انبعاثات قياسية وبيانات قاتمة.. اقتصاد الفحم ينتصر على وعود الصفر الكربوني

الكوكب يسير نحو عصر الاختناق المناخي

انبعاثات قياسية وبيانات قاتمة.. اقتصاد الفحم ينتصر على وعود الصفر الكربوني
الفحم والطاقة النظيفة

تتصاعد الأزمة المناخية بوتيرةٍ تنذر بانهيارٍ شامل لمنظومة العدالة البيئية والحق الإنساني في بيئةٍ آمنة وصحية، فبحسب تقارير حديثة بلغ استخدام الفحم في عام 2024 مستوىً قياسيًا جديدًا، في الوقت الذي ارتفعت فيه انبعاثات غازات الاحتباس الحراري إلى أعلى مستوياتها في التاريخ البشري.

يكشف هذا الواقع القاتم أن العالم لا يسير نحو أهداف اتفاقية باريس للمناخ، بل ينزلق بعيدًا عنها، تاركًا وراءه التزاماتٍ لم تعد كافية لإنقاذ الكوكب أو صون حق الإنسان في العيش على أرضٍ قابلة للحياة.

تُظهر بيانات "الغارديان" أن حرق الفحم، أكثر مصادر الطاقة تلويثًا، سجّل زيادةً عالمية خلال العام الماضي 2024 رغم النمو المتسارع في الطاقة المتجددة، ورغم انخفاض نسبة الفحم في إنتاج الكهرباء العالمي، فإن الطلب المتزايد على الطاقة دفع لاستخدامٍ أكبر للفحم في محطات التوليد، وأكد التقرير السنوي عن حالة العمل المناخي أن محاولات التخلص التدريجي من الفحم "لا تزال بعيدة عن المسار الصحيح" للعام الخامس على التوالي.

لا نتحرك بالسرعة الكافية

قالت كليا شومر، الباحثة المشاركة في معهد الموارد العالمية، في تصريحاتٍ أوردتها الصحيفة: "نسير في الاتجاه الصحيح لكننا لا نتحرك بالسرعة الكافية.. الرسالة واضحة وضوح الشمس: لن نحدّ من الاحتباس الحراري إلى 1.5 درجة مئوية إذا استمر استخدام الفحم في تحطيم الأرقام القياسية".

ويُشير التقرير إلى أن اعتماد العالم المستمر على الفحم يقوّض الهدف العالمي بالوصول إلى انبعاثات صفرية بحلول عام 2050، وهو الهدف الذي يمثل الحد الأدنى لحماية الأجيال القادمة من موجات الحرارة المتطرفة وذوبان الجليد وارتفاع منسوب البحار.

ورغم تعهّد الحكومات خلال قمة المناخ لعام 2021 بالتخلّص التدريجي من الفحم، تُظهر الأرقام أن بعض الدول تمضي في الاتجاه المعاكس، ففي الهند، احتفل رئيس الوزراء ناريندرا مودي بتجاوز إنتاج الفحم مليار طن، بينما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب دعمه العلني لاستخدام الوقود الأحفوري، أما في الصين، فالتوسع في إنتاج الفحم لا يزال يغذّي شبكة الكهرباء التي تُشغّل نصف المركبات الكهربائية الجديدة في العالم.

لكن الصورة لا تقتصر على الفحم وحده، إذ تكشف "أسوشيتد برس" في تقرير لها أن مستويات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي بلغت خلال عام 2024 أعلى معدلٍ منذ بدء القياسات العلمية، في مؤشرٍ مقلق على أن الكوكب يسير نحو نقطة اللاعودة، وتؤكد الوكالة أن ارتفاع الانبعاثات بهذا الشكل يمثل "تهديدًا مباشرًا للحق في بيئةٍ آمنة"، خاصةً أن آثارها تطول المياه والغذاء والصحة العامة في البلدان الفقيرة أولًا.

ويشير التقرير إلى أن الحق في البيئة لم يعد قضية بيئية فحسب، بل بات قضية حقوق إنسان أساسية، بعد أن اعترفت الأمم المتحدة رسميًا في عام 2022 بالبيئة النظيفة والمستقرة كمكوّن من مكونات حقوق الإنسان العالمية، ومع استمرار الانبعاثات، تتزايد التهديدات للحقوق الأخرى مثل الحق في الصحة والمأوى والغذاء والمياه.

العجز عن وقف إزالة الغابات

تُظهر بيانات "أسوشيتد برس" أن "مصارف الكربون" الطبيعية مثل الغابات والأراضي الرطبة والمحيطات لم تعد قادرة على امتصاص ما يُنتجه البشر من غازاتٍ ضارة، فقد فُقد في عام 2024 أكثر من 8 ملايين هكتار من الغابات، ما يعادل نحو 20 مليون فدان، وهو رقم يعكس عجز العالم عن وقف إزالة الغابات رغم الوعود المتكررة.

ويشير التقرير إلى أن العالم بحاجة إلى تسريع الجهود تسع مرات على الأقل لوقف هذا النزيف البيئي.

وبينما تتباطأ سياسات خفض الانبعاثات، يتزايد الطلب العالمي على الطاقة بشكلٍ يجعل التحول إلى مصادر نظيفة أكثر تعقيدًا.

وتوضح الغارديان أن الطاقة الشمسية تمثل "أسرع مصدر للطاقة نموًا في التاريخ"، إلا أن معدل نموها لا يزال أقل من المطلوب لتحقيق أهداف خفض الانبعاثات بحلول نهاية العقد الجاري.

وتضيف الباحثة صوفي بوم من معهد الموارد العالمية أن "الهجمات السياسية على الطاقة النظيفة في الولايات المتحدة تجعل تحقيق هدف اتفاق باريس أكثر صعوبة، لكنها لن توقف التحول العالمي الذي أصبح مدفوعًا بالأسواق والاقتصادات الناشئة".

بطء التحول في أنظمة الطاقة

ويحذر التقرير من أن بطء التحول في أنظمة الطاقة والبناء والنقل يهدد بترسيخ عدم المساواة المناخية، حيث تدفع الدول الفقيرة الثمن الأكبر لانبعاثات الدول الصناعية، فالفيضانات والجفاف وحرائق الغابات لا تفرّق بين حدود الدول، لكنها تصيب الأضعف أولًا.

وهنا يبرز البعد الحقوقي للأزمة: من يتحمّل مسؤولية حماية الإنسان من آثار نظامٍ اقتصادي يستهلك الأرض ويقايض الهواء النظيف بالربح السريع؟

في الوقت نفسه، تُظهر الأرقام أن كهربة النقل تسير بخطى أسرع من بقية القطاعات، إذ كانت واحدة من كل خمس سيارات جديدة مبيعة في عام 2024 كهربائية، وفي الصين اقتربت النسبة من النصف، ومع ذلك، تحذر "أسوشيتد برس" من أن هذا التقدّم الجزئي لا يكفي طالما أن الكهرباء المنتجة لتشغيل تلك المركبات لا تزال تعتمد على الفحم والغاز.

يقترب العالم اليوم من قمة المناخ المقبلة "كوب30" التي ستُعقد في البرازيل الشهر القادم، وسط أجواء من القلق والتشكيك في جدوى التعهدات المناخية، فالتقارير تؤكد أن الخطط الوطنية لخفض الانبعاثات غير كافية إطلاقًا للإبقاء على الاحتباس الحراري دون 1.5 درجة مئوية، وهو الحد الذي يصفه العلماء بأنه "الفاصل بين الأزمة والسيطرة"، ومن هنا، يصبح الوفاء بالالتزامات المناخية ليس مجرد شأنٍ بيئي بل واجبًا قانونيًا وأخلاقيًا تجاه الحق في الحياة.

وما بين الفحم وثاني أكسيد الكربون، تتضح المفارقة الكبرى: العالم يعرف الطريق لكنه لا يسير فيه، فالأسواق تتوسع، والاحتباس الحراري يواصل الصعود، أما العدالة المناخية التي تحدثت عنها مؤتمرات الأمم المتحدة منذ ريو دي جانيرو إلى باريس وغلاسكو، فتبدو اليوم أبعد من أي وقت مضى.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية