغربية، في سابقة فريدة.
تقول منظمات حقوقية إن إسرائيل تنفرد بها عالمياً، مع ما يرافق ذلك من اعتقالات ليلية، وتكبيل وعصب أعين، واستجوابات طويلة بمعزل عن الأهل والمحامين، وتؤكد منظمات دولية أن هذا الواقع ازداد قسوة منذ أكتوبر 2023، مع ارتفاع وتيرة الاعتقالات وتدهور شروط الاحتجاز.
شهادات على الإساءة الممنهجة
تفيد روايات أطفال محررين وأسرهم ومحامين بانتشار الضرب والتهديد والإهانات خلال النقل والتحقيق، وأحياناً خلال الزيارات العائلية نفسها.
وقد وثقت منظمات حقوقية نقصاً في النظافة والإنارة والتهوية، وازدياداً في الأمراض الجلدية، إلى جانب العزل والحرمان من الزيارات وساعات الفورة، والقيود الممتدة على اليدين والقدمين.
ووفقاً لأبحاث حفظتها منظمات متخصصة بالأطفال، منها "سيف ذا تشيلدرن" والمفوضية السامية لحقوق الإنسان، فإن أربعة من كل خمسة أطفال تعرضوا للضرب أثناء الاحتجاز، وثلثاهم خضعوا للتفتيش الجسدي المهين، فيما أصيب نحو النصف عند لحظة الاعتقال.
وأفاد بعض الأطفال تعرضهم لعنف ذي طبيعة جنسية أو التهديد به، هذه الشهادات تتسق مع تقارير أممية حديثة تتهم سلطات الاحتجاز باستخدام أساليب ترقى إلى التعذيب وسوء المعاملة، وهو ما تنفيه إسرائيل على نحو قاطع.
أرقام تعكس اتساع الظاهرة
بحسب رصد منظمات حقوقية مختصة، يجري احتجاز ومحاكمة ما بين خمسمئة وسبعمئة طفل فلسطيني سنوياً في النظام القضائي العسكري، بعضهم دون الثامنة عشرة بفارق كبير.
وبعد التصعيد في غزة والضفة الغربية ارتفعت أعداد المعتقلين الإجمالية في السجون الإسرائيلية إلى ما يزيد على عشرة آلاف أسير، فيما تشير هيئات فلسطينية رسمية إلى أن مئات الأطفال ما زالوا رهن الاعتقال.
وعلى صعيد غزة، حذرت منظمات دولية من أن آلاف الأطفال في عداد المفقودين تحت الأنقاض أو محتجزون أو منفصلون عن أسرهم، ما يزيد صعوبة التحقق من مصائر القاصرين المحتجزين أو من تعرضهم للانتهاكات.
مواقف المنظمات الحقوقية
محلياً، توثق مؤسسات مثل الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال في فلسطين وهيئة شؤون الأسرى وشبكات المحامين نمطاً متكرراً من الحرمان من الاتصال السريع بالمحامي والأهل، والتوقيع على إفادات بالعبرية لا يفهمها الطفل، والاحتجاز في زنازين ضيقة أو في عزل انفرادي خلال فترات التحقيق.
دولياً، دعت منظمات -كمنظمة أنقذوا الأطفال ومنظمة العفو الدولية- إلى إنهاء الاحتجاز بمعزل عن العالم الخارجي ومراجعة القوانين التي تتيح الاحتجاز لأجل غير مسمى بحق فلسطينيين، من بينهم أطفال، وطالبت بتحقيقات مستقلة ومساءلة عن التعذيب وسوء المعاملة، كما حثت وكالات أممية ولا سيما مفوضية حقوق الإنسان على وقف الاعتقال التعسفي وضمان وصول المراقبين الأمميين إلى أماكن الاحتجاز.
الإطار القانوني الدولي
إسرائيل طرف في اتفاقية حقوق الطفل واتفاقية مناهضة التعذيب، ما يُرتب عليها التزامات واضحة بحظر التعذيب وسوء المعاملة، وضمان ألا يُحرم أي طفل من حريته إلا ملاذاً أخيراً ولأقصر فترة ممكنة، وأن تُراعى مصلحته الفضلى في كل إجراء.
كما تفرض اتفاقية جنيف الرابعة التزامات حماية خاصة للأطفال في الأراضي المحتلة، وتمنع النقل القسري والاعتقال التعسفي وسوء المعاملة، وقد خلصت لجنة حقوق الطفل التابعة للأمم المتحدة خلال مراجعات حديثة إلى وجود انتهاكات جسيمة لحقوق الأطفال في سياق العمليات العسكرية والاحتجاز، مطالبة بوقف الانتهاكات وتمكين الضحايا من الانتصاف.
السردية الرسمية وموقع المساءلة
تنفي السلطات الإسرائيلية بصورة منهجية اتهامات التعذيب والعنف الجنسي وسوء المعاملة بحق السجناء والمحتجزين الفلسطينيين، وتؤكد أنها تلتزم بالقانون وأن أي تجاوزات فردية تخضع للتحقيق، إلا أن امتناع السلطات عن إتاحة وصول منتظم لجهات رقابية مستقلة، ومنع الزيارات أو تأخيرها، ورفض تمكين منظمات أممية من الرصد الميداني، كلها عوامل -كما تقول منظمات حقوقية- تقوض الثقة وتعرقل المساءلة. وتزيد خطورة الوضع ما أوضحته تقارير إعلامية وحقوقية عن مراكز احتجاز عسكرية مؤقتة وظروف قاسية، وعن محاكمات أمام القضاء العسكري بمعدلات إدانة مرتفعة للغاية.
وتطالب منظمات دولية بإشراك آليات الأمم المتحدة المختصة على نحو فعلي، وبضمان أعمال المتخصصين من المحامين والأطباء الشرعيين، وبوقف احتجاز القاصرين بمعزل عن العالم الخارجي.
الضرر لا يتوقف عند جدران السجن، فالخبرات التراكمية للأطفال الذين يتعرضون للاعتقال والضرب والعزل والحرمان من الأسرة والتعليم تترك أثراً نفسياً طويل الأمد يتبدى في القلق واضطرابات النوم والصدمات المعقدة، كما تؤثر في التحصيل الدراسي والتكيف الاجتماعي وتزيد احتمالات الانقطاع عن المدرسة.
وتفيد فرق الرعاية النفسية العاملة مع الأطفال المفرج عنهم بظهور أعراض جسدية مرتبطة بالصدمة، وبانتشار عدوى جلدية وسوء تغذية في بعض مرافق الاحتجاز، وهي مؤشرات على بيئة صحية متدهورة يمكن أن ترقى، وفق خبراء أمميين، إلى معاملة قاسية ولا إنسانية ومهينة.
ما الذي يلزم لتغيير المعادلة
تجمع توصيات المنظمات الأممية والحقوقية على حزمة خطوات عاجلة تشمل وقف الاعتقال التعسفي للقاصرين، وضمان الوصول الفوري إلى محام وأفراد الأسرة، ومنع الاستجواب دون حضور راشد موثوق، ورفض استخدام العزل الانفرادي لأي طفل، وضمان الرعاية الطبية المستقلة والمنتظمة، وإتاحة الزيارات والمراقبة الدولية غير المقيدة لأماكن الاحتجاز، ومراجعة الأوامر العسكرية ذات الصلة لتتوافق مع المعايير الدولية الخاصة بالأحداث.
كما تدعو هذه التوصيات إلى تحقيقات شفافة وقابلة للتحقق من ادعاءات التعذيب وسوء المعاملة، ومحاسبة المسؤولين عنها، وتعويض الضحايا تأهيلاً وجبراً، ويشدد خبراء الأمم المتحدة على أن استمرار الإنكار الرسمي، بالتوازي مع تضييق الرقابة الخارجية، يفاقمان مناخ الإفلات من العقاب.
بين السياسات العامة والواقع الميداني
وفق الأمم المتحدة يكمن التحدي في الفجوة الواسعة بين نصوص القوانين التي تعِد بمعايير لحماية الأحداث، وبين منظومة ميدانية عسكرية تجرّم السلوكيات المرتبطة بالاحتجاج وتقيد الحركة وتتيح الاعتقال والتحقيق والحبس في سياق نزاع طويل الأمد، هذا التناقض يحول الطفل من صاحب حق إلى مشتبه دائم في محيط عالي التوتر، بما يعطل أي جهود لإعادة التأهيل وإعادة الإدماج، وتؤكد منظمات متخصصة أن الحلول الأمنية البحتة تثبت فشلها على المدى البعيد، وأن الاستثمار في بدائل الاحتجاز والعدالة الإصلاحية والتعليم والرعاية النفسية هو شرط لازم لتقليص دائرة العنف وإتاحة أفق حماية حقيقية للأطفال.
الانتهاكات الموثقة بحق الأسرى الأطفال الفلسطينيين تكشف نظاماً احتجازياً يفتقر إلى ضمانات أساسية، ويصطدم بالتزامات إسرائيل بموجب اتفاقية حقوق الطفل واتفاقية مناهضة التعذيب والقانون الإنساني الدولي، وبينما تواصل السلطات الإسرائيلية نفي الاتهامات وتقديمها باعتبارها روايات مسيسة، تتدفق شهادات الضحايا وتقارير المنظمات المستقلة لتؤكد الحاجة إلى مسارات رقابية وقضائية فعالة، وإلى تغيير جوهري في السياسات والممارسات.
وتشدد مجموعة معاهدات الأمم المتحدة والمفوضية السامية لحقوق الإنسان على أن حماية الأطفال في النزاعات ليست ترفاً أخلاقياً، بل التزام قانوني عالمي لا يسقط بالتذرع بالضرورات الأمنية، وأي مقاربة لا تضع مصلحة الطفل الفضلى في صلبها محكوم عليها بإعادة إنتاج المأساة جيلاً بعد جيل.
إسرائيل صادقت على اتفاقية حقوق الطفل عام 1991، وعلى اتفاقية مناهضة التعذيب، ما يفرض عليها حظر التعذيب وسوء المعاملة وتأمين ضمانات محاكمة عادلة تراعي سن الحدث، وفي الضفة الغربية يعمل نظام قضائي عسكري مواز يحاكم الأطفال الفلسطينيين منذ سنوات، وتقول منظمات حقوقية إن إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تنتهج محاكمات عسكرية منهجية بحق قاصرين، وبعد أكتوبر 2023، تصاعد الاعتقال في الضفة وازداد غموض مصير محتجزين من غزة مع تقارير عن احتجاز بمعزل عن العالم الخارجي في مواقع عسكرية مؤقتة، وقيود على زيارات المحامين والأمم المتحدة.
وبينما تشير إحصاءات حقوقية إلى أن مئات الأطفال ما زالوا في السجون ضمن أكثر من عشرة آلاف معتقل فلسطيني، حذرت منظمات إنسانية من أن ظاهرة الأطفال المفقودين في غزة تعقد التحقق من الأعداد الدقيقة للقاصرين المحتجزين أو المفقودين، وقد دعت لجنة حقوق الطفل وهيئات أممية أخرى إلى إنهاء هذه الممارسات ومواءمة المنظومة القانونية والميدانية مع المعايير الدولية الخاصة بالأحداث، وتمكين المراقبة المستقلة والمساءلة الفعالة.