أزمة تمويل الرعاية.. كيف يؤثر استهداف تنظيم الأسرة في صحة الملايين بالولايات المتحدة؟

أزمة تمويل الرعاية.. كيف يؤثر استهداف تنظيم الأسرة في صحة الملايين بالولايات المتحدة؟
أحد مراكز رعاية الأسرة

تسعى الجهود الفيدرالية الحالية في الولايات المتحدة إلى إعادة صياغة حدود الرعاية عبر أداة التمويل، لكنها تصطدم بحقائق ميدانية صلبة، فتنظيم الأسرة ليس مجرد شعار سياسي، بل شبكة عيادات تشكّل نقطة دخول رئيسية لملايين الفقراء إلى خدمات أساسية.

في عيادة مزدحمة على أطراف مدينة متوسطة الدخل، تشخص الممرضة إصابة منقولة جنسيا وتحث مريضة في العشرينيات على استكمال المتابعة، مثل هذه الزيارة السريعة، غير المكلفة والمُنقذة أحيانا، قد تصبح رفاهية نادرة إذا مضت الإدارة الأمريكية في جهودها لحرمان منظمة تنظيم الأسرة من تعويضات "ميديكيد".

وبعد أن أقر الكونغرس حزمة إنفاق وضريبية في يوليو تقضي باستبعاد مقدمي الخدمات الذين يجرون عمليات الإجهاض من استرداد تكاليف خدماتهم لمنتفعي ميديكيد، دخلت منظومة الرعاية على مفترق حاد بين سياسات الهوية والواقع السريري، قبل أن يوقف قاضٍ مؤقتا تنفيذ الحظر بينما تمضي الطعون قدما، هذه المعركة القانونية لا تجري في الفراغ، بل فوق أجساد وميزانيات ملايين المرضى محدودي الدخل الذين يعتمدون على زيارات تنظيم الأسرة للفحص، ومنع الحمل، والكشف المبكر عن السرطان، وتلقى العلاج الأولي، وفق صحيفة "الغارديان".

على الرغم من أن قانون هيد يمنع استخدام الأموال الفيدرالية في معظم حالات الإجهاض منذ سبعينيات القرن الماضي، فإن شبكات العيادات تلقّت تاريخيا تعويضات ميديكيد عن خدمات أخرى غير الإجهاض، الجديد أن التشريع الأخير يحظر التعويض لفترة سنة على أي جهة غير ربحية تقدم الإجهاض ولو في مواقع منفصلة، ما يعني قطع شريان تمويل يخص خدمات لا علاقة لها بالإجهاض، وزاد المشهد تعقيدا حكمٌ صادر في يونيو أقرّ أن مستفيدي ميديكيد لا يملكون حق مقاضاة الولاية إذا منعتهم من اختيار مقدم الخدمة المؤهل، وهو مبدأ كان يُستخدم لصد محاولات استبعاد تنظيم الأسرة على مستوى الولايات، وبينما علّق قاضٍ فيدرالي الحظر وطنيا إلى حين الفصل في القضية، تبقى أبواب التقاضي والالتفاف التشريعي مفتوحة على مزيد من عدم اليقين، وفق "أسوشيتدبرس".

حجم الفجوة المحتملة

وثّقت دراسة حديثة منشورة في مجلة طبية محكّمة أكثر من مليون ونصف المليون زيارة ممولة عبر ميديكيد لعيادات تنظيم الأسرة في عام واحد فقط، ما يعكس اعتمادا بنيويا لذوي الدخل المحدود على هذه الشبكة، ويحذر الباحثون من أن مقدمي الخدمات الآخرين يفتقرون ببساطة إلى القدرة على استيعاب الطلب إذا غابت عيادات تنظيم الأسرة، وهو ما أكدته التجربة التاريخية في تكساس عندما انخفض استخدام وسائل منع الحمل الفعالة وارتفعت الولادات المشمولة بميديكيد بعد إقصاء العيادات.

 وتقدّر تحليلات سياسات صحية أن حصة ملحوظة من النساء المستفيدات من ميديكيد يعتمدن على هذه العيادات في الحصول على خدمات تنظيم الأسرة، ما يجعل أي انقطاع تمويلي مترجما فورا إلى فجوات في الوقاية والعلاج.

ويُظهر تقرير سنوي حديث لمنظمة تنظيم الأسرة ملايين الفحوص والعلاجات للأمراض المنقولة جنسيا ومئات آلاف خدمات الوقاية من السرطان وتوفير وسائل منع الحمل سنويا، وفي أحد أكبر الفروع في كاليفورنيا، يشكل منتفعو ميديكيد نحو نصف المرضى، وتم رصد آلاف الحالات الإيجابية لعدوى الزهري وغيرها في عام واحد، وهي أرقام تعكس وظيفة وقائية لا يمكن تعويضها بسهولة، ووقف التعويضات يعني عمليا تقليص برامج فحص الأمراض المنقولة جنسيا والكشف المبكر عن السرطان ومنع الحمل طويل الأمد، وهي خدمات أساسية في كبح انتقال العدوى وتقليل وفيات السرطان غير الضرورية. 

ردود الفعل الطبية والحقوقية

الهيئات المهنية كالمجمع الأمريكي لأطباء التوليد والنسائيات تؤكد أن الرعاية الإنجابية، بما فيها الإجهاض جزء لا يتجزأ من الممارسة الطبية القائمة وأن أي قيود تمويلية عقابية تضر بالسلامة وجودة الرعاية، من جهتها ترى منظمات حقوقية، منها هيومن رايتس ووتش ومركز الحقوق الإنجابية، أن سياسات التجريم والإقصاء بعد حكم دوبس أنتجت أزمة حقوق إنسان داخلية، بتبعات غير متناسبة على النساء والفتيات والفئات المهمشة، وتؤكد منظمة الصحة العالمية أن الرعاية الإنجابية، بما فيها الإجهاض الآمن، خدمة صحية أساسية ينبغي أن تتاح ضمن حزمة خدمات متكاملة، وهو معيار دولي مرجعي تقيس به الدول اتساق سياساتها الصحية مع الحق في الصحة.

وعلى مستوى الأمم المتحدة، حذّر خبراء حقوق الإنسان بداية العام من تراجع التزامات الولايات المتحدة بحقوق الإنسان داخليا، فيما عبّر صندوق الأمم المتحدة للسكان عن أسفه لقرارات إنهاء أو منع التمويل الأمريكي لبرامج الصحة الإنجابية الأممية، محذّراً من أثر ذلك على رعاية الأمومة، والوقاية من العنف، وخدمات الطوارئ في أزمات إنسانية حول العالم، هذا المناخ المالي والسياسي نفسه ينعكس داخليا في الولايات المتحدة عبر تضييق التمويل على مقدمي خدمات الصحة الإنجابية المحليين، ما يخلق دائرة تأثير تمتد من العيادة المحلية إلى البرامج الأممية العابرة للحدود.

الارتباك القانوني وحده كفيل بإحداث الضرر، في أوهايو، توقفت بعض الأفرع مؤقتا عن قبول برنامج ميديكيد خشية استرجاع حكومي مستقبلي للمدفوعات إذا أُلغي أمر الوقف القضائي، وجرى تقليص توفير وسائل منع الحمل طويلة الأمد لمرضى ميديكيد لاعتبارات المخاطر المالية، وفي ولايات ريفية وشبه ريفية، تشير دعاوى قضائية حديثة إلى أن شبكات بديلة غير ربحية قد تضطر لإغلاق عيادات أو وقف الرعاية الأولية إذا انقطعت تعويضات ميديكيد، ما يعني أن المريض الذي كان يجد بابا واحدا مفتوحا قد لا يجد بابا على الإطلاق، وفق "أسوشيتدبرس".

العيادات المجتمعية وملء الفراغ

غالبا ما يُقال إن المراكز الصحية المؤهلة اتحاديا يمكنها استيعاب الطلب، وتظهر البيانات الحديثة عن العيادات العامة وشبكات تنظيم الأسرة أن كلا الجناحين يخدمان شرائح كبيرة من المراجعين في مجال منع الحمل، لكن الفجوة الظرفية في الطاقة الاستيعابية، وتمويل القوى العاملة، والبنية التشغيلية، تجعل نقل العبء بسرعة أمرا غير واقعي، كما أن إدراج الرعاية الإنجابية ضمن سلة الخدمات الأساسية يستلزم استمرارية تمويل ووضوح قواعد الخصوصية، وقد أقرّت وزارة الصحة الأمريكية مؤخرا قاعدة نهائية لتعزيز حماية خصوصية المعلومات الصحية المتعلقة بالرعاية الإنجابية في وجه الاستخدامات العقابية، لكن سياسات التمويل المتأرجحة تُبقي مقدمي الخدمة بين مطرقة الامتثال وسندان الاستدامة. 

قطع التمويل لا يوقف الإجهاض، لكنه يوقف الفحوص والكشف المبكر ومنع الحمل للفقراء، ويحوّل التكلفة إلى أنظمة الطوارئ والمستشفيات وموازنات الولايات، وأي مقاربة مسؤولة للصحة العامة ينبغي أن تميّز بين التمويل المخصص للخدمات غير المرتبطة بالإجهاض، الذي يعتمد عليه الملايين، وبين الجدل السياسي حول الإجهاض نفسه، والإطار الممكن يبدأ بإبقاء تعويضات ميديكيد لخدمات الصحة الجنسية والإنجابية غير المرتبطة بالإجهاض، وتوسيع عقود الشراء مع مقدمي الخدمة المؤهلين، وتثبيت حماية الخصوصية، وتحفيز الشراكات مع المراكز المجتمعية دون إرغامها على السياسات العقابية.

يذكر أن قانون هيد الذي تبنّاه الكونغرس عام 1976 يمنع استخدام الأموال الفدرالية لتمويل معظم عمليات الإجهاض، مع استثناءات محدودة، بعد حكم دوبس عام 2022 الذي ألغى سابقة "رو" ضد "وايد"، شهدت الولايات مسارات متباعدة بين التقييد والتوسيع، وتزايدت محاولات استبعاد مقدمي الخدمة عبر آليات التمويل والترخيص.

تاريخيا تلقّت عيادات تنظيم الأسرة جزءا مهما من إيراداتها من ميديكيد لقاء خدمات غير مرتبطة بالإجهاض مثل منع الحمل والكشف عن السرطان وفحوص العدوى المنقولة جنسيا، وتفيد تقديرات حديثة بأن العيادات قدّمت أكثر من مليون ونصف المليون زيارة ممولة عبر ميديكيد في عام واحد، وأن نسبة معتبرة من المستفيدات يعتمدن عليها للحصول على خدمات تنظيم الأسرة.

وتشير تقارير ميدانية إلى أن محاولات الاستبعاد في بعض الولايات أدت إلى انخفاض استخدام وسائل منع الحمل الفعالة وارتفاع الولادات المشمولة بميديكيد، وعلى المستوى الدولي حذّرت وكالات أممية ومنظمات بحثية من انعكاسات التخفيضات الأمريكية على برامج الصحة والحقوق الإنجابية عالميا، ومن بينها قرارات إنهاء التمويل لبرامج تابعة للأمم المتحدة للسكان. 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية