جزيرة أمورغوس.. اختبار يوناني لحقوق البيئة والسيادة البحرية في قلب المتوسط
جزيرة أمورغوس.. اختبار يوناني لحقوق البيئة والسيادة البحرية في قلب المتوسط
بينما تتسارع خطوات العالم نحو بلوغ هدف حماية 30% من المحيطات بحلول عام 2030، اختارت اليونان أن تتحرك بسرعة لافتة بإعلانها عن إنشاء أول محمية بحرية كبرى في جزيرة أمورغوس، الواقعة في قلب بحر إيجه، هذه المبادرة، التي تبدو في ظاهرها خطوة بيئية رائدة، تحمل في طياتها أبعادًا حقوقية وجيوسياسية تتجاوز مجرد حماية النظام البيئي البحري، لتلامس قضايا السيادة، العدالة المناخية، وحقوق السكان المحليين.
وطالما ارتبطت قضايا البيئة في الخطاب الحقوقي الدولي بمفهوم الحق في بيئة سليمة، هذا الحق، الذي أقرته الأمم المتحدة مؤخرًا كجزء من منظومة حقوق الإنسان، يجد في مبادرة اليونان اختبارًا عمليًا على مستوى البحر المتوسط، فجزيرة أمورغوس، بما تمثله من تنوع بيئي بحري، ستصبح مختبرًا للتوازن بين حماية الطبيعة من جهة، وضمان حقوق الصيادين والسكان المحليين من جهة أخرى.
ووفقًا لتقرير نشرته، اليوم الأحد، صحيفة "فايننشيال تايمز"، لا تقتصر الإجراءات التي أعلنتها الحكومة اليونانية على حماية الشعاب المرجانية أو تقليص الصيد الجائر، بل تمتد لتشمل برامج تأهيل مجتمعية تهدف إلى إشراك السكان في صياغة السياسات البيئية الجديدة، وهنا يبرز البعد الحقوقي الأساسي: أي إن السكان ليسوا مجرد متلقين لقرارات حكومية فوقية، بل شركاء في رسم مستقبل بيئتهم وسبل عيشهم.
سياق إقليمي ودولي مُعقد
تأتي التحركات اليونانية في سياق إقليمي ودولي بالغ التعقيد، فالمتوسط لم يعد مجرد فضاء بحري، بل صار ساحة تتقاطع فيها مصالح الطاقة، الهجرة، والأمن الغذائي، وفي ظل التغير المناخي، الذي يهدد بارتفاع درجات الحرارة ونقص التنوع البيولوجي، يصبح سؤال: "من يملك الحق في إدارة الموارد البحرية؟" أكثر إلحاحًا.
تضع جزيرة أمورغوس، بموقعها الاستراتيجي، اليونان في قلب هذا الجدل، إذ إن إعلان محمية بحرية بهذا الحجم قد يُقرأ في بعض الأوساط كونه خطوة لتعزيز السيادة البحرية، في منطقة تتسم تاريخيًا بالنزاعات الحدودية.
لكن من منظور حقوقي، فإن ما يهم هو ضمان ألا تتحول حماية البيئة إلى غطاء لإقصاء المجتمعات المحلية، أو أداة لتعزيز نفوذ سياسي على حساب حقوق الآخرين.
العدالة المناخية
ولا يعد إنشاء محميات بحرية مجرد شأن بيئي محض، بل هو جزء من العدالة المناخية العالمية، فالدول الصغيرة أو النامية كثيرًا ما تدفع ثمن سياسات بيئية لم تكن سببًا في التدهور الذي استدعى فرضها.
بالنسبة لليونان، فإن تسريع خطواتها نحو بلوغ أهداف "30×30" يضعها في موقع ريادي، لكنه يفرض عليها أيضًا مسؤولية كبرى في ضمان أن هذه الإجراءات لا تُثقل كاهل السكان المحليين أو تعوق حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية.
ووفقًا لتقرير نشرته "الغارديان"، تتمثل المشكلة في كيفية تحقيق التوازن بين الالتزامات الدولية التي وقعتها اليونان، والحقوق اليومية الملموسة للأهالي، فمنع الصيد في مناطق واسعة مثلًا، وإن كان يخدم البيئة على المدى الطويل، قد يعني فقدان مصادر رزق فورية لعائلات تعتمد على البحر مورداً أساسياً للعيش.
الشفافية والمشاركة
في هذا السياق، يكتسب موضوع الشفافية أهمية مضاعفة، فالإعلان عن المحمية البحرية ترافق مع وعود بإنشاء آليات تشاركية تتيح للسكان وأصحاب المصلحة التعبير عن مخاوفهم واقتراحاتهم، وهذا يتوافق مع المبادئ الحقوقية التي تؤكد أن الحق في المشاركة جزء لا يتجزأ من الحق في التنمية والبيئة.
ولعل أبرز ما يختبره مشروع أمورغوس هو ما إذا كانت الحكومة ستتمكن من تحويل الخطاب إلى واقع، بحيث يشعر المواطنون بأن أصواتهم تُسمع بالفعل، وأن السياسات البيئية ليست مفروضة من أعلى بقدر ما هي ثمرة نقاش مجتمعي واسع.
ولا يمكن فصل إعلان اليونان عن سياقه الجيوسياسي، فالمتوسط ليس فضاء بيئيًا فحسب، بل هو أيضًا مسرح تنافس بين قوى إقليمية ودولية، سواء فيما يتعلق بالطاقة أو طرق الملاحة أو النفوذ السياسي، من هنا، فإن إنشاء محمية بحرية قد يُنظر إليه كونه جزءاً من لعبة توازنات القوى، وفقًا لتقارير "يورونيوز".
لكن القراءة الحقوقية تفرض سؤالًا مختلفًا: كيف نضمن أن هذه المبادرات لا تُستغل لتبرير ممارسات قد تؤدي إلى انتهاك حقوق المجتمعات الضعيفة، سواء تلك التي تعيش في الجزيرة أو تلك التي ترتبط مصالحها بالبحر في مناطق أخرى من المتوسط؟
مختبر حقوقي لمستقبل المتوسط
في النهاية، تبدو جزيرة أمورغوس وكأنها مختبر حقوقي-بيئي لمستقبل المتوسط، فهي تُجسد التحدي القائم بين حماية الطبيعة وصون حقوق الإنسان في آن، فالمحميات البحرية ليست مجرد خطوط على الخرائط، بل هي منظومات متشابكة من القوانين والسياسات والعلاقات الاجتماعية.
وإذا نجحت اليونان في جعل أمورغوس نموذجًا لـ"الحماية التشاركية"، فإن التجربة قد تتحول إلى مرجع لدول أخرى في المنطقة، أما إذا أخفقت، فقد تصبح المحمية عنوانًا لصراع جديد بين الطموحات البيئية والحقوق الإنسانية.
ومع اقتراب العالم من موعد 2030، فإن التجربة اليونانية تضعنا أمام سؤال جوهري: هل يمكننا حماية كوكبنا دون أن نفرّط بحقوق الناس الذين يعيشون فيه؟ أم أن الطريق نحو البيئة المستدامة سيمرّ، مرة أخرى، على حساب الفئات الأكثر هشاشة؟